أسفار النّقطة القمريّة
بين الحديقة السريّة والصحراء العرفانيّة
قراءة في ديوان (مرايا عشق) للشاعرة
مفيدة منصور حشاني
د. أسماء غريب
أن تكون نقطةً فهذا سرّ، وأنت تكون نقطةً خضراء فهذا سرّ آخر، وأن تكون نقطة خضراء وقمريّة، فهذا سرّ الأسرار الكبرى. نعم، فالمرأة العارفة هي السرُّ الأكبر، الّذي لا يقتضي منك أيّها القارئ أن تفهمه، أو أن تفكّ رموزه، وإنّما أن تحاذيه بعين المحبّة، لأنه حاء الحياة الكبرى الذي كلّما حاولتَ فهمها فقدتَ المفاتيح والأبواب. لذا، فإنّ الحاءَ سَفرٌ، والسّفرُ يقتضي ارتداء قبّعة العرفان، ثمّ الدّخول إلى الحديقة السرّية ومنها إلى صحراء الحرف لتطمر نفسكَ تحت قيظ الرّمال والسّراب. من هذا الباب؛ باب السّفر عرفتُ مفيدة الرّوح أو سلوى الخلوة وطائرها المحلّق من سماء إلى سماء، بل عسلها المصفّى.
لا بدّ لكَ أن تكون من أهل الوجد لتراها كما هي، إنّها ليستْ بشاعرة بالمعنى الذي اعتاده أهل الثقافة والفذلكات الأكاديميّة، وإنما هي حرف متبتّل في محراب العشق، وقدْ آلت على نفسها ألّا تغادره، إلّا بعد أن تُفصح لنفسها بنفسها، ثمّ لغيرها عن كينونتها عبر لغة الشّعر والإشارة. لكن والحال أنّي أسمعكَ تسألني أيها القارئ كيف يُمكنُ للعارف أن يفصح عن نفسه بنفسه، أقلْ لكَ لا بدّ من المرآة، وهي عند مفيدة تشظّت إلى مرايا، كلما نظرتْ إلى شظية منها رأتِ الوجود وتعرّفت على مقامها فيه، وهو مقام عشق، ومن هنا عنوان ديوانها (مرايا عشق)، هذه المرايا التي من خلالها تحاول “الشّاعرة” أن تمسك بيد المعرفة، ولكن ليست أيّة معرفة، وإنما تلك التي تأتي من خلال تذكّر ماضي الرّوح الأوّل، والذي لا يحدث إلّا بالدّخول إلى الحديقة السريّة، أيْ إلى العوالم الجوّانية والدّاخلية للذّات العليا المقيمة في القلب العرفانيّ، كما هو واضح في هذا النصّ من ديوانها والذي تقول فيه مفيدة:
((اِكتشفت حديقة عذراء
لم يدسها رجل
ولم تمارس العشق فيها اِمرأة
حديقة من وراء القمر
عكس نورها شرفتي ليلا
بينما ابتهل نجم ساطع
اِسترق النظر
أفشى السرّ للقمر
زاد نوره نورا
واِزداد العشاق عشقا
بحديقة أخفاها القمر نجما
نوره كان جدارا بيننا
وبين البشر))
أيّة قصيدة هذه يا إلهي، لم أقرأ مثلها لليوم في الجمال والبهاء، وقد ولجت بها مفيدة إلى عمق الذّات الإنسانية، فأعطتنا خلاصة الحكمة التي بها اختارَ البارئ الإنسان ليكون خليفتَه على الأرض! هذه الذّات لا يمكنها أن تقيم سوى في حديقة عذراء، وهي تمثّل أعلى مقامات الفردوس المطلق. لكن لماذا القمر في النصّ وأينها الشّمس؟
القمر هو من أهمّ المرايا التي تستخدمها مفيدة لكشف السرّ الإنسانيّ، والمراد به في لغة العرفان القلب لأنه يستمدُّ نوره من الشمس الرّامزة إلى الحضرة الإلهيّة المتجليّة في نصّ “الشّاعرة” بعبارات النّور والعشق الذي هدم جدارَ الشُّركة والشّراكة بين العابد والمعشوق. ومن هذا المنطلق أرى الشاعرة قد ولجت في قصيدتها هذه إلى مقام محو الغيريّة، فلا يوجد أحد سواه، هو الّذي لا إله إلّا هو، عالم الغيب والشهادة.
