سميح القاسم: أترصّد محاربي ثقافــة الإلتزام
حاوره: باسل أبو حمدة (ملف/6)

إشارة :
(منتصبَ القامةِ أمشي/مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتونٍ/ وعلى كتفي نعشي/ وأنا أمشي وأنا أمشي).
في يوم الثلاثاء 19 آب 2014، رحل شاعر المقاومة والعروبة، المناضل، سميح القاسم، بعد سبعين عاما من الكفاح والجهاد من أجل فلسطين والأمة العربية، وبعد صراع مرير مع السرطان؛ الموت “الذي لم يكن يُحبّه ولكنه لا يخافه”. برحيله انهار مثلث شعراء الأرض المحتلة: محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم الذين صدحت حناجرنا بقصائدهم المقاومة المحبة لفلسطين والعروبة منذ نعومة أظفارنا. وعبر أكثر من 25 مجموعة شعرية كان الصوت الهادر الداعي إلى الصمود والجهاد دفاعا عن الأرض والقيم الإنسانية النبيلة. فنّياً ، كان – كما اعتبرته سلمى الخضراء الجيوسي بحق – “الوحيد الذي تظهر عليه ملامح شعر ما بعد الحداثة”. تتشرف أسرة موقع الناقد بنشر ملفها عن الراحل الكبير وتدعو الأحبة القراء والكتّأب إلى إثرائه بالدراسات والصور والوثائق.

سميح القاسم: أترصّد محاربي ثقافــة الإلتزام
حاوره: باسل أبو حمدة

سميح القاسم كالنهر المتجددة مياهه دوماً، كسحابة حبلى بزخات عذبة من مطر الربيع، هو توأم روح محمود درويش ورفيق البدايات التي ما فتئت تتجدد والنهايات التي لم يحن أوانها بعد، يتكلم عن نشوة الذكرى ويستحضر ماضياً لا تزال مفرداته حية في فؤاده، مفردات ينثرها شعراً وزعتراً برياً في وجدان أجيال تولد دفقاً مع بزوغ كل فجر على جبال الكرمل في فلسطين الجريحة.

زار الشاعر الفلسطيني سميح القاسم الإمارات في نهاية شهر مارس الماضي لإحياء يوم الأرض بالشعر، لكنه اصطحب معه كذلك موسيقى ورقصات فرقة (موال) النصراوية، التي دأبت في السنوات الأخيرة على العمل معها في ميدان الأوبريت.

كما اصطحب معه صوتاً هادراً بحب الأرض والإنسان، صوت تمتد جسوره شعراً وموسيقى، صوت يروي حكاية أرض لا تكتمل حكايتها إلا به. (البيان) التقت القاسم على هامش أحد الاحتفالات بيوم الأرض في الإمارات، وأجرت معه حواراً بدأ مساء، وامتد حتى ما بعد منتصف الليل راحت تتسلل من بين خيوطه موضوعات شتى حاولت أن ترصد جانبا من تجربة ممتدة لأكثر من نصف قرن، ومفعمة بالشعر وحب الأرض والناس وعطاء لا تحده حدود.

ارتبطت قصيدة سميح القاسم بقضية الإنسان والأرض، وظلت ملتزمة بهموم الناس وأوجاع الوطن، واتخذت لنفسها منهج الالتزام، أين وصلت قصيدة شاعر العروبة؟

هناك حملة تحارب ثقافة الالتزام وأدب الالتزام وشعر الالتزام والمقاومة، وأنا وقصيدتي نقف بالمرصاد لهذه الحملة الدنيئة والعميلة، فما دام هناك عدوان وما دام هناك احتلال فلا بد من وجود روح المقاومة وأدب المقاومة، وأنا أعتز بأن قصيدتي تجسد هذه الروح الوطنية والقومية والإنسانية في هذه المرحلة المظلمة من تاريخ أمتنا، ولذلك أنا أكتب للقدس وأتحدى ريتشارد قلب الأسد المعاصر المتجسد في الاستيطان الصهيوني،.

وأحاور بالشعر الوعي الصهيوني الذي شوه الوعي العالمي، ويصور الفلسطينيين والعرب والمسلمين بأنهم إرهابيون وقتلة، أنا أريد مناقشة هذا الفكر الصهيوني من داخله ومن واقع تجربتي وممارستي ومعايشتي ومعتقلاتي وسجوني وعذاباتي، ولا أنظر للأرض بالمعنى الفلسطيني فقط، وإنما بالمعنى العربي والإنساني الكوني أيضاً.

وهذا ما أحاول طرحه مع فرقة (موال) النصراوية، من خلال تقديم نماذج من فولكلورنا الجميل؛ الفلسطيني والشامي والعربي، الذي يحاولون القضاء عليه، من خلال برامج تافهة في فضائيات تافهة مأجورة مرتزقة عميلة وخائنة تحاول القضاء على الكرامة العربية والحضور العربي والروح العربية، واستبدال ثقافتنا القومية بثقافة الهامبرغر والكوكاكولا وبرامج ما يسمى بالواقعية تحت شعار العولمة في محاولة لمحو كل ثقافات العالم وتسييد ثقافة البطش والاستغلال الامبريالي المتوحش.

