” 41 “
ماذا جرى ؟
لا أدري ماذا جرى لنا ، سنجوبة هي سنجوبة ، وأنا .. أنا نفسي ، إنها لم تتغير ، وأنا أيضاً لم أتغير ، أم إنني مخطىء ، آه لو أدري .
سأخبر ماما ، سأخبرها بكل شيء ، لعلها تخبرني بحقيقة ما جرى ، لا ، ستضحك ماما مني ، وربما ستقول لي ، أنت تكبر ، وكأني لا ألاحظ ذلك ، إنني أريد أن أعرف فقط ، ماذا جرى ؟
رأيتها صباح اليوم ، تجلس على غصن ربيعي مزهر ، فوقفت أتأملها ، كأني لم أرها هكذا من قبل ، فانتبهت إليّ ، وابتسمت قائلة : صباح الخير .
ولسبب لا أدريه ، اعتراني شيء من الارتباك ، وأجبت بصوت متغير : صباح النور .
وحدقت سنجوبة فيّ ، وقالت بصوت متغير : صوتك .. مبحوح .
فأجبتها وعيناي متعلقتان بعينيها : صوتك أيضاً .. مبحوح .
وتسلقتُ الشجرة ، ووقفتُ قرب سنجوبة ، وقد أخرسني الارتباك ، ولكي أتخلص من ارتباكي ، أو لسبب آخر لا أدريه ، قطفتُ زهرة ، وقدمتها لسنجوبة ، ومدت سنجوبة يدها ، وقد احمرت وجنتاها ، وأخذت الوردة ، وقالت : أشكرك يا سنجوب ، هذه أجمل زهرة أهديت إليّ في حياتي .
ونزلتُ من الشجرة ، ورحت أتجول في الغابة ، على غير هدى ، ماذا جرى ؟ أهو الربيع ؟ أم إننا ، أنا وسنجوبة ، وبدون أن ندري ، نكبر .. و .. ، لن أخبر ماما .. ولن أخبر أحداً آخر ، بما جرى ، لكن آه لو أعرف فقط .. ماذا جرى ؟
” 42 “
جوزتان وثلاث بندقات
ولت العاصفة مع الفجر ، بعد أن ظلت تدوُم في الغابة طول الليل . وما إن أطلت الشمس ، من بين الغيوم ، حتى أخذ السنجاب العجوز جوزتين من مخزنه ، ومضى بهما إلى بيت السنجابة العجوز .
وحاول عبثاً أن يسرع ، أهي الشيخوخة ؟ ربما لا ، فلم ينم البارحة لحظة واحدة ، لقد أرقه التفكير في السنجابة العجوز ، وخشي أن لا يصمد بيتها القديم أمام العاصفة ، وتتعرض إلى مكروه . وفي منتصف الطريق ، رآها مقبلة نحوه ، وتراءت له ، في فتوتها ، تتقافز كالفراشة بين الأزهار ، وقبل أن يحييها ، هتفت به : يا إلهي ، قلت لك ، ألف مرة ، أن لا تخرج في مثل هذا الجو .
ابتسم السنجاب العجوز ، وقال : ماذا أفعل ؟ لابد أن أطمئن على سنجابة عزيزة عليّ .
هزت السنجابة العجوز رأسها ، وقالت : آه .. لن تكبر ، لن تكبر أبداً .
وتابع السنجاب العجوز قائلاً : لقد قلقت عليك ِ .
فتطلعت السنجابة العجوز إليه ، وقالت : لم أنم طول الليل خوفاً عليك .
ولاذا بالصمت لحظة ، وهما يتبادلان النظر ، وسرعا ما مدّ السنجاب العجوز يده بالجوزتين ، وقال : جئتك بما تحبينه .
وفي نفس الوقت ، مدت السنجابة العجوز يدها بالبندقات الثلاث ، وقالت : جئتك بما تحبه .
وتعانقت يداهما ، واختلطت الجوزتان والبندقات الثلاث ، وشدت السنجابة العجوز على يده ، وقالت : لن أطمئن مادمت بعيداً عني .
فقال السنجاب العجوز : الأمر لك ، أنت تعرفين رأيي .
فتطلعت السنجابة العجوز إليه ، ثم قالت : حسن ، إنني موافقة .
فأطبق السنجاب العجوز على يدها ، وهتف فرحاً : حقاً ! يا لسعادتي ، هيا إذن .
وهتفت السنجابة العجوز ، وهي تمضي معه إلى البيت : هيا نعش معاً ، وسأنام هذه المرة ، حتى لو دومت العاصفة طول الشتاء .
” 43 “
الغابة البعيدة
منذ أن فرّ بلبلي ، وأنا وحيدة ، مع صغيريّ ، في القفص . آه إنهما يكبران يوماً بعد يوم ، ويزدادان جمالاً ، ليته يراهما الآن ، فطالما تمناهما ، وكاد يطير فرحاً ، حين خرجا إلى الحياة ، لكن أين هو ليراهما ؟
كانت الغابة حلمه الدائم ، وتمنى لو تتاح له الفرصة لتحقيق هذا الحلم . وجاءت الفرصة ، حين فُتح الباب للحظة ، فانفلت إلى الخارج ، هاتفاً : تعال ، أهربي ، إنها فرصتنا للحرية .
وكدت أندفع في أثره ، لكن وصوصة صغيريّ سمرتاني في القفص ، فأجبته : لا أستطيع يا عزيزي ، الصغيران بحاجة إليّ .
وحام حول القفص متردداً ، فصحت به : سيقبضون عليك ، أهرب .
وعلى الفور ، مرق من بين قضبان النافذة ، وتوارى بين الأشجار .
لابدّ أن بلبلي مرتاح الآن ، فقد حقق حلمه ، وطار إلى الغابة .لكن ماذا عنّا ؟ أنا وصغيراه ؟ ألا يهمه أمرنا ؟ تحن تعاني هنا ، وهو .. ، لا ، لا ، إنني أعرفه ، وأعرف مكانتي ومكانة الصغيرين عنده . آه من يدري ، فالبعيد عن العين بعيد عن القلب أيضاً ، إن الغابة مليئة ب .. لا .. لا .. إنه يحن إلينا ، مثلما نحن إليه ، آه ليتني أراه ، ولو مرة واحدة .
وذات ليلة ، لمحته يقف خلف النافذة ، نحيلاً ، حزيناً ، يرتعش من البرد . لم يدخل ، ولم أطلب منه أن يدخل ، وظل ينظر إليّ طول الليل ، وما إن أقبل الفجر ، حتى اختفى من مكانه .
وانتفض قلبي ، أهو حلم ؟ لا ، إن بلبلي موجود ، و .. وتململ صغيراي ، وأطلا مشرقين من تحت جناحيّ ، فضممتهما إلى صدري ، ونظرت عبر القضبان إلى الغابة البعيدة ، ومن خلال دموعي ، تراءى لي بلبلي ، يحلق كالحلم بين أشجار الغابة .
” 44 “
دبدوب يغني
” 1 ”
ــــــــــــ
أسرعت إليه أمه ، حين سمعته يجأر بأعلى صوته ، ونهرته قائلة : كفى جئيراً .
نظر إلى أمه ، وقال : إنني أغرد .
هزت أمه رأسها ، وقالت : البلابل وحدها تغرد .
رفع عينيه ، وتطلع بعيداً ، وقال بصوت حالم : أنا أيضاً أغرد .
وسكت لحظة ، ثم تابع قائلاً : آه كان هناك من يتمنى أن يسمعني ، ويعرف من أنا ، وأين أكون .
فنظرت إليه أمه ، وقالت : أعرف من يتمنى هذا ، يا بنيّ .
تطلع إليها متسائلاً ، فقالت : الصياد .
” 2 ”
ـــــــــــ
أرق دبدوب ، ذات يوم ، وأرقت معه أمه ، إنه يفكر ، وأمه تدفع الثمن سهراً ،
تناهى صوت من بعيد ، لعله صوت ديك ، فرفع رأسه ، وقال : ماما .