في نصّ آخر لمفيدة حشاني تظهر مرآة القمر بشكل صريح، وهو النصّ الّذي تقول فيه:
((سألت عني كل النجوم
أين كنت أختفي؟
قلت لم أكن أعلم
أن للقمر بابا
طرقته بأشعاري
فكانت بداية السّمر
أدمنت مثل العشاق
أكرر طول السّهر))
يا لوهج العشق، حينما يتوحّد العاشقُ بمعشوقه! ويا لهذا القمر الذي له باب يطلّ على النّجوم! ويا لهذا القلب الّذي أدمن السّهرَ وهو في مقام المسامرة. أيّ ليل تطرّزه نجوم الحضرة: حضرة عيسى (ع) ومحمّد (صلى الله عليه وسلّم وعلى آله) وحضرة المرتضى عليّ (ع) وسيّد شباب أهل الجنة الحسين (ع). فكيف بالله عليكم اجتمعت كلّ هذه النجوم في قلب سلوى الحياة والفرح!
وإذ تسألني عن حضرة عيسى (ع)، لماذا هي؟ أقل لك لأنّ الشاعرة من أهل الغربة: غربة الجسد وغربة الرّوح: جسد أقام في أكثر من أرض وأرض، وسافر من بلد إلى بلد، بحثا عن الله والرّوح عطشى، حتّى إذا ما وجدته نصبت الخيمة ودكّت الأوتاد في الصحراء وطمرت قدميها في الرّمل الحارق إلى أن أتاها عيسى وبين يديه القرآن، ولسان حاله يقول: إنّني رفيق الغرباء، فاثبتي على الحرف وادخلي كلّ المقامات:
((جلست على حافة سريري
أسرد رؤيتي على مسمعي
تذكّرت أن روحي العذراء توقظني
تعيدني إلى زمني
أعرف أني أنجبت قلبا
بقيت أهزّ ضلعي
أسقط الأنفاس
أعجز عن الكلمِ
يذهلني عالمي أمهد لتمتمة
ترفع قولي نحو السّماء)).
كيف لك يا مريم الرّوح أن تنجبي قلبا اسمه عيسى، وأنت بجسدك نخلة تهزين أضلعها ليتساقط بلح الأبجدية حرفا حرفا، لترصين لنا به كلّ هذا البهاء؟ يا مفيدة إنّي أسميتكِ بنصّك هذا مريم، وقلبك العيسويّ يعيدُ الإنسان الكامل إلى زمن الرّوح الأول. يا مريم، أيتها المبتهلة في محراب العشق بعين تدمع، ووجه ترصّع بالنجم المحمّدي وجسد تلفّع بالكساء العلويّ الحسينيّ وأنت تردّدين:
((وتاج النور في دمي
فأسمع بين جسدي
صوتا يتردّد ولها
خذني إليك
ها أنا أولد عشقا
فيخفقُ قلبي
يصيّرني معه
طيفا واحدا في محرابي
ويرتّل جسدي رعشة الوجدِ
فتحملني انحناءة العشق بين السماء
أذوب ثانية بين موجة الضوء
أراها تتوحد في أنفاسنا
وراء القمر))
قمرك هاشميّ أيّتها السلوى، ومازال لليوم يسقي العطاشى، ويفتحُ لكِ بعصاهُ بحر العشق وقد رآك في مقام الغرق الّذي تخاطبين فيه عين الذّات العليا بصيغة التّذكير وتقولين:
((اُترك يدي
فأنت تسبح في بحري
أخاف إن أنت غرقت تسحبني إليك
دون أن أدري
تعانق قطرات ندى
تنزل كل فجر تصلي على صدري
يلتصق بك عطر مسكي
أسحبك أنفاسي أشمها تحت الماء
أبعد نظرك عني فأنا لا أرى
سوى الغيم ينزل دموعا بعيني
كلّما غمرني عشقي
أفرش قلبي للمطر
فيرتعش صوت الفجر)).
البحر، الغيم، الفجر كلّها مرايا تضاف إلى مرآة القمر الذي تركبه مفيدة وقد لبست قبّعتها ووقفت بالقرب من زيتونة القلب المشع بالأنوار لتقول ألّا شيء يوجد في الوجود أسمى من لغة العشق، ولتقول أيضاً إنّ القمر أنثى لم تُخلق ليفهمها العرفاء أو يشرحوا أسرارها، وإنّما ليحبّوها كما هي لأنّها دليلهم إلى الله.