* مناقشات
القصة القصيرة في العراق
( السبق) بين الإرهاص والريادة
عبد علي حسن
نشرت جريدة المدى الغراء وعلى صفحتها الثقافية ليوم الأحد 18/8/2019 مقالة بقلم الدكتورة نادية هناوي بعنوان ( أمين عطاء وحيازة السبق في القصة القصيرة ) ، وحاولت فيه تأكيد سبق الكاتب العراقي عطاء أمين في كتابة القصة القصيرة في العراق ، ومما ذكرته في صدر المقال مايلي ( امتلك القاص العراقي عطاء أمين الريادة في كتابة القصة القصيرة ، فأول قصة له كان قد نشرها في العام 1919 وعنوانها ( كيف يرتقي العراق رؤيا صادقة ) في مجلة دار السلام العراقية العدد السابع ).
وقبل أن نقف على معطيات القول السالف للدكتورة هناوي ومناقشتها ، لابد من الإشارة الى ضرورة العودة الى البدايات ، وأنتأكيد ريادة منجز ما في جنس او نوع ادبي ما انما هو لبناء الحلقات الطبيعية المكونة للنوع او الجنس لمتابعة التطورات والتنويعات الحاصلة منذ البدايات الاولى لنتمكن من التعرف على مناطق التجاوز والتطور كيما تتوفر الاستطاعة من الإضافة النوعية تبعا لتطور حلقات المنجز منذ البدايات ، ومن هنا تتبدى مشروعية الخوض في توكيد البدايات ، وهو مايحسب للدكتورة هناوي في مقالتها هذه التي تتقاطع مع الكثير من الآراء حول البدايات الأولى لواحد من الأنواع السردية المهمة المتمتعة بمكانة متقدمة في المشهد الثقافي العراقي ، ونعني به القصة القصيرة ، علما أن هناك العديد من البحوث والرسائل والأطاريح الجامعية التي تناولت بالدرس والبحث هذه القضية وقطعت رأيا بها ، حتى تمكنت الحركة النقدية العراقية — عبر تلك البحوث — من الاتفاق تقريبا على بدايات القصة القصيرة العراقية بعدها فنا ادبيا ينتمي الى عائلة السرد العربي بعد ان ترعرع بتأثير من الأدب الأوربي مباشرة وذلك منذ ان أخذ العرب يتصلون بالعالم الغربي وظهوره منذ اوائل القرن العشرين في البنية الثقافية العربية ولحد الآن .
و من الممكن الوقوف على معطيات تأكيد الدكتورة هناوي السالف و كما يلي :-
1– تأكيد امتلاك القاص العراقي (عطاء أمين) الريادة في كتابة القصة القصيرة في العراق.
2– ان أول قصة نشرها كانت في عام 1919 ، واعاد نشرها في ثم نشره لقصتين ….
ونرى أن الريادة والسبق في وجود جنس ما او نوع ما — ونحن نتحدث عن نوع سردي — يتحقق عبر مقدمات ثلاث القصدية والتكرار والتجاوز ، فالقصدية تعني الوعي بخلق نوع يمتلك مبررات تسهم في ايجادها الظروف الاجتماعية والثقافية والوقوف على الحاجة لظهور وخلق النوع ، اما التكرار فهو اختبار المقدمات التي تضمنتها القصدية في منجز متكرر العناصر والاركان المكونة للنوع في اكثر من منجز ، اما التجاوز فهو تخطي العتبات الأولى باتجاه تفعيل التنويع والإضافة دون الإخلال بالقواعد والاشتراطات الإجناسية الذي يزحزح النوع الجديد الى شكل آخر يتبرأ من النوع الأصل ، والأمثلة كثيرة عراقيا وعربيا وعالميا حول هذه المقدمات المبررة لظهور نوع ما او جنس ما وتأكيد فاعليته والإقرار به كأحد المكونات للحراك الثقافي ، كقصيدة التفعيلة ومساعي الرواد بهذا الاتجاه واضحة ، وكذا الامر بالنسبة للاجناس الادبية الاخرى كالرواية والقصة القصيرة العالمية وسواهما ، وإذا كانت هذه المقدمات تشكل الريادة الفنية للنوع فإن هناك ريادة أخرى وهي كما نراها تشكل ريادة تأريخية تسبق وتمهد للريادة الفنية وتعد ارهاصات تمهد الطريق امام اكتمال الريادة الفنية ، اذ أن التراكمات الكمية تؤدي الى ظهور كيفيات مؤسسة كما حصل في الظهور القار والثابت لكل الاجناس والانواع الأدبية المعروفة لدينا كالرواية والقصة القصيرة وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وسواها ، وازاء ماذهبنا اليه هل كان (عطاء أمين) ممتلكا لقصديته في كتابة القصة القصيرة كما نعرفها بشروطها وخصائصها الفنية البنائية والفكرية ؟ والجواب على هذا السؤال يحدد الاجابة عن السؤالين التاليين / هل ماكتبه لاحقا من قصص يشكل حلقة او تكرارا في لتوكيد قصديته في كتابة قصة قصيرة — كما نعرفها — ؟ وهل تمكن من تجاوز وسد البياضات في تجربته الأولى ؟ والجواب على هذه الأسئلة مجتمعة ب ( كلا) للاسباب التالية :-
1 — لقد بنى (عطاء امين) قصته (رؤية صادقة) وفق بنائية المقامات التي ظهرت في العصر العباسي ، وقد كشفت الدكتورة نادية عن هذه الخصائص البنائية في مقالها ، ذلك ان المقامات هي من اكثر الانواع التي عرفها السرد العربي قربا الى القصة ، وجرت تنويعات قصصية على هذه المقامات من قبل كتاب عرب على امتداد الزمن منذ ظهور المقامات ، لذا فإن (عطاء أمين) لم يستلهم القصة القصيرة كما نعرفها ووصلت الينا عبر الآخر الذي اجتهد في تخليقها من أشكال سردية تناثرت في تراثه الشفوي والكتابي منذ اواسط القرن التاسع عشر ووصولها عبر جهود الترجمة والاطلاع في الربع الاول من القرن العشرين ، ونرى أن الزمن لم يتوفر بما فيه الكفاية لان يتعرف عطاء أمين على فن القصة القصيرة الوافد ليكتب قصته في 1919 ، وكل المصادر العربية تشير الى كتابات في القصة القصيرة تأثرا بالقصة العالمية بدا بعد 1920 .
