إشارة :
طبع القاص والروائي “جابر خليفة جابر” بصمته الأسلوبية المميزة على خارطة السرد العراقي عبر فهم عميق لسرّ الحداثة المنبثقة من عمق التراب العراقي (تراب البصرة تحديداً). يذكرنا جهد جابر أو مشروعه بما قاله الراحل الكبير “عبد الرحمن منيف” في رسالة إلى المبدع “شاكر خصباك”: “النجف وحدها تضع مائة رواية أهم وأخطر من ” مائة عام من العزلة”. واعتزازا بتجربة جابر السردية المتفرّدة تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي ملفها عنه وتدعو الكتّاب والقرّاء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق.
مخيم المواركة
لجابر خليفة جابر
د. ضياء خضير
في نهاية هذه الرواية نقرأ ورقة يعلق فيها الراوي المؤلف جابر خليفة جابر الذي تبنى هذه الرواية ووضع اسمه على غلافها منعا لأي التباس ممكن..يعلق حول روايته هذه بعد الفراغ من كتابتها، فيقول إنه خرج بأولاده للتنزه في حدائق الأندلس بمحاذاة ميناء المعقل في البصرة بعد أن أخّره عمار أشبيلو الذي تدفقت رسائله وحكاياته القادمة، كما يزعم، من (مخيم المواركة) على بريد المؤلف الإلكتروني لتؤلف في مجموعها هذه الرواية المدهشة التي أحسب أنها واحدة من أفضل ما تفتقت عنه العبقرية العراقية خلال السنوات الأخيرة في مجال السرد.
خبرة وذكاء وخفّة في إدارة الحكي ولملمة الأصوات السردية المختلفة والمتعارضة والمكملة لبعضها، وتوجيهها باتجاه غرض الرواية، مع ثقافة واسعة ومعرفة بالمرحلة التاريخية المعنية، وقدرة على التقاط ما هو دال وجوهري من الوثائق والأحداث والشخصيات، وبما يناسبها من لغة واسماء ومصطلحات تكشف عن روح المرحلة وليس فقط ملامسة غطائها وجلدتها الخارجية.
ولعل الرسالة الالكترونية الأخيرة التي يتلقاها الراوي المؤلف من عمار أشبيليو هذا أن تفصح عن طبيعة اللعبة السردية المعقدة التي لجأ إليها المؤلف في كتابة روايته هذه:
(السلام عليكم، صديقي العزيز، أنا الآن أنتزه في حدائق الأندلس، قريبا من ميناء المعقل، وألهو مع أولادي، أين أنت الآن؟!)
مشيرا، من طرف خفي، إلى أن المؤلف المستقبل للرسائل، والراوي الأخير في سلسلة الرواة أو المرسل لهذه الرسائل المروية بدورها عن مؤلف آخر اسمه (حامد الأندلسي)، هما في الحقيقة شخص واحد، يبدأ بالمؤلف (جابر خليفة جابر) وينتهي به، على الرغم من أن هذا اللقاء المتخيل على صعيد المكان والزمان بين الكاتب وراويه أو مراسله الإلكتروني في حديقة الأندلس البصرية، قد جرى التمويه عليه والتمهيد له، بطريقة ما، بانتقال بعض أبطال الرواية وشخصياتها إلى مدينة البصرة ليستقروا فيها في نهاية الرواية.
والواقع أن تهشيم جسد النص وتوزيعه بهذا الشكل إلى مجموعة من الرسائل الإلكترونية الخارجة من هذه الخيمة أو تلك في هذه (الاحتفالات القصصية) كما يسميها بعض رواتها، لا يؤثر على طبيعة الغرض الذي كتبت هذه الرواية من أجله. وهو سرد بعض الأحداث والوقائع المأساوية التي أعقبت سقوط غرناطة وانتهاء الوجود العربي في الجزيرة الأيبرية عام 1492 ، وما شهده ما تبقى من العرب المسلمين المسمين بالمورسكيين أو (المواركة) فيها من ملاحقة مستمرة على أيدي جيوش القشتاليين وقساوستهم الكاثوليك، طالت حتى من تنصّر منهم وغيّر اسمه وديانته. فقد كان الشك وسوء الظن والكراهية المتأصلة قد دفعت إلى هذه التصفية العرقية والثقافية والجسدية الشاملة التي لبست لبوس الدين لتضع حدا لوجود حضاري عربي إسلامي في جنوب القارة الأوربية استمر ما يقرب من ثمانمائة عام. وهي لا تختلف عما فعله كولومبس وأتباعه بمن أسموهم بالهنود الحمر وهنود المايا والأزتيك الآخرين من سكان القارة الأمريكية بعد اكتشافها والوصول إليها في نفس هذا العام، أي 1492. وهو ما تشير إليه الرواية وتسرد بعض أحداثه.