وردت عليه أمه بصوت ناعس : نم يا عزيزي .
قال : ماذا لو غيرت اسمي ؟
لم تجبه ، فتابع قائلاً : سأسمي نفسي .. بلبل .
قالت أمه : هذا لن يغير شيئاً .
واعتدل ، وصاح : بل يغير ، وسترين .
وسكت لحظة ، ثم قال بصوت حالم : أنا بلبل .
ورفع رأسه ، وراح ” يغرد ” .
ومن الظلام ، ارتفع صوت بلبل عجوز ، حانق ، : أيها الدب ، كفى جئيراً ، دعنا ننم .
” 3 ”
ـــــــــــــ
فوق تلّ ربيعي ، رآها تتأمل ، وحيدة ، وقف على مقربة منها ، ولمحها ترمقه خلسة ، ولسبب لا يدريه ، رفع رأسه ، وراح ” يغرد ” .
كفت عن التأمل ، وقد بدت في عينيها نظرة حالمة . وحين انتهى من ” تغريده ” ، أرخت عينيها ، وقالت : آه هذا أجمل صوت سمعته في حياتي .
فرح بقولها ، كما لم يفرح من قبل ، وظل يذكر هذا الفرح ، حتى عندما صار له أحفاد ، يحلمون أن يغردوا مثل البلابل .
” 45 “
الدجاجة والديك
الديك
ـــــــــ
حقاً لا أحمق من الدجاج ، ويبدو أنهن يزددن حمقاً كلما تقدم العمر بهن العمر ، من يصدق أن دجاجتي البنية تغار ؟ وممن ؟ من دجاجة في عمر ابنتها .؟
يا للجنون ، أيقظتني في منتف الليل ، ظننت أنها مريضة ، أو أنها رأت الثعلب في الحلم ، سألتها : ما الأمر ؟
قالت : أتحبني ؟
جن جنوني ، وكدت أفقأ إحدى عينيها ، لو لم تبتعد عني ، فصحت بها : يبدو أنك جننت .
احتجت قائلة : لو أن الدجاجة البيضاء هي التي أيقظتك لما ..
قاطعتها صارخاً : كفى .
وكالعادة راحت تنهنه ، ثم قالت : ليتك تحبني بقدر ما يحبني الثعلب .
انتفض قلبي ، المجنونة ، قد يخدعها الثعلب ، و .. قلتُ : الثعلب ! أبن رأبته ؟
أسبات عينيها ، وقالت بدلال : ليس في الحلم .
أشحت عنها ، وأغمضت عينيّ ، وأنا أتمتم : لقد جنت .
الدجاجة
ـــــــــــــ
لم يصدقني ، وربما لن يصدقني ، حتى يسمع أن الثعلب قد خطفني ، ومن يدري ، فقد يستيقظ حبه لي ، ويطارد الثعلب ، ويتصدى له كي ينقذني .
سمعنه يغط في النوم ، والدجاجة البيضاء كالعادة تنام إلى جانبه ، لعل ما أفعله جنون ، خاصة وأن الثعلب قد يكون حقاً في الجوار ، لكني لن أتراجع .. ، واربت باب القن ، وتسللت إلى الخارج ، سأختبىء وراء شجرة التوت ، وأصيح : الثعلب .. الثعلب .. ، وعندئذ سيترك الديك الدجاجة البيضاء ، ويهب لإنقاذي ، و ..وجمدت في مكاني ، وقلبي يخفق مذعوراً ، فقد لمحت في الظلام عينين تبرقان ، يا إلهي ، لابد أنه الثعلب ، فأطلقت ساقيّ للريح ، ولذت بالقن ، وأنا أصيح : الثعلب .. الثعلب .
أفاقت الدجاجات ، ورحن يُقوفئن مذعورات ، واستيقظ الديك ، وتساءل : ما الأمر ؟
ومن الظلام ، أقبل الكلب مسرعاً ، وقال وهو يلهث : اطمئنوا ، لن تروا الثعلب مرة أخرى ، لقد فاجأته قرب شجرة التوت ، وقطعت أذنه .