سميح القاسم في حيفا بداية السبعينات

بالنسبة لتجربتك مع فرقة (موال)، هل جاءت نزولاً عند رغبة هذه الفرقة أم نزولاً عند رغبتك؟

أفراد هذه الفرقة هم شباب وصبايا من أبنائنا يعيشون حياة القمع والقهر التي نعيشها كلنا كشعب، لذلك حين يقرؤون نصاً يشعرون أنه يعبر عن إرادتهم وحلمهم، فمن الطبيعي أن يذهبوا مع هذا النص ويحولوه إلى عمل فني.

وقد قدمت فرقة موال أوبريت (بيت المقدس)، الذي شهد له النقاد الفنيون من مختلف التيارات بأنه إنجاز استثنائي في ظروف استثنائية رغم أن هذه الفرقة لم تجد الميزانية الكافية حتى لإعداد ملابس جديدة، في حين تذهب مليارات العرب إلى أسلحة خردة ومشاريع مشبوهة وتصرف الملايين على برامج تلفزيونية هابطة.

كيف تنظر إلى المشهد الثقافي والشعري الفلسطيني بعد رحيل محمود درويش؟

علاقتي بمحمود درويش تتخطى الشعر، ومحمود لخص هذه العلاقة في رسالة منشورة كان قد بعثها لي وقال فيها: صداقتنا أقوى من الحب، وأعتقد أنه لخص بالفعل هذه الصداقة لأنها صداقة رجلين وشاعرين ومناضلين ونزيليّ سجون وشريكيّ مظاهرة ومواجهة وأمسية شعرية.

لكن أنا أيضاً لا أحب الرومانسية المبسطة، رحيل محمود درويش بالنسبة لي ضربة شخصية عميقة جداً بعيداً عن الشعر، لكن رحيل الشاعر جسدياً لا يعني أنه رحل شعرياً، قصيدة محمود درويش موجودة وفاعلة، ويبقى الجانب الشخصي الإنساني وهو شأني أنا الشخصي، وليس شأن ‬350 مليون عربي، أنا فقدت أخاً في حياتي كنت أقول له أنت أخي الأصغر بعد رحيله أقول له أنت توأمي.

وأنا سألت محمود حول ما قيل على لسانه بأنه ينتقل من شعر القضية إلى قضية الشعر، وقال لي إنه لم يقل هذا الكلام السخيف. والذي يميز بين شعر القضية وقضية الشعر لا يفهم في الشعر ولا يفهم في القضية أصلا، إذ لا يمكن الفصل بين القضية والشاعر والشعر، فهي تجربة متكاملة متجانسة متداخلة. وأنا أعتز بكل كلمة كتبتها ونشرتها في أعمالي الشعرية والنثرية.

هل أنت مطمئن على الساحة الشعرية الفلسطينية بما فيها من أسماء شعراء جدد؟

لا تسألني عن ساحة فلسطينية، اسألني عن الساحة العربية، فأنا عروبي وحدوي، والقصيدة العربية في القرن العشرين هي سيدة القصائد في العالم، كان لدي أصدقاء كثر مثل الشاعر الفرنسي لوي أراغون، والإسباني رفائيل ألبيرتي ويانس ريتسوس وكبار شعراء أوروبا يحترمون القصيدة العربية وكانوا يشكون من الشعراء العرب الذين يريدون تقليدهم.

وأراغون قال أنا أحترم قصيدة سميح القاسم الذي لا يريد أن يشبهني ولا أحترم الشعراء العرب الذين يريدون أن يشبهوني، قصيدته تشبهه وأنا أحب الشعر الذي يشبه صاحبه، فهناك شعور بالنقص لدى بعض الكتاب والشعراء الافتراضيين في حياتنا العربية اتجاه «الخواجة».

لدينا أصوات جيدة من الشعراء، وأذكر أني كنت ضيف شرف على مهرجان الشعر العماني الأخير، وسمعت أصواتا شعرية مدهشة كما أسمع أصواتا أخرى في الإمارات والأردن والعراق وسوريا ولبنان ومصر،.

حيث لدينا أصوات جديدة رائعة وقادرة على التطور ولا ينقصها سوى تجربة وزمن ليكون لها شأن. فنحن اخترقنا السقوف الشعرية التي سبقتنا والأجيال التالية ستخترق سقوفنا، حيث لا وجود لسقوف في الإبداع، وبعض الشعراء الذين يعتبرون سقوفاً حتى الآن سيثبت بعد جيل أو جيلين أنهم ليسوا شعراء كبار.