ولعل هذا اللقاء أو الوجود الرمزي المتخيل للراوي والمؤلف كليهما بحديقة الأندلس(لاحظ التسمية) بمدينة المؤلف البصرة أن يومئ أيضا إلى الكيفية التي يعيد فيها التاريخ نفسه بوجود الاحتلال الأمريكي، وما خلفه من خراب على مجمل الوضع الحضاري في هذه المدينة. إذ أن رواية جابر خليفة جابر هذه تمثل بحثا سرديا مسهبا في لحظة الغسق والظلام الذي رافق الحياة العربية أو ما تبقى منها في تلك البلاد الأندلسية البعيدة في مكانها وزمانها، والقريبة في روحها وسردياتها من مكاننا وزماننا هذا. وما فعله المؤلف نفسه في الفلم الوثائقي الذي أعده عما حدث في زنجبار الأفريقية في ستينات القرن الماضي من تصفية جسدية وثقافية بشعة للوجود العربي العُماني في تلك الجزيرة، وبتشجيع من المستعمر الإنكليزي وإشراف منه، يقع ضمن هذا الاهتمام الخاص للمؤلف بالنهايات المأساوية التي ينتهي إليها الوجود الحضاري والثقافي العربي الإسلامي في كل مرة يحاول فيها أن يمد له جذورا في تربة غريبة.
وسواء كانت الأسماء الكثيرة الموجودة في رواية مخيم المواركة حقيقية أم متخيلة، فإنها قد أدت أدوارها وما هو مطلوب منها في حكاية تلك الملحمة التاريخية المحزنة، التي لم يتوقف كثير من المؤرخين العرب عند تفاصيلها والكثير من قصصها التي تمزج بين عالم الإثارة الحسية والتراجيديا اليونانية.
وهو الأمر الذي انتبه له مؤرخون غربيون عديدون وسجلوه في بعض مروياتهم وقصصهم، كما هو الحال مع الأمريكي واشنطن إيرفنغ الذي كان دوبلوماسيا لبلاده في إسبانيا بداية القرن التاسع عشر، وكتب قصصا عن التاريخ العربي في الأندلس ألهمت الكثيرين من كتاب أمريكا وأوربا وشعرائهما في حينها، كما ألهمت كاتبنا العراقي الذي أهدى له روايته هذه . والفارق بين هذه السرديات المروية على شكل قصص وحكايات، وبين التاريخ كما تقدمه الوثائق والأرقام المجردة الخاصة بهذه المرحلة التاريخية، هو الفارق بين الحياة بأنفاسها الحارة وأجساد أبطالها المحترقة بقرارات محاكم التفتيش الشهيرة، ورؤوس المواركة المقطوعة فيما سمي (صيد الرؤوس) التي كان يمارسه الجنود القشتاليون القساة مع المسلمين أو من تبقى منهم في تلك البلاد، كما لو كانوا يصطادون طيورا أو غزلانا في (حفلات صيد جماعية)، وبين الحقائق المجردة التي أسدل عليها ستار النسيان وضاعت مع ما ضاع من تاريخ ذلك الفردوس المفقود.
وكانت الرسائل الالكترونية المرسلة إلى المؤلف من ذلك المخيم القصصي الغريب وما تنطوي عليه من اتساق أو تعارض وإصرار على مواصلة التنقيب والنبش في المكتبات والمخطوطات وبقايا المنازل والجوامع والمواقع الالكترونية وصدور الرجال، من أجل إكمال الصور أو المشاهد المحكية، قد جسدت فضاء سرديا غنيا وموحدا تتصادى فيه الأصوات وتظهر فيه الملامح البشرية، ويجري رسم العواطف واللوحات والهيئات وبناء العمائر والقصور والمآذن التي حولها الإسبان إلى كنائس، وترتبط فيه الحكايات والقصص الشخصية والجماعية ببعضها، وتتطور حتى النهايات المفتوحة التي يبقى فيها الخيط السردي الناظم لوحدتها العضوية ممتدا مع امتداد حياة الشخصيات القصصية الحقيقية والمتخيلة التي تقاوم الموت والفناء، وتصرّ في كل مرة على الظهور في أمكنة وأزمنة أخرى تحت عناوين وهيئات وأسماء جديدة.
وحاضر الماضي الذي ينبعث ويعاود الظهور في الحاضر المعيش بهذا الشكل البعيد عن التكلف، من شأنه أن يغني الماضي والحاضر كليهما، ويجعل العلاقة وتبادل الدلالة بينهما طبيعية ومتكاملة.
مع أن ( الغياب والتواري عن أنظار التاريخ حال لازم المواركة وما حل بهم، تاريخهم مسكوت عنه) كما يقول عمار إشبيليو في إحدى رسائله للمؤلف. أما فكرة المخيم القصصي فهي كما يقول في هذه الرسالة( اختلاق أندلس مصغّرة، أندلس الموريسكيين في القرن السادس عشر وما تلاه، إعادة تمثيلها على خشبة مسرح يمثلها هذا المخيم) ص 57-56
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أنها رواية تنتمي في طريقة روايتها ورواتها الوهميين، وموضوعها التاريخي إلى ذلك النمط من الروايات التي كتبها البيرتو إيكو في اسم الوردة، ودان بروان في شفرة دافنشي، ويوسف زيدان في عزازيل.
وعلى الرغم من أنها لا تنطوي مثل هذه الروايات على جرائم وأسرار وبحث في عقائد دينية مخصوصة، فإنها لا تخلو من إشارات دالة إلى حقائق وأحداث وأشخاص في التاريخ الأندلسي والعالمي جرى إغفالها والتعتيم عليها وعليهم بنفس الطريقة التي جرى فيها التعتيم على عظمة الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس وعبقرية بعض رجالها، كما سنرى ذلك فيما بعد.
وحكاية قمرين بنت الملاح الأندلسي حامد/ خوان رودريغو، وحمّامها العربي المحكوم بالموت مثل أهله بعد أن تمّ إغلاقه بأمر من صاحب الجلالة الملك لأنه يمثل أثرا عربيا لم يعرفه سكان هذه البلاد، هذه الحكاية المسماة (أم الحكايات)تمثل نموذجا لهذا التواصل الذي يخترق مفاصل الرواية من بدايتها حتى نهايتها على نحو تبدو معه الرواية بكل أجزائها شبكة هندسية متسعة من العلاقات العائلية المحمل كل منها بدلالته السردية الخاصة واستقلاله الحكائي النسبي.
فقمرين كما قلنا زوجة الملاح العربي الأندلسي حامد بن هلال المعروف بالحاج هلال القرطبي الذي أصر على تعليم أبنائه العربية وقراءة القرآن الذي تعلمه من أبيه سعيد القرطبي. أما أمها فهي الإيطالية كارمن ابنة كريستوفر كولومبس الذي كان صديقا لحامد ورفيقه في رحلته الشهيرة نحو الهند عن طريق الغرب التي تم اكتشاف أمريكا عن طريقها. والرواية تؤكد على هذا الجانب المهمل من رحلة كولومبس وتشير إلى أن البحار الإيطالي الذي شارك مع الملاح العربي حامد في حصار غرناطة متخذا هيئة الجنود القشتايين على سبيل الاضطرار ، هو الذي دلّ كولومبس على طريق الإبحار الصعب إلى الهند عبر هذا الطريق، ورافقه فيه وكان أول من رأى الأرض الجديدة ، مما دفع الإسبان إلى أن يقيموا له تمثالا في أشبيلية تكريما له، كما تقول إحدى الحكايات.
أما الواقعة الثانية التي حاولت بعض الحكايات إبرازها والكشف عنها فتتعلق بدون كيخوته والشك الذي رافق نسبة هذه الرواية الساخرة من فروسية القرون الوسطى وعوالمها إلى مؤلفها سرفانتس. وما تريد رواية مخيم المواركة أن تسجله باسمها باعتباره كشفا هو أن حامد بن قمرين الذي بقي (وحيدا من عائلته في إشبيلية، ثم غادرها إلى بلد الوليد ليتفادى الشكوك، وهناك عمل بكتابة القصص وبيع وطباعة الكتب، وغدا جزءا من أوساط الأدباء الأسبان هناك، لكنه كاد أن يسجن عندما كتب قصة فروسية) مليئة بالسخرية من البطولات المزيفة لبعض فرسان الكنيسة الإسبانية الكاثوليكية، أقول إن ما أرادت هذه الرواية أن تقوله هو أن حامدا هذا قد شارك في كتابة الرواية الإسبانية الشهيرة إن لم يكن هو صاحبهأ بعد أن جرت سرقتها منه بعد موته .
والحكاية تقول إن قصص حامد الساخرة هذه قد وقعت موقعا حسنا عند أحد الأدباء الأسبان الذي كان يحمل لقبا مماثلا للقب عائلة حامد (رودريغو) وأن هذا الأخير قد وشى به عند رجال محكمة التفتيش في بلد الوليد مما أدى الى قتله، وليستولي ذلك الأديب المفلس الذي هو سرفانتس نفسه على تراث حامد القصصي الذي بث روح السخرية في تلك الرائعة وألف جزءا منها.
وهناك بالإضافة إلى هذين النموذجين الخاصين بالمشاركة في فتح أمريكا وكتابة الرواية الإسبانية الشهيرة حالات ونماذج أخرى تحتاج كل واحدة منها إلى معالجة مستقلة بعد أن تجردت رواية مخيم المواركة لحكايتها وتسجيل الريادة العربية فيها، ولكننا نكتفي هنا بهذين النموذجين اللذين رافقت روايتها تفاصيل وأقوال كثيرة يمكن الخروج منها باستنتاج مفاده أن التاريخ لم يكن عادلا معنا كعادته، وأن ما أنتجته العبقرية العربية في مجال الجغرافية وعلم البحار والكتابة القصصية وفن الرسم والعمارة قد جرى تضييعه والتغطية عليه.
ومع أن حكاية المشاركة العربية في اكتشاف أمريكا وكتابة دون كيخوت ليستا جديدتين وأنهما معروفتان للكثير من الباحثين، وأنهما ليستا مؤكدتين وثابتتين في أبحاث علمية موثوقة، فإن وجودهما في رواية جابر خليفة جابر بكل ما توفر لهما من وثائق وتفاصيل حكائية حقيقية ومتخيلة قد أغنى الرواية وجعلها لا تكتفي بعرض محنة العرب الأندلسيين وما تعرضوا له من مظالم وحيف، وإنما هي تشير إلى عبقريتهم وإسهامهم في جوانب من الثقافة الإنسانية الفاعلة التي نجحت رغم تغييبها في إيجاد سرديات جديدة واكتشاف العالم الجديد، في نفس الوقت الذي مالت فيه شمس حضارتهم نحو المغيب.
وسواء تعلق الأمر بقصص السخرية التي وضعت حدا لتاريخ طويل من الفروسيات الزائفة، أم بانتزاع أمجاد اكتشاف أمريكا والوصول إلى العالم الجديد من أصحابها الحقيقيين، فإن السردية التي تقدمها رواية جابر خليفة جابر لهاتين الواقعتين تبدو كما لوكانت جديدة، وتبقى كغيرها من الأحداث والوقائع في هذه الرواية جديرة بالقراءة والمتابعة وإعادة التفكير بتناظر العلاقة الحزينة القائمة بين الماضي والحاضر.