رواية نزف المسافات
صالح البياتي
الفصل التاسع ح 3
اللقاء مع الخماش
كان نوح يتأمل أثناء الإفطار، حمرة الشاي الداكنة، من خلال الإستكان الشفاف، انتبه حين قال حسن، لا تفكر يا صديقي فلها مدبر، ابتسم، رفعه وأدناه من شفتيه، فاجأه القاضي بسؤال لم يتوقعه، يريد ان يعرف ان كان قد تلقى خبرا عن والده، وانه فكر به ليلة البارحة، ادهشه سؤال القاضي، قال لنفسه من يكون هذا الأب الذي يسألني عنه ويفكر به، اعاد استكان الشاي لمكانه، انسيت سيدي القاضي ان ابي مات منذ كنت طفلا، وأن امي هي التي ربتني ورعتني حتى كبرت، اكد القاضي انه يعرف ان موسى الكيال هو ابوه الحقيقي منذ زمن بعيد، لأنه إتمنه على وصيته، وقد حان الوقت ليسلمها اليه، تساءل نوح بنبرة فيها شئ من العتاب، لماذا إذا لم تخبرني عنها من قبل سيدي القاضي. كان عذر القاضي أن الوصية تنص على الإخبار في حالة الوفاة فقط. وكان رد نوح، فهل تأكدت بنفسك من وفاته سيدي القاضي. لا أستطيع أن اجزم بذلك..ولكن تناهى لسمعي انه سُفر الى ايران، غيابه يلح عليَّ أن ابرئ ذمتي، واخبرك أنك وريثه لأملاكه؛ المطحنه،مخزن الحبوب وبيته في السبع قصور، كلها لك وحدك. وماذا ابقى لابنه الأكبر الدكتور ممتاز.اوه.. الكثير.. بيته في حي المنصور وعقارات ومحال تجارية في بغداد، انت لا تعلم حجم ثروته. اعلم، ولكن إن لم يمت حتى الآن، فإنه سيموت في ايران فقيرا وغرييا. مستحيل ابوك تاجرذكي، يحتاط لليوم الأسود.. سآتيك بالوصية.
غاب دقائق، فكر نوح أثناءها بهذه الثروة التي هطلت عليه من السماء، لو انها جاءت قبل سنة او اكثر قليلا، لتمكن ان يحقق حلمه العتيد بنيل الدكتوراه من أشهر جامعات العالم، كامبردج، أكسفورد، هارفرد.. ولكن الحلم فقد سحره، راح يخاطب نفسه، ما جدوى الشهادة والثروة، عندما يكون المرء مذعورا، كفأر في مصيدة، أمام الخماش وزمرته البوليسية، ما فائدتهما عندما يهان ويضرب الأستاذ مقبل امامه، دون ان يحرك ساكنا.
ولكن بهذه الثروة سأعيش مع سيناء حياة سعيدة.
عاد القاضي بالأوراق وسلمها اليه، شكره وانصرف، في طريق عودته بسيارته للبيت، فكر ببيع المطحنة لأنها خرجت عن الخدمة، وتحويل ارض مخزن الحبوب، الى مجمع سكني، سيترك منزل الكيال للرجل العجوز وزوجته يعتنيان به.. اما بيت الأم ، فلن يفرط بحجر واحد منه، حتى يتهاوى انقاضا من تلقاء نفسه، وسيأتي اليوم الذي يعود اليه حاجا، كما يحج المسلمون الى الكعبة، والمسيحيون لبيت المقدس.
استدعى حسن ذكرياته الجامعية مع صديقه، عندما كانا يسكنان معا في دار الطلبة، حكى لأبيه جانبا من تلك الذكريات القديمة، عن نوح الماركسي آنذاك، ثم الوجودي، الذي قرأ كتب سارتر، سيمون دو بوفوار، البير كامو، ثم عكف يقرأ بنهم كتاب فردريك نيتشه هكذا تكلم زرادشت، وتأثر بفلسفته التشاؤمية.
سكت حسن، توقف عند تلك النقطة، من شريط ذكرياته في أوائل الستينيات، قال لنفسه.. هنا يجب علي ان اتوقف، لئلا يزل لساني بشيء، وافضح اسرار صديقي للسيد الوالد، انا مؤتمن على حفظها، شجعه القاضي ان يستمر عندما توقف.. استمر، هل كانت لديكما اسرار. ليس لدينا اسرار.. هذا كل ما أذكره. لا..لا استمر، اريد أن أعرف كل شئ، هل كانت له علاقات نسائية. طبعاً.. كأي شاب كان في نفس عمره. ابتسم القاضي، أتخاف أن تفضح نفسك يا حسن، من خلال الحديث، لكن لا بأس تكلم، للشباب نزوات، ولستما استثناء، إنها الطبيعة البشرية، أحب أن أعرف كل شئ.