يقال إن بقاءك في الوطن لم يساعدك على تطوير قصيدتك باتجاه الحداثة؟

حيفا حديثة أكثر من كل عواصم الدول العربية، فالناقدة والشاعرة الكبيرة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي تقول إنها لم تجد ملامح ما بعد الحداثة إلا في قصيدة سميح القاسم، فليهدؤوا ويطمئنوا، فأنا لست على استعداد لمغادرة وطني كي أكتب في ظل بريق باريس ولندن ونيويورك، أنا باق في وطني وقضيتي هي قضية وطن وتراب وأرض وليست إنشاء ودفعت ضريبة ذلك من شهرتي، لأني أعاقب عربيا على بقائي في وطني. البعض يقول لي إذا خيرت بين دمغك بنجمة داوود وبين الرحيل، ماذا تختار؟

وأنا أقول لهم إني أختار أن أدمغ من جبيني، لكني لن أرحل، فالوطن ليس شعراً ولا إنشاء ولا كلاما، الوطن ممارسة والتحدي الأكبر أن أبقى في وطني، حيث أستطيع أن أحمي حبة تراب، وأستطيع أن أحمي مقبرة وشجرة.

يقال إن محمود درويش حاول الانسلاخ عن ثوبه الوطني والقومي، وحاول استبداله برداء كوني وأنك إذا ما حذوت حذوه، فإن أبواب أهم الجوائز في العالم ستفتح لك..

منذ سنوات عرضت على جائزة إسرائيل، وحينها جاءني أستاذ جامعي عراقي وأبلغني بذلك، فقلت له إنه بعد أن يقدم ياسر عرفات جائزة فلسطين لشاعر إسرائيلي في القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، حينها يمكن أن أعدكم بأني سأدرس الموضوع إيجابياً، قال أنت تخطئ لأنه بعد جائزة إسرائيل ستكون جائزة «نوبل» مضمونة لك، قلت إن جائزة فنجان القهوة المحطم في بلودان في سوريا هي أكبر جائزة يمكن أن يحلم بها شاعر وإن هذه المقايضة مرفوضة،.

فضلاً عن أن الكثيرين ممن حصلوا على جائزة «نوبل» لا تصل قاماتهم إلى قامة حزامي، وأنا أعرف أن جائزة «نوبل» أصبحت مسيسة تمنح لكاتب صيني مجهول نكرة، لأنه يهاجم النظام وتمنح لكاتب سوفييتي من الدرجة الثالثة في حينه لأنه يهاجم النظام، لذلك أنا لا أريد جائزة «نوبل» .

ولا أي جائزة أخرى إذا كانت مشروطة بهذا الشكل المشين، ومحمود درويش أنظف وأشرف من أن يبيع تاريخه وجذوره من أجل جائزة، علماً بأن ثمة شعراء وكتاب عرب وغير عرب فعلوها وتنكروا لشعوبهم وتاريخهم وجذورهم وتراثهم وليساريتهم أيضاً مقابل جائزة.

كيف تتوقع انعكاسات المتغيرات السياسية في الوطن لعربي على المشهد الثقافي العربي؟

منذ عقد من الزمن أو أكثر وأنا أطلق في وسائل الإعلام نداء أقول فيه إن الثقافة خندقنا الأخير، إذا انهار هذا الخندق فستتحول الأمة العربية إلى ما يشبه دول أميركا، حيث ينتهي الرابط التاريخي والحضاري ولا يبقى إلا اللغة، وننتهي كأمة ونصبح دويلات، وهذا ما يحاول الاستعمار والصهيونية فرضه على العرب، تعزيز الإقليمية والقطرية والقبلية والمذهبية والتعصب الديني، لذلك فالثقافة خندقنا الأخير.

وعلينا حماية هذا الخندق والدفاع عنه بشراسة. وأعتقد أنه سيحدث تغير عميق، كما أن الثقافة العربية ستنبعث وتزدهر بشكل مدهش وستظهر أسماء جديدة في الأدب والشعر والفكر والفلسفة والبحث العلمي، وأنا متفائل بطبيعتي ومحمد البوعزيزي عندما أحرق نفسه أنتج عنقاء الرماد العربية.

ما هو عنوان ما تبقى من مشروع سميح القاسم الجديد؟

لدي مشاريع تحت الطبع ونشرت، مؤخراً، حكايتين، الأولى منهما أطلقت عليها اسم (حكاية بيبليوغرافية)، ولا أسميها رواية رغم استحسان النقاد لها والثانية (إلى الجحيم أيها الليلك).

وفرغت في الآونة الأخيرة من حكاية اسمها (ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يومياً) عن حياتنا وصراعنا مع العنصرية الصهيونية في الدولة العبرية، وستصدر خلال أيام وأنا منغمس الآن بعمل (هواجس في طقوس الأحفاد)، وهو عبارة عن (سربيه) ستصدر خلال فترة وجيزة كذلك.

*عن صحيفة البيان الاماراتية

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *