القراية
حاجباي.. تسمّرا على جدتي وسط حلقة من عشرات النسوة وهي تخمش وجهها وتلطم صدرها قبالة لاطمة أخرى وتقفزان كديكين في حلبة صراع..! وحين انسجم المحيط وصراخهن (حو.. حو) مع وقع ضرب الصدور بخمش الوجهين علت صرخات التوجع وازداد رجع النحيب من الحشد المتكدس فآندغم جو الغرفة الضيقة المكتظة بالبكاء واللون الأسود حتى صار الموت عويلاً ونساءً بعباءات سود وصار الشهداء خيولاً وسهاماً ورقاباً تحزَّ وعطشا أحمرَ على ضفاف فراتية .. كانت كل هذه الأشياء قد انصهرت بعد حين في التهام قطع الكعك والحلوى وعبق ماء الورد الذي نثّ علينا جميعا بعد انتهاء تلك المراسيم العاصفة بمقتل الحسين ! ولاسيما بعد أن وزعّت سيكاير ( المزبّن ) بوفرة وكرم يليقان بعظم المناسبة ومقام صاحبة الدار. أحببتُ هذا الشهيد الذي سَعُدَتْ بعد العياط عليه كل أولاء النسوة .. وأحببت أن أرى مواسم السواد التي تقتحم كل الأزقة، وتقتحم الدور، وتقتحم النفوس فتنير الساحات المظلمة لتغدو مسارح كرنفالات ممتلئة بحزن الشيوخ ومرح الصغار، بمياه السبيل وعشاءات الأسى الباذخ في عاشوراء محرم، أحببت كل ذلك يؤسطر صورة كل شهيد وصورة كل قتيل، بل ويؤسطر كل إنسان يغلفه السواد.. صار لكل شهيد عندي طعم للحلوى، وطعم للرز، وطعم للدخان.
أبو بولة
أحسست بالرطوبة تغمرني، سحبت بطانيتي إلى أسفل وجهي وغرقت في بحر من القلق.. هل سأذهب اليوم مع (جون) ابن الدكتور قسطنطين لنطوف بين البساتين ريثما يعود رياض من بغداد. حلمت به ضاحكا مسرورا يخرج من سلته (النفاخات) التي وعدنا بها لي ولأختي الصغيرة التي نهضت من فراشها وراحت تعبث بعلبة التبغ الفضية التي يتركها جدي على الطاولة قرب سريره. صرخت بها رادعاً لكنها ردّت بسرعة:
– انجب…
فاضطررت أن أصيح بأعلى صوتي:
– جدو .. جدو .. هناء تلعب بقوطية التتن
نهض الرجل العصملـّي على صياحي من فراشه ودغدغ أختي العابثة ثم رفعها وأرقدها بينه وبين جدتي .. وأجابني:
– نام جدو .. معليك بيها
كان جدي وجدتي يتقاسمان معنا غرفة المنام شتاءً، كنت ولأنني الأكبر من أختيَّ أمنح نفسي حق التوجيه والزجر من تحت بطانتي، لكني لم أجسر على القيام من فراشي لضربهما أو منعهما من عبثهما اليومي بعد الاستيقاظ صباحا؛ كانتا تمتلكان جرأة عجيبة على الرد عليّ وإسكاتي بكلمة واحدة ولأيّما سبب وجيه أو غير وجيه ودونما تدخل من جدي أو جدتي بل وأحيانا بضحك الأخيرين عليّ بطريقة ظلت تؤلمني حتى شُفيتُ من رطوبتي !.. تلك الكلمة كانت:
– ( أبو بولة تحتو .. فرشوله وحدو ..)
كنت الأكبر منهما .. بيد أني كنتُ .. ( أبو بولة ) …..!