في تلك اللحظة رن جرس التلفون، فانتهز حسن الفرصة ليتهرب، رفع السماعة، وبعد إنهاء المكالمة، استأذن، متذرعا بضرورة مغادرته فورا، وبتلك الحيلة التي لم تنطل على والده طبعا، تخلص من موقف حرج، قال في نفسه، في طريقه لمكتبه، كدت افضح صديقي، لأن والدي القاضي لن يكف حتى ينتزع مني المعلومات التي يريد معرفتها، فأضطر ان اقول، كنا نذهب لبيت.. نشرب ونلهو، كل منا يختار واحدة ينام معها، كان نوح يعرف واحدة ليست جميلة، يختلي بها وقتاً أطول منا، ولكنني عرفت منها، أنه كان يتحدث معها طوال الوقت، من دون ان يمسها، ينصحها أن تترك مهنة البغاء، يعطيها نقودا أكثر منا، كانت البنت تحبه، وحكت لي انه كان يبكي كل مرة يأتي اليها، وحلفتني واقسمتُ لها، ان أكتم سرهما، فلو كشفته لأبي الآن، لحنثت إذا بقسمي والعياذ بالله، ولقال ابي، عجيب.. هل يعقل أن يكون نوح عاجزا، وعند ذلك سأضطر الى نفي عجزه الجنسي، وسأحكي له أنه كان يريد اقناعها أن تترك المهنة كي يتزوجها، ونجح فعلا وعاشا معا في شقة صغيرة، لكن عاد يوما ولم يجدها، ذهب يسأل عنها، فطردته القوادة التي تدير البيت، وهددته بالشرطة، إذا جاء مرة آخرى، شتمها وبصق في وجهها.. هذا هو صديقي نوح الذي عرفته زميلاً في الجامعة، وصديقاً احبه.. يحب الناس البسطاء.
لم يخرج نوح من بيته تلك الليلة، وعندما ذهب لينام في ساعة متأخرة، نزع سترته ورماها على السرير، فسقطت السكين التي خبأها بملابسه، برق نصلها تحت ضوء المصباح، دفعها بقدمه تحت السرير، تراجع للوراء، تساءل أكان فعلا ينوي قتل الخماش! اجاب على تساءله، لا يليق بي ان افعل ذلك، فقتله لن يغير شيئ. سقطت فكرة قتله كما تسقط ورقة خريف ميتة..
كان أول قراراتخذه بعد تخليه عن فكرة قتل الخماس، الاعتكاف غدا الجمعة قبل طلوع الشمس وحتى الغروب، يتأمل حياته، يراجع ملفاتها بهدوء ومزاج رائق، عندها ستكون النتيجة جيدة، ومضمونة مئة في المئة، لحل جميع مشاكله الشخصية والنفسية دفعة واحدة. رن التلفون بينما كان مضطجعا في سريره، مستغرقا في التفكير، قام والقى نظرة خاطفة على ساعة الجدار، كانت الواحدة بعد منتصف الليل، فقرر ألا يرد، وهو لا يعلم ان سيناء كانت على الطرف الآخر من الخط، تحاول يائسة الاتصال به، مرة او مرتين، منذ ان غادر بغداد، وكانت تلك المحاولة السابعة الفاشلة..
تساءل في تلك اللحظة عن سيد هارتا، حين غشاه التيقظ، فصار بوذا، تَذكُرْ الرواية، انه رأى الحقيقة ساطعة كالشمس في رائعة النهار.. لكن بوذا عندما عجز في الواقع كإنسان، عن إيقاف عجلة الولادة والموت من الدوران، واللتان هما سبب كل الآلام، التجأ للنيرفانا كوسيلة لتخفيف الألم وليس الخلاص منه..
اما ارنولد توينبي فتحدث عن الانسحاب والعودة، في كتابه دراسات التاريخ، بطريقة علمية، فالذين مروا بتلك التجربة، خرجوا منها بفائدتين متلازمتين؛ التأمل والتفكير العميق بأحوال الناس السيئة، ثم العودة لتغييرواقعهم للأحسن، وقد استلهم الأنبياء هذا المنهج.
