كل عام ، في مثل هذا الصيف تحتضن صالات سينما مجمع فلاجيه في وسط العاصمة البلجيكية بروكسل آخر انتاجات السينما الأوربية في مهرجان تحرص علي رعايته سنويا مؤسسة الأتحاد الأوربي ومؤسسات اخري منجوا هذا المهرجان الحيوي الحياة بعد ان تنقل منذ تأسيسه في اماكن عدة واختلف حتي موعد انعقاده حتي استقر منذ خمس سنوات في مكانه الحالي وموعده قبل انطلاق موسم العطلات وكأنه توقيت يشبه توقيت رأس السنة وانتها العام وبدء عام جديد حيث العطلات هي ذروة لبداية موسم جديد.
في هذا العام كما في العام الماضي حل سينمائيون شباب يقدمون افلامهم للمرة الأولي فضلا عن في سينمائيين وجود مخضرمين.. هنالك تجارب مهمة وجديرة بالتوقف عندها وهنالك مسارات جديدة يختطها السينمائيون القادمون من العديد من بلدان هذه القارة الا انهم بصفة عامة يتشاركون في مجموعة من المعطيات الأجتماعية والتجارب والمواقف والخبرات ، هو سطح انساني تتفاعل عليه التجارب وتبرز الظواهر ويتأكد الغياب شبه التام لنظام النجومية في مقابل الأنتاج المتقشف وغير اامعقد الا باستثناءات قليلة ، الموضوع هو سيد الموقف وهو الذي ينشغل به هؤلاء السيمائيون اكثر من اي شيء آخر.. سنبدأ بالتوقف تباعا عند اهم الأفلام التي عرضها المهرجان الفيلم الدنماركي “ليس كل شيء سيئ ” للمخرج مايكل منتش فالس: دراما الاحلام المبعثرة والعذابات الجنسية هي دراما هذه الحياة المبعثرة التي مهما افترقت الشخصيات فأنها سوف تلتقي مجددا في مكان وزمان ما لأنها تعيش الشقاء نفسه والعناء نفسه ،شخصيات تطاردها اسئلة تتعلق بحياتها ومستقبلها ، هي تعيش جميعا في مجموعة (قواقع) مغلقة علي نفسها لايربطها رابط في الظاهر ولكنها سرعان ماتلتقي مرارا وتتشظي حياتها وتتبعثر مجددا.. وفي الحقيقة ان الجدل الذي يخص الذات وهي تعيش عزلة نفسية واجتماعية يحيلنا الي صراخ صامت نكاد نسمعه مدويا عابرا للمسافات فكل الشخصيات تريد تأكيد ذاتها بشكل ما والأمساك بأي خيط يؤكد وجودها.. حياة في شكل دائرة كبيرة تضم اربعة دوائر لأربعة شخصيات تختصر صورة اجتماعية معبأة بالأزمات وكأن (الجنس) ولذة الجسد تتحول عندها الي بديل تؤكد فيه وجودها.
المراهق بائع اللذات ومنتجها
نبدأ من جوناس (الممثل سياستيان جاسن) هذا الشاب تبدأ نقطة التحول في حياته ساعة اشتعال الخلاف بين والديه وانفصالهما ليلتحق بأمه ويقف الي صفها ولكنه في الحقيقة لن يرافقها في حياتها المقبلة بل انه يعد الأفتراق عن والديه بمثابة بداية حياة جديدة له شخصيا حتي اننا لانراه ولا في مشهد واحد طيلة الفيلم مع امه بعد مشهد افتراق والديه ومنذ لحظة افتراقه عن ذاك وهو يهيم علي وجهه يقدم نفسه نموذجا مهشما لذات بائسة فهو جاهز لأن يسأجر لتقديم خدمات جنسية رخيصة للرجال والنساء علي السواء.من بين طرائده صاحب البار الذي يتسكع فيه ثم امرأة في خريف العمر يتقرب اليها فلما تصحبه الي منزلها للمتعة تفاجأ انه يطالبها بثمن من جراء خدماته وهكذا تمضي حياته مابين الخمر وبيع المتعة.
دائرة الفراغ المخيف
وهذه العجوز انديراس (الممثلة هينريك بريب) تبدأ حياتها ساعة موت زوجها وانفصال ابنتها عنها لتعيش بشكل مستقل ، تجد نفسها وهي تعيش في فراغ مخيف وتحاول ان تملأه بممارسة لعبة (البنجو) احيانا ولكنها في الحقيقة تلاحق ظل رجل تريده ان يملأ فراغ حياتها وبعد تلك التجربة مع ذلك المراهق يلاحقها موظف نادي البنجو الذي يصحبها بسيارته وماان يبدأ بمغازلتها وهي ترفض حتي يغشي عليه وهو معها في داخل السيارة ، يصاب بنوبة قلبية يموت علي اثرها في مشهد عبثي يدفعها للضحك من المصادفات العجيبة التي يمكن للمرء ان يمر بها وتتأكد محنتها مجددا في انصراف ابنتها عنها تماما وعدم اجابتها علي الرسائل الهاتفية التي تتركها لها لتلتقي في اخر المطاف وهي بانتظار ماسيؤول اليه حال رجل البنجو مع رجل آخر كان يعالج في نفس المستشفي لتتطور علاقتهما سريعا.
رجل الفرص المحطمة
ربما يكون هذا الرجل انجبورج (الممثل بولدي جورجنسين) مثالا مركبا للشخصية الأشكالية فهو بعد انفصاله عن زوجته وعيشه حياة مستقلة وانصراف ابنه جوناس عنه يكون اول مايبدر منه من بحث عن بديل لأمرأة اخري ان يذهب الي الحديقة العامة وهناك يصادف فتاة شابة تجلس لوحدها وبما لاتتوقعه الفتاة ولا المشاهدين يخرج لها عضوه التناسلي بشكل بشع ومقزز ليستمني امامها ثم ليذهب في اليوم التالي الي الطبيب النفسي وهو يشكو له عزلته وعدم قدرته علي الأرتباط بفتاة ويروي له مشاعره الجنسية في جلسات اعتراف متتابعة ولكنه خلال ذلك وفي حياته العملية يبدو متجهما عابسا لايعير اهتماما لأية فتاة من حوله حتي الفتاة التي تشاركه العمل اليومي في المكتب وتتحجج في نسخ بعض الأوراق لغرض ان تلفت نظره فأنه لايدري ماحقيقة مشاعره تجاهها بالضبط ولهذا لايبدر منه اي رد فعل ايجابي سوي التجهم والعمل المتواصل.وامتدادا لحركته المفاجئة مع فتاة الحديقة يقدم علي فعل اغرب واشد مازوخية وهو أقدامه علي قطع عضوه التناسلي حيث ينتهي به المطاف ان يخضع لجراحة في المستشفي وحيث يلتقي تلك العجوز التي كانت بالأمس في مغامرة مع ابنه جوناس ومن دون ان يعلم بالطبع بقصتها معه فيقع ذلك التواصل الودي بينهما.
امرأة في مدار رجالي مقفر
هذه الفتاة آنا (الممثلة ميلي ليفيلد) هي اختصار لنوع آخر من الشقاء ، هي الدائرة الرابعة من بين الدوائر الثلاث الأخري ، هي معلمة الأطفال وحيث حتي الأطفال في هذه الدنيا غير السعيدة يمارسون النميمة ويتداولونها ، ولهذا هم يتبادلون رسما يرسمونه لمعلمتهم آنا وهي بثدي واحد بعد استئصال الآخر بسبب السرطان وتصدم هي ان حتي هذا المجتمع الصغير والبريء البعيد عن الأهتمام بهذه الأمور هو الآخر يمكن ان يكون ندا لها ويكشف عن سرها وعقدتها ولهذا لاتتورع عن كشف صدرها امام تلامذتها ثم لتعيش محنتها مع ذلك النقص وهي الشابة اليافعة بأن تتأمل في المرآة صورتها الأفتراضية وهي بثديين..
وبسبب ذلك ولتوقعها صدمة من سيرتبط بها فيما لو اكتشف انها بثدي واحد تعجز عن التواصل مع اي رجل وتجد في الأفلام الأباحية بديلا ، ومن المزري ان تكتشف هي افلاما اباحية تباع في الأسواق لأناس معاقين بعضهم مقطوع اليد او الساق وبعضهم مثلها بثدي واحد ولهذا تثور علي وضعها المزري وعزلتها وتقرر ان تكون هي ممثلة في افلام البورنو وفي اول تجاربها تلتقي شريكها في العمل وان هو الا الفتي جوناس نفسه الذي يحوم في كل مكان ويقوم بكل عمل فاسد ورخيص لسد حاجته المادية والنفسية والجنسية معا وللمرة الأولي تكتشف آنا معني المعاشرة الجنسية ولذتها من خلال ذلك الشاب الوسيم.
العالم اصغر: الدوائر الأربع ستلتقي الأم والدة آنا تلتقي والد جوناس الذي كان اظهر عضوه لآنا في الحديقة وآنا تلتقي جوناس في ذلك الفيلم الأباحي وهو الذي كان قد خاض مغامرة مع امها.. الأم تدعو ذلك الرجل والد جوناس الذي تعرفت عليه في المستشفي لكي يمضيان ليلة رأس السنة لكنها تقرر ان تدعو ابنتها آنا ايضا لكي تحضر العشاء وتتعرف علي صديق امها الجديد ووالد جوناس يلتقي ابنه بعد انقطاع ويدعوه الي حضور العشاء مع تلك السيدة التي تعرف عليها اخيرا.. تلتقي اضلاع المربع ، الشخصيات الأشكالية المعطوبة في زمن لايعلمونه ومصادفة لم يحسبوا يوما انها ستقع وسبب لم يدركوا من كان وراءه وكل منهم يحمل مرآة نفسه وخباياه واحباطه وعجزه.. .يلتقون وجها لوجه في شبه صدمة عندما يري واحدهم الآخر دون ان يفصح ان له تجربة سابقة معه..
الشخصيات والسرد
والحبكة الدرامية
علي الرغم من اننا ازاء صورة اجتماعية مجردة لنماذج عابرة من هذه الحياة الا ان مايمكن التوقف عنده هو تلك الشخصيات التي تعكس ازماتها وقلقها وتمردها واحباطها ، شخصيات تداري عيوبها القاتلة وعذاباتها في افعال يومية تعتقد انها ملك لها وانها بعيدة تماما عن انظار الآخرين ، هكذا ترسم خطوط السيناريو تلك الحياة الصامتة المشتتة للشخصيات.
بموازاة ذلك يتعمق السرد الفيلمي من خلال الأنتقال الذكي بين تلك الخبرات التي لاتحمل في حقيقتها مفاجآت كبيرة ولا تحولات درامية استثنائية مفاجئة لكنه عرضحال اجتماعي قاس لشخصيات تصنع تلك الدراما التي اسمها الحياة.
من اغرب مايمكن هو ان تنحصر تلك الشخصيات وتجد نفسها وهي محشورة في المباشرة التامة لمحاكاة الجسد وتاليا لفكرة الجنس الذي كل شخصية ترسم له شكلا ما مع انه ليس شكلا محددا واضحا بل انه ضبابي تماما ، هو تعبير مجرد عن فكرة الحاجة الفطرية للبشر؛(انا اريد) هذه الحاجة هي التي تشكل محور اشتغال الدراما الفيلمية من دون ان تحمل حبكات قوية تتعلق بتحولات مؤثرة.
يمكن القول اننا امام مشكلات نفسية مركبة تعصف بكل شخصية من الشخصيات بمعني اننا امام دراما نفسية ــ اجتماعية اكثر من اي شيء آخر وامام شخصيات تدرك جيدا ان هنالك نقصا ما وحاجة متفاقمة وصراخا ذاتيا ولكنها لاتعلم اين ستجد اجابات عن اسئلتها وتلبية لحاجاتها حتي نصل الي النقطة التي قررها صانع الفيلم ان تلتقي تلك الشخصيات المأزومة بعوالمها المختلفة لتكون عالما ربما سيكون واحدا وهو حل اهتدي اليه المخرج بشكل تبسيطي من دون ان يذهب بعيدا باتجاه اية بدائل واحتمالات اخري: الأفضل لهذه الشخصيات بدل ان تنتحر كما هو معتاد في مجتمعات الغرب او تنتهي الي المصحات النفسية او ادمان الخمر والمخدرات هو ان تلتقي وربما تبدأ حياة جديدة.. ربما..