أ.د. إخــلاص بـاقـر النـجــّار : رصاصة في الرأس (9 – القسم الأخير)

(9 – القسم الأخير)
المشهد التاسع عشر
هنيهة حتى خرج الطبيب من صالة العمليات … فوثب عليه أبو بارق والدموع تتطاير من عينيه … رحماك دكتور … أنا أبوه .. اخبرني الحقيقة … هل من أمل … ينتظرني به …
الطبيب : لقد أجريت له عملية جراحية واستخرجت الرصاصة من رأسه …
الأب : والأمل في نجاحها .
الطبيب : الأمل معقود بالله … وإذا فاق وتعرف عليكما … ثم ان الحياة والموت بيد الله تعالى … وليس بأيدينا فنحن مجرد وسائل …وبإمكانك رؤيته بعد عشر دقائق عندما ينقلونه إلى الغرفة … وعندما أخرجوه المضمدين بالنقالة المتحركة ( السدية ) متوجهين إلى غرفة العناية المركزة … دخلت طيف وعائلتها … وعندما رأته هكذا … كأنها غارت في جوف أخدود طويل تلاطمت أمواج البحر وهاجت ووابل الدموع ينحدر على خديها … وهي ترى بارقاً معصّب الرأس دون حراك …. ماذا حدث … ماذا حدث عمي … ماذا حدث … هاشم …( اخبروها القصة الكارثة ) ، لكنها غرفة العناية المركز ة سمحوا لهم برؤيته ولكن … كل شخص بمفرده لعله يستجيب لأحد … دخل الأب محاولاً نسج عباءة الأمل بخيوط العنكبوت …. ثم دخلت طيف … ودموعها تتطاير وهي تقبل يديه وتطلب منه ان يسمعها فقط … بارق أنا حبيبتك طيف … إذا كنت تسمعني فقط اشر لي … إشارة واحدة فقط …
ثم دخل هاشم … وقد تورمت عيناه من البكاء … وقد مسك يديه …. يكلمه … بارق هذه الخفافيش التي جاءتنا وحلقت فوق رؤوسنا على خشبة المسرح … أتذكر الحلم المشؤوم … قد تحقق الآن … ليتني … استطيع أن أفديك بروحي … لا أسامح نفسي أبداً … لأني تأخرت عليك خمس دقائق … ليت الرصاصة اخترقت رأسي ولم أرك في هذه الحالة … ثم راح ينشد … وهو باكياً …..

زئير الردى

مالها الأيام تزأر …
زئير الردى في المقابر
تشنق الأنفاس في مقصلة القدر
وتغتال الفرحة فوق المنابر
وترميها بعيدا هناك ….. هناك ….
في واد ٍ سحيق في أسفل المنازل
إذ لا منى … لا رجاء… لا لقاء لا قناطر
نح أيها القلم كنياح ثكلى ….
ابكي أيتها الورود … إنسدلي أيتها الستائر
وأملئي بدمعك قرطاس الحياة ….
فقد أعلنت الأيام الحداد بالرماح والخناجر ….

وأم بارق : لا تنفك من الإتصال … على نقال بارق الذي اقفله الأب … ونقال يوسف … أجابها وقد سيطر على حزنه … نعم أم بارق … نحن بخير … لكنك تعرفين إجراءات المستشفى … قد يكون في كاحله كسر … والمسؤول على جهاز الأشعة غير موجود … ونحن الان … دخلنا في العصر … فأقترح الطبيب ان يبقى في المستشفى إلى الغد …
أم بارق : يا حسرتي … على ولدي … ولماذا نقاله مغلق … اسمعني صوته القلق يحرقني على نار هادئة … ارحمني أرجوك تعال خذني إليه أرجوك ..
أبو بارق : ان شاء الله … عندما ننتهي من اجراءات الأشعة … وضع الطبيب له مغذي فيه مادة مهدئة … ثم ان هاشم سيبيت معه اليوم … اطمئني يا امرأة ولا تتصلي بعد نحن في المستشفى … أنا سأتصل بك لاحقاً … إلى اللقاء … إلى اللقاء ….
أم بارق راحت تتحادث مع أم هاشم …. وتقول لها ما قاله …. زوجها …. ثم قالت … اشعر ان يوسف يخفي عليّ امراً عظيماً … يقول ان الطبيب وضع له المغذي …. مغذي لوجود مشكلة في الكاحل … يا ألهي … وانه سيبقى في المستشفى … هذه الليلة … ثم راحت تتصل بهاشم