إشارة :
كتاب (جيم جديد – قصّ) للمبدع جابر خليفة جابر الذي ينشره موقع الناقد العراقي في حلقات هو واحد من أهم الكتب الثقافية التي صدرت بعد الاحتلال. فبالإضافة إلى أنّه يتناول مفاهيم وأحداث وشخصيات ثقافية وفق نظرة جديدة وبعضها يُطرح لأول مرة ، فهو أيضا تشريح لمعضلاتنا الثقافية ومحاولة طرح حلول لها بدلا من النواح والتشكي. أمّا أسلوبه السردي الهادىء و “الحياتي اليومي” فقد أزال عنّا التباس وصفه على الغلاف بأنه “قص” لأول مرة. وللأسف لم يحظَ هذا الكتاب المهم بالمناقشات المطلوبة التي نتمنى أن تثيرها محاولة نشره هنا. تحية لجابر خليفة جابر.
(24)
لوحة العميان
صعدت على سلم الحاجات ، درجة درجة، حتى بلغت قمة المثلث الذي رسمه ماسلو لحاجات الإنسان ، وجدته يتأمل لوحة الرسام الهولندي الشهير بروجل
( إمثولة العميان) فسألته :
– ما معنى هذه اللوحة؟
– عميان يقودهم أعمى وهم منساقون معه الى الهاوية!
– وهؤلاء مشمولون أيضا بتدرجات سلمك السايكولوجي المفترض؟
– الجميع مشمول.
– طيب لماذا برأيك ترتفع نسب الانتحار في الشعوب المرفهة كالسويد وجيرانها الاسكندنافيين والغرب عموما؟
– لأنك تقف على الدرجة العليا فلم تنتبه إليها، عدم إشباعها هو السبب ،درجة تحقيق الذات البشرية وهي درجة تزداد أهميتها كلما أشبعت الحاجات الأخرى أو توفرت، وخاصة عند العقول الكبيرة والأخيلة الخصبة، كالمفكرين والمبدعين..
– قد يدحض ما تقول حالتنا العراقية فاغلب المبدعين العراقيين خاصة الرافضين للاستبداد عانوا قبل التغيير حرمانا حتى من أبسط درجات سلمك، أي جاعوا وعاش الكثير منهم بقميص واحد واستعاضوا عن سيارات الأجرة بأحذيتهم أو بما يشبه الأحذية، لكن أحدا منهم لم ينتحر وما تزال معاناة العديد منهم مستمرة.
ضحك ماسلو وقال – أمر طبيعي ومبرر فمرجعيتكم الحضارية والثقافية برافديها( العراقي الأنباطي والاسلامي العربي) تحول دون الانتحار الجسدي، ألستم ورثة كلكامش المحب للحياة والباحث عن الخلود ؟
– جواب وجيه ،لكنه يفند تنظيرك عن سلم الحاجات .
– لا يا صديقي ، أنتم أيضا تنتحرون لكن بطريقة تناسبكم ، أنتم شعب الكتابة الأولى والقراءة أعلى شعوب الأرض إنتحارات ، ولكن معنويا، فاغلب مبدعيكم وهذا واضح في كتاباتهم ومنجزاتهم وعموم مثقفيكم إلا قليلا يمكنك ملاحظة لغة الانتحار من حواراتهم وآراءهم وقراءاتهم للواقع الاجتماعي والثقافي وتعاملهم معه، أغلب هؤلاء استبدلوا الانتحار الجسدي وهو ثقافة غريبة عنكم وغير محبذة ( حتى القاعدة اضطرت لجلب الانتحاريين من بلاد أخرى مع وجودها في العراق!) استبدلوا الانتحار الجسدي بآخر رمزي أو معنوي عبر توهين ذاتكم وقتلها والتبرؤ منها ، من الذات العراقية والإعراض عما يتعلق بها من تراث ومأثورات شعبية وحكايات لاينضب معينها ما زال غيركم يغترف منها بنهم، ولجأوا إلى السكر بثقافات الآخرين وتراثهم ومنجزاتهم وكتبوا قصائدهم ورسموا شخصياتهم ورواياتهم وفقا لصورة الآخر ومتطلباته.
ما قاله ماسلو لم يدهشني كثيرا فهو واضح فعلا ، فقط نحتاج للتوقف عنده ودراسته وتحليل أسبابه، وإذا كانت مؤسساتنا الثقافية بشتى ارتباطاتها الحكومية وغير الحكومية غير مؤهلة بعد لهكذا وقفة مهمة ، علينا أن نلفت انتباهها أولا ، ونتحمل نحن المبدعون مسؤولياتنا ونباشر قراءة واقعنا الثقافي والمعرفي والإبداعي ومراجعة مساراتنا ، ومع وضوح الامر أردت أن أعضد ما هو واضح بشهادة من الرجل وسيقتنع به أصدقائي حتما! خاصة وإنه من خارج بلادنا ، الخارج الذي نستريح لساديته ونحتفل بعُمانا في ظله ! لذا سألته مجددا..
– وما الحل برأيك سيد ماسلو؟
ابتسم وهو يمرر إصبعه على وجوه العميان الستة في لوحة بروجل ، واحدا، واحدا ، ثم قال وهو يغادر مبتعدا..
– أعيدوا قراءة أنفسكم وأفكاركم، إقرأوا هذه اللوحة جيدا ولا تكونوا مثلهم عميان بعضهم يقود بعض إلى الهاوية، هاوية الانتحار!
وكما يتكاثر السائرون في هذا الاتجاه الأعمى تتكاثر الأسئلة أمامنا ، إلى أين؟
ولم لا نعمل على تخليق هوية وطنية جامعة ؟
مضى الاحتلال العسكري عابرا المحيطات ، لكن الثقافي الذي يستوطن ذواتنا ويدفعها إلى الانتحار أخطر منه ومن الهيمنة الاقتصادية وأوجع ، فلم لا ننتبه ؟ ولا نحاول إزالة الغبش والعشو النهاري قبل الليلي عن عيوننا؟
لم نحن متلذذون بمازوشية غريبة بعمى الألوان عندنا؟ فنرى المحلي أسود حتى وإن كان ناصع البياض!
وما أشد بياض ونصاعة ما نراه عند غيرنا وان كان في حقيقته كالحا وأظلم!
أليس هذا ما أراد بروجل أن يقوله في لوحته؟
وإن لم تصدق يا أخي وصديقي وقارئي المبدع والمثقف فعد إلى اللوحة ثانية واسأل رسامها بنفسك!
فقط عد إليها ثانية هذا ما أرجوه منك، وسترى حفرتهم ولو ببعض عينك!
بعدها لا أظنك ستستجيب بسهولة الى إلايعاز البارد : الى الأنتحاااار سر..
=====