2– لقد كتب عطاء أمين بعد (رؤية صادقة) قصتين فقط حسبما اوردته الدكتورة وهما (لوحة من الواح الدهر) و ( عاقبة الحياة) في عام 1920 كما ونشر ثالثة (الأخلاق السياسية) في مجلة الهلال 1922، فهل كانت هذه القصص تكرارا في البنائية والخصائص والتوجهات ؟ فإن كان الجواب بنعم فلم لم تدرسها الدكتورة لتؤكد من خلال هذا التكرار على قصدية الكاتب لكتابة قصة قصيرة كما ترى؟
3– اتفق الباحثون والنقاد على أن اول رواية فنية وفق مانعرفه عن فن الرواية كانت رواية ( النخلة والجيران) للروائي غائب طعمة فرمان ، ولم تكن ( الرواية الايقاظية) لسليمان فيضي 1919 وسواها من المنجزات التي سميت بالروايات ، سوى ارهاصات ومقدمات بدائية لكتابة رواية فنية بالخصائص الفنية والبنائية التي نعرفها عن فن الرواية ، وكذا الأمر بالنسبة لقصة (رؤية صادقة) لعطاء أمين وسواها
***
من المنجزات قبل محمود احمد السيد ، انما هي ارهاصات بدائية كما ذهب الباحث د. عبد الاله احمد في تقييمه لقصة (رؤية صادقة) وكذا الأمر بالنسبة للباحثين الآخرين والنقاد الذين اشاروا الى بدائية ماقدم من سرد قصصي قبل ظهور القصة القصيرة واردة من الآخر الاوربي الذي اجتهد منذ منتصف القرن التاسع عشر في تأسبس وتخليق هذا النوع السردي الذي شكلته روافد سردية عديدة كالحكايات الشعبية والرموز ، وتبدو بهذا الخصوص جهود غوغول الروسي وادجار الن بو الأمريكي ودي موبوسان الفرنسي وتشيخوف وغيرهم من الكتاب الذين وضعوا حجر الاساس لمتواليات تطويرية لهذا النوع حتى الآن ، ولانعد ذلك عيبا او خللا في تراثنا الأدبي ، فخلو اي تراث ادبي لأمة من الأمم من هذا الجنس اوذاك لايعد نقصا او خللا في البنية الفكرية او الثقافية ، اذ ان الظروف الاجتماعية المختلفة هي الكفيلة في ظهور هذا الجنس او ذاك ، ووفق التثاقف الحضاري بين الأمم يتم اختبار الاشكال التي تجد التربة المناسبة لنموها واضافة عناصر تتعلق بما يتناسب والظروف الاجتماعية المختلفة ، لذا فإن ماقدمه عطاء امين انما هو تنويعات على المقامات التي استلهم بنائيتها وخصائصها الشكلية والمضمونية لتقديم الوعظ والارشاد ونقد الواقع وتحريض الشبيبة على تغيير الواقع، وقد اشار الكاتب ادجار الن بو الى هذا الاتجاه قائلا ( ان التهذيب ودروس الاخلاق لامكان لها على الاطلاق في الابداع الأدبي ) واذا ماوضعنا فصة (رؤية صادقة) والعناوين الاخرى للكاتب عطاء امين يقع في المنطقة التي اشار اليها ادجار الن بو وتنم عن ضعف في البناء الفني الذي يبعدها كثيرا عن القصة القصيرة ، وافر التقدير للدكتورة نادية هناوي لجهدها البحثي الذي يحفز على المناقشة والتدبر للوصول الى مناطق البدايات السليمة المؤسسة لحركة السرد العراقي ، وهو مادفعنا مخلصين للمناقشة .