الخاتون
تأبّدَ خوفي من كل شقراء لتلك التي أسقطتْ أبي من قمة أبراجه المقدسة إلى هاوية ترن بصدى لهاثها وأنينها بين يديه غير عابئَين لبراءتي التي تلوّثت بينهما في خلوة دارنا، ولا هو عابئٌ للهاثٍ وأنين ٍظلّ يمزقني كلما صادفته يزداد خرابا على حافات عمره المنثلم بالزنا والمرض والخيبات المتلاحقة؛ كانت ترتدي فستانها الموشّى بخيوط ذهبية، تصلح من هيئة عباءتها ململمة أذيالها عن الساقين العاجيـّتين، ثم تتناول (جزدانها) الأحمر وتخرج منسلة من باب دارنا الخلفي لتطاردها عيون جاراتنا بكل خطواتها حتى تختفي عن مرمى أبصارهن. يعلمن جميعا أنها قد ارتكبت إثما غير مرغمة عليه إلا بدافع سوء مشجع قبيح يهز أوصالها عند كل اقتراب لساعات الضحى في أيام غير مُعلمة. كنت أشهد ذلك وأشهد في عينيها بريقا يشبه التوق وأتسمّعُ أنينها ولهاثها وأدرك أن أبي سيقدم – غير مرغمٍ – كذلك على مايشين!! انه وسيمٌ وجميلٌ، وهي الشقراء الوحيدة في هذه المدينة، (الخاتون) الأولى بين نسائها، سليلة الساسانيين، العجمية حقا، زوجة مدير الناحية الآمر الناهي على كل من في هذا المنفى.
أربيل…لماذا؟
لأنها خطوة إلى عالم فسيح أكبر، لأنها الغربة في حضن الوطن ولأنها الوطن في المنافي ! تلك أسباب لها ماعليها، ولها وجه خالتي وأبنائها الكرد، أولاد نعمت الشكرجي، سليل برجوازية مضمحلة بأذيال الأغوات؛ صالتان للسينما وكازينو وبقالة حلويات مضمخة بالدهن الحر وكلال السكر الإيراني وألف إعجاب بـِ (سامية جمال)، ولأجلها أقترن نعمت الكردي بشبيهتها (خالتي المصلاوية).. كما أنه مازال يعشق السينما وغرفة ( المكينة) التي يحتفظ فيها دائما بطاولة على صفحتها ربع عرق وصحن باقلاء صغير وقطع من ( النومي حامض) مع علبة سيكاير (كريفن أبو البزون)، جدران ملأى بقامات الراقصات وأوجه الممثلين المليئة بالرغبات العجيبة !! ألفُ حب ٍّ لنفسه وجنرالات حروبه الجبلية!.. يمضي الزمن ونحن أطفال ودمى من الخرق وعجلات من الأنابيب المطاطية وألعاب بلا هويات قومية، لغتنا الرصيف وعداءاتنا اختفاء خلف الجدران وتحت أغطية البراميل، بيتنا يطل على حرية الشارع وعلى فضاءات تتراءى في أفقها ذؤابات الجبال القريبة بجبروتها المطل على ربوة المقبرة القريبة. كنت أحس بامتداد رطوبتي عبر الفراش إلى جدران الدار وعفونة الباب والشوارع المكتسية بالبرد والحالوب. أنها أربيل، الخلاص الذي عاد به أبي من نجيب الربيعي والمنفى بالوجه الآخر لعائلة ربما اكتشفت أخيرا أنها بلا مبادئ.
عربات الحريـر
وأستجاب العصملي لتوسلات أمي في الخلاص من رعب الحبال الحمر ورعب الألسن التي تلوك أبي لعلاقته بتلك الشقراء؛ فانتقلنا إلى أربيل بيد أنه راح يناصبها العداء لأنها فوتت عليه ذلك الطريق الوردي إلى المعيدية (فرحة) .. وبتلك التفاصيل اليومية صار الشجار بينهما عادة مستديمة، فلأيّما سبب يتشاجر ويتحدث ويصرخ ولا يصغي.. ووسط كل ذلك تُرعبُ براءاتُنا. نهرب أنا وهناء إلى المقبرة القريبة على الربوة نلتمس بين شواهدها لعبة الاختفاء ونرى العالم بشكل آخر. أعتاد الكردُ زرع الزهور على صفحة القبور فكنا نُؤخذ ُ بالسعادةِ ونحن نقفز بين العبق والألوان، ثم نختار منً لا زهور عليه، نمتطيه حصانا ونغير به نحو الجبال باتجاه لا شمس فيه ولا شِجار..! حتى مرّ رتل الغجر، حميرٌ وبغالٌ ورغبات، أطفال ونساء وثلل من الرجال. ظللنا نرافق هذا الخط المختلط بالأشياء والكائنات وسرنا نتبعه بهدوء من دونما دعوة. فجأة ً.. تخلّفتْ إحداهن ووقفت تتفحص وجه (هناء) وشعرها، ثم تركتها وعادت مسرورة مسرعة إلى القافلة .. وسرنا نتبعهم بهدوء من دونما دعوة ..! صارت المقبرة والربوة ضئيلتين عن مرمى أبصارنا ونحن نترك خلفنا آثار الخطى بآتجاه الجبال. قالت (هناء):
– نـِرجعْ
قلتُ:
– كلا
– نرجع
– لا
– زمال
– زمالة
غير أن الريح في هذه اللحظة التي نأتْ فيها الشمسُ تلتمس الغروب عن كل الأشياء؛ حملتْ صدى صوتين بعيدين وألوتْ رقبتينا بأتجاه سمتين لرجل وآمرأة يركضان محاولان اللحاق بقافلة الغجر التي ما أن لمحتهما حتى راحت تغذ خطو الهروب تاركة إيانا نلتقف أحضان جدي العصملي وجدتي بلهفة ودموع مازالت تهزّ ُ أوصالي كلما لمحتُ غجراً أو سمعتُ صدى غناءٍ ومواويل متخمة بالرغبات.
المهاجرون
وغنينا أن لابدّ من (عروس لهذا المحروس الأسمر).. كنا في الطريق إلى تخوم الجبهة المشتعلة وكان المحروس أكثرنا فرحا وسعادة بكلمات الأغنية، أما نحن؛ فما كنا نعلم مبررا واحدا لألتصاقنا به سوى محبتنا لامتلائه بالعشق. ثم مرت ثلاثون عاما، هاجر أحدنا إلى (أستراليا) وبقيت أنا في (تكريت) أشارك أهلها شجن حرمانهم من شواطئها، بعيدا وسط عشرات المحبين، وبعيدا عن حاراتي المندثرة في بدرة وأربيل وكنعان وبعقوبة وبغداد، حتى أني بكلمة واحدة لاأقوى على تجميع صورة ما لطفولتي ..! أما المحروس الأسمر، فكان المجنون الذي ضيّع كل شئ لأجل امرأة ظلّ ينطرها إلى آخر العمر متسائلا ً، لم َ كبرتُ؟ لمَ ضيّعتُ نهاراتي؟.. وها نحنُ أصبحنا كلّ ٌ تحت نجمة .. كلّ ٌ بأرقه ِ .. كل بخذلاناته … يـاه … كم جمّعـَنا الحبُ؟! وكم سارعنا في احتواء الأرض لأجل بقعة غريبة نتوهم صلابتها تحت أقدامنا المتعبة.
العنبة الهندية
في السينما،كانت لنا المقصورة – اللوج – تمتلئ بالكرزات والجبس وقناني الكوكا كولا وتعليقات أمي غير المنقطعة عن آفا كاردنر وإليزابيث تايلور وأيفون دي كارلو، ثم لفـّات العنبة الهندية بالبيض المسلوق وشرائح الطماطة..إنه ذلك المزيج الأسطوري الأصفر المضمخ بالفلفل الحار وقطع اللب الذي تأبـّدَ قرينة ً لاهوية لصالة عرض أفلام لي من دونها، لطالما ظللتُ أتحرقُ شوقا ً لتلك الظلمة المفاجئة والصفير الصاعق ومقدمات الأفلام السريعة.. لتلك النكهة الحريفة والمذاق اللاذع ؛ حتى أن رياض وهو مصابٌ بجراحه في مستشفى مندلي كان لايني يذكـّرني – على الرغم من آلامه – كيف كنت أصيح على بائعها في صمت الصالة وظلمتها:
– تعال أبو العنبة..
بلا استئذان منه أو حساب لجيبه الذي يعود به خاليا ًتكـّرما ً لي بالعنبة الهندية.. كيف تسنى له أن يتذكر شهيتي لها على فراش جراحه بلغم بتر نصف كف قدمه اليسرى؟
قال فجأة:
– تتذكر سينما سيروان في أربيل؟
– نعم أتذكرها تماما ً
– كنت أكثرنا سعادة بأفلام الحروب
– نعم ومازلتُ
– لاتخدعنك أفلام الحروب، فالموت لا يحتمل مزاجنا، دعني أقـّبلـُك أيها العزيز.
وراح بعد هنيهات في إغفاءة عميقة !..
تمنيت ُ أن لا تجتمع نكهة العنبة الهندية التي ذكـّرَنيها رياض ونكهة المعقمات وعطن أكياس الرمل التي حـُصـِّنـَتْ بها شبابيك مستشفى مندلي .. بنكهة أخرى، مقرفة تماما، كان لابد من ألإحساس بها كلما تذكرت سعادتي بأفلام الحروب.
الشوفرليت 58
لن تتحداني على شدة التصاق انحناءات الجدران بباب الدار في مخيلتي أي أرقام، ذلك أن أنصاف الأقواس بقيت تحيط بكل الأشكال الدائرية للقلاع والسقوف المحدبة والأبراج وتكورات سراويل الكرد وعمامات رجال الدين، لكنما ظلت عقالات الأعراب وحدها عصية على التآلف مع الشحنة الذاكراتية .. ربما لأن الألتصاق ظل منوطا بنكهة اللبن الصباحية في أربيل !
يعصف صوت منبه سيارة (نعمت علي الشكرجي) أمام إنحناءات الجدران المحيطة بباب الدار فيتضخم الصدى بأنغلاقه في المجاز الضيق لا ليوقظنا حسب ولكن ليسرع بنا الى جولة معبئة بالتجدد في كل لحظة من أعمارنا أنا وأختي هناء. نتبوأ ُ مقاعد الصدر في سيارته الشوفرليت 58 الحمراء ونطوف في نطاق حول القلعة المتسامقة، ثم ينثني بنا الى المستشفى لنغني أناشيد مرتبكة أمام (منعم) ابن خالتنا (سعاد) الراقد بشلل الأطفال في ردهة خالية من الطفولة. يشاركنا الطفل المعاق بكردية بريئة غناء الأهزوجة:
– كريمة .. زعيمة، كريمة .. زعيمة
إن نعمت علي الشكرجي، زوج خالتي، سليل ظهور الجبال العنيدة والبرجوازية المضمحلة مازال عنيدا كصلابة قفا أجداده، يعيش وينفق العديد من الأولاد على مصائر كثيرة .. أغلبها لم يعد مجهولا.
السياسيون الكبار
فوجئنا بضحكاته المجلجلة ونفسه المتقطـِّع من شدتها، الجد العصملي ينادي بكلمات نصف منطوقة وقد دمعت عيناه من فرط قهقهاته المتلاحقة. (نريد استقلال كردستان)، خُطـَّت باللون الأحمر على واجهة دارنا في اربيل؛ ولما كان الجد العصملي هو المنوط بكل إجراءات العائلة السياسية فقد فسّر لنا وجه المفارقة المقترنة بوجود الشعار على جدار دارنا بالذات.. متسائلاً من سيصدق لحاق اللون الأحمر بنا من بدرة إلى أربيل..!؟ لكنه حسم الأمر بوعي تاريخي مباشر، ذلك أنه بكـَّرَ في صبيحة اليوم التالي وقد خط َّ باللون الأزرق على واجهة الدار (منحتكم استقلال كردستان)..! ترتب على كل ذلك أن أجمعت كافة فصائل الحركة الكردية عبر مخيلتها الشعبية في أربيل على وطنيــــــة (العصملي) وضرورة ارتدائه الزي الكردي الخاص بالمدينة كلما تسنى له ذلك لاسيما في الدعوات التي ستقام لأجله، وأن يسمح لهم بزيارته في الأوقات التي يراها ملائمة ليكمل لهم أقاصيصه عن الحرب العظمى وعظمة آل عثمان المتأخرين ومناقب سندرسن باشا، ثم اتفقوا جميعا على التنازل عن استقلال كردستان إلى المطالبة بالحكم الذاتي جبراً لخاطره العزيز عليهم..! إلا أن كل ماتقدم لم ينقطع لحد الآن بفضل مؤازريه من أجيالهم اللاحقة.