أنتهى تأمله بهذه الأفكار.. لم يحدث شيء مثير للدهشة، عدا انه كان مسترخيا، يستمع لمقطوعات موسيقية لأشهرالمؤلفين الكلاسيكيين، وخاصة بيتهوفن الذي يحبه..
وعندما رن التلفون في الثامنة مساء، أفزعه الصوت، وخز ذاكرته، فرقع فقاعات الخوف، لكن وجود امرأة جميلة كسيناء في حياته، جعل قلبه يخفق سريعا، تمنى لو انها في تلك اللحظة على الطرف الآخر من الخط.. أنب نفسه لأنه لم يتصل بها طوال الأسبوع الماضي، سوى مرة واحدة.
ألصق السماعة على اذنه، فوجئ بالخماش يعزيه بوفاة المرحومة، انتهت المكالمة القصيرة سريعا، تساءل نوح، ما الذي ذكَّره بي، ولماذا يريدني ان اراه غدا، فهو منذ توليه منصبه، لم يحافظ على العلاقة التي كانت بيننا، وماتت عندما لم يف بوعده بإطلاق سراح الأستاذ مقبل.. ماذا يريد مني هذا الوحش.. قرر رغم ذلك ان يذهب، كان مجرد التفكير بتلك الدائرة التي يطلق عليها الأمنية إعتباطا، يثير القاق والإضطراب النفسي.
استقبله الخماش في مكتبه، جلسا وجها لوجه، تفصل بينهما منضدة مغطاة بلوح زجاجي شفاف، ترك الخماش مسدسه في وسطها، وخلفه على الجدار المقابل لنوح، صورة كبيرة لرئيس الجمهورية.
عرف نوح الخماش، في أواخر الستينيات، كان آنذاك موظفا صغيرا في دائرة الأحوال المدنية، غريبا عن المدينة التي حل فيها مبعدا سياسيا، ونزيلا بفندق عادي في شارع الدجلة، كان الأستاذ نوح آنذاك مديرا لمصرف الرافدين، وقد اسدى لسليم الخماش خدمات كثيرة، عرَّفه على اصدقاءه، ودعاه الى بيته، ساعده ماليا احيانا، لكن سليم الخماش لم يكن حريصا على سمعة صديقه، إستغل اسمه باقتراض أموال تافهة، من هنا وهناك، كان ينفقها على الخمرة والقمار، وحفلات الغجر الراقصة، يتوارى او يماطل عند المطالبة، فيضطر الأستاذ نوح لتسديد ديونه..
كان يتملق الناس بتقبيلهم بمناسبة او بدونها، ثم ابطل هذه العادة، بعد ان تعين في منصبه الحالي، فتحول الى شخص مغرور ومتعجرف، لكنه احتفظ بعادة سيئة آخرى، مد يده عندما يعجبه شئ يراه، بمجرد ان يقول الشخص ” قدامك تفضل “، يخطفه من يده، فراح الناس لا يظهرون اشياءهم الثمينة امامه، خاصة إذا كانت سبح الكهرب، لان خرزها الصفراء كانت تسلب عقله، اما وقد تولى منصبا هاما، فكان لا ينتظر الضوء الأخضر، تكفي نظرته المتلصصة الماكرة، اشعارهم أنه يعرف اين يخبئون اشيائهم، فيسلمونها اليه طوعا، فصار الخماش مضرب الامثال..
هذا باختصار شديد تاريخ الخماش العلني، اما السري فلا يعلم به الا الله.. كان يتباهى امام الناس بأنه من أقرباء الرئيس، أي بالتعبير الميساني: (واحد من ِحبالْ المُضْيفْ)*
سأل الخماش نوح لماذا لم يقم مجلس عزاء للمرحومة، كما جرى العرف على ذلك، فكان جواب نوح انه تبرع بنفقته لمساعدة امراة فقيرة، وعندما استوضح من، اخبره هي ام الشهيد الضابط حنون، تبجح الخماش بكرم الرئيس لأسر الشهداء، رد نوح ان ما قام به كان مساعدة انسانية، لجارة قديمة. انتهز الخماش الفرصة لإظهار وطنيته، بأن كل العراقيون مشاريع استشهاد من اجل الحزب والثورة. رد نوح والوطن ايضا.
نظر سليم لنوح شزرا من زاوية عينه، باستخفاف وتكبر..
