مذاق الكهرباء
في المستشفى أحاط به الأهل، تحلقوا حول السرير. وجهه مغطى بالشاش الأبيض، يرقد فوق الشرشف الأبيض، يلتحف بالأبيض. الممرضات ، الأطباء يرفلون في الأبيض. غادرته بقية الألوان، زرقة السماء، البحر اللازوردي، وحتى الأخضر، لون النخيل وأشجار البساتين التي تقطعت رجلاه العاريتين في دروبها. الأم تنظر إليه وهو صامت، كلا، لم يكن صامتا ، غير أن قناع الأكسجين كان يغطي الثغر الجميل. عيناها تخاطب عينيه ،سؤال واحد تريد منه الإجابة عليه : كيف تجرأ على اللعبة الخطرة؟ “ ربما كان يراها مثل باقي اللعب، ياحبة عيني ياولدي، النار ليست مثل الماء”. هكذا كانت تردد في نفسها بينما الباقون ملتهون بأكل البسكويت وشرب القهوة، يرون أنهم قد أدوا واجب زيارة المريض وصلة الرحم لذلك هم في نفس الوقت ربما يشعرون بالرضا فلقد زاد رصيد حسناتهم أضعافا مضاعفة. يجول الدمع في عينيها حتى ينهمر على الخدين. سالم فلذة كبدها لم يحفظه اسمه وهاهو اليوم طريح الفراش. لكنها كانت موفقة في اختيار ذلك الإسم، لقد سلمه الله في مواقف كثيرة، لم يغرق عندما قذفه الرفاق في البئر ذلك العام، كعب الزجاجة المتوحش لم يقطع رجله ولكنه نزف وكاد يموت لولا أن حملوه فوق الدراجة الهوائية للمستشفى، التأم الجرح بقيت الندبة تذكارا من زمن الشقاوة. يا أم سالم، ابنك كان عليه الموت منذ زمن بعيد، لم يكن مثل باقي الأولاد، في ” الفريج” كان هو دينامو اللعب، هو الشمعة في الليل، هو صفارة الشوط الأول، شعلة وقادة. سكون الصباحات يتبدد عند خروجه من المنزل. حتى العصافير تنشد لحنها الخاص حين يرمقها بنظرة حنانه. “لو كان مثل سليم صاحبه لكان في مأمن، يجلس في البيت، يساعد أمه ” تحدثت جارتها. ” كثرة نشاطه فتحت عليه العيون، يالكثرة الحساد، كفانا الله” قالت الأخرى. عندما دخل أخوه صعقه المنظر الكئيب. بدأ يثرثر: _كم مرة قلت له الكهرباء ليس لها صاحب ولا حبيب، ولكنه لم يسمع، عنيد في كل شيء. التفتت إليه أمه ووجها ترتسم عليه علامات الحزن : _وما شأن الكهرباء في الموضوع! _يا أمي الحبيبة، ألم تعلمي أنه تعرض لصعقة كادت تقتله، الحمد لله أنه لم يمت. قفز قلبها، أحس به وقد وضعت كفها على فمه كي لا ينطق بمثل هذه الكلمات. ” لم يمت” كانت مثل طعنة في قلبها، شعرت بعمق تغلغلها فيه. وفي البيت تذكرت شقاوته، كم مرة رأته يلصق لسانه على سطح المجمدة الألمنيوم ثم يجذبه فتسيل الدماء. وفي يوم ما لاتذكر في أي شهر قطع سلك الكهرباء بمقص حتى كادت أن تحترق يده، ظل بعدها خائفا من الأسلاك المكشوفة. لكنها لم تعلم أنه عاد لممارسة ألعابه الخطرة. تلك الليلة دثرته بالأحجبة والأدعية. ولاتزال تتدلى من رقبته تلك القلادة السوداء وبها تميمة تحفظ الإنسان مادام في غير معصية كما أخبرتها سلطانة، المرأة التقية، قارئة القرآن وصانعة الأحجبة والتمائم. كم شعر بالأمن والطمأنينة التي تبثها في روحه وهو يعبث بها مفاخرا أمام أقرانه:” تميمة أمي، أيقونة النجاة”. لم تدر كيف تخلت التميمة والحجاب عنه في لحظة الخطر، عندما مد السلك النحاسي إلى مفتاح تشغيل المروحة حتى التصق بملف الأسلاك الداخلية. لحظتها كان ابن خاله في الغرفة وفجأة رآه مقذوفا في زاوية الحجرة، اقترب منه فوجده منكمشا على نفسه، عيناه تنظران في السقف ولم يستطع النطق. بعد مدة لا يدري كم طالت حمله للمستشفى في سيارته كما أخبر أخوه فيما بعد. لازال في مرحلة الخطر، أمه تترقب. كل ليلة تبتهل إلى الله الشافي أن يشفيه، نذرت بذبح بقرة وتوزيع لحمها على الفقراء كما أوصاها الشيخ. صلت جميع الصلوات المذكورة لهذا الغرض. أصبح الجوال يخيفها، تخاف أن ترفعه ذات رنة فيكون الخبر الصاعق. ثلاث ليال كانت من أطول ليال العمر، وفي فجر الثالثة، مزق قلبها إتصال الطبيب. تهاوت إلى قعر حفرة مظلمة فأحتضنها العدم.
# جابر خمدن
جابرخمدن : مذاق الكهرباء
تعليقات الفيسبوك