نقل نوح الحديث، تكلم عن عدنان، وقال انه استشهد بنفس الوقت. تساءل الخماش اهو الشاب الطاووس، المتأنق دوما كالبنات. انا اعرفه سيادة المدير اكثر منك..هو ابن محلتي وكان.. قاطعه سليم بخشونة. اعرف استاذ نوح.. تقييمك قائم على الشكل والمظهر، وليس على الشجاعة والرجولة. استاء نوح من كلامه، رد عليه، هذا الشاب سفرتم اهله، بينما كان يقاتل الإيرانيين في الجبهة، والمحزن في الأمرانهم لا يعرفون بإستشهاده. قاطعه سليم مرة أخرى،مبتسما بخبث، استعرض امامه تلك الحركة المزعجة، التي يشمئز منها نوح، مسح زاويتي فمه من الأعلى للأسفل بإنملتي السبابة والابهام، يفعلها لمجرد عادة مستحكمة، فيكررها بين الحين والآخر، وهو مستغرق في الحديث دون ان ينتبه لذلك.. بدأ يشمت بعدنان وأهله المسفرين..لا تحزن عليه.. فالذين شملهم مبدأ وحدة العائلة، إجتمعوا بذويهم وراء الحدود، وهم المحظوظون، اما الآخرون فسيجتمع شملهم في دار الآخرة، فاذا كانوا اخيارا اجتمعوا في الجنة وإذا كانوا اشرارا اجتمعوا في النار.. والله أعلم أين سيجتمع الطاووس بأهله!
فكر نوح ان جدلا مفتوحا بلا حدود، مع سليم الخماش، سينتهي حتما الى مزالق خطيرة، لا يحمد عقباها، فسكت ونظر لساعته، تساءل الخماش، الديك موعد.. لا.. لكني اريد ان أهيئ نفسي للسفر غدا الى بغداد، فاجأه الخماس بالسؤال عن الكيال، فيما اذا كان يعرف اي هو الآن، عاتبه نوح، اجئت اليك لتستجوبني عنه، ام جئت لزيارة صديق قديم. لا..لا..هذا سؤال خطر لي الآن أستاذ نوح.
فكر نوح لو كان سليم الخماش يعرف ان الكيال ابوه ، لفاجأه .. أجاب، لم اره.. كنت ملازما لأمي طوال وجودنا في بغداد.. سمعت انك استقلت من وظيفتك، ماذا ستعمل. لم استقل بعد، لكنني افكر بالأعمال الحرة، وبابتسامته الصفراء التي ينزعج منها نوح، لم يترك الفرصة تفوته، كي يتبجح بأهميته وقوته.. سنوفر نحن لك التسهيلات المطلوبة.
فكر نوح ان مفردات المال والثراء والغنى، يتحسس منها سليم الخماش، ما أن تُذكر في حديث، حتى تثير حفيضته، ربما ذلك بسبب عقدة الفقر، فيتقمص شخصية الرجل القوي، المدافع عن القانون، الحامي لحياة الناس، اعراضهم وأموالهم. لذا لم يعلق نوح على كلامه بشيء..
وعندا قام نوح ليودعه، وقف سليم الخماش متثاقلا، وصافحه من وراء المنضدة بطريقة تنم عن كبرياء، خرج نوح تاركا الباب مفتوحا وراءه، تنفس الصعداء، وهواءً نقياً غير ملوث بغطرسة القوة، استنتج نوح من وراء ذلك ان الخماش لم تكن لدية تعليمات رسمية، يجبر بموجبها الأستاذ مقبل على تطليق زوجته، ذكره ذلك بإلتقاء الخماش بمقبل صدفة في بيته، حدث ذلك قديما، كان الخماش موظفا بسيطا، ومقبل طالبا جامعيا في السنة الأخيرة، مزهوا بنفسه كشاب عاشق، يتعجل التخرج للزواج من حبيبته، علم الخماش بطريقة ما عن هذه العلاقة بين مقبل وهيلا، لم يظهر مقبل شئ من الإحترام له اثناء الحديث العابر معه، قال نوح لنفسه لهذا السبب كان حاقدا عليه الى هذه الدرجة المقيتة من الكراهية.
لم يبق امامه سوى السفر، ولقاء سيناء، التي تنتظر عودته، فكر لو انه قتل الخماش لكانت عملية في غاية البساطة، بمجرد ان يمد يده للمسدس، ويطلق النار فيرديه قتيلا.. ولكن تلك المسافة القصيرة التي كانت بينهما، والتي لا تزيد كثيرا عن المتر، ستنقلب الى بحر متلاطم الدم، سيكون هو على ساحل وسيناء على ساحل آخر بعيد لن يراه..
• تعني المقربون، باللهجة الميسانية.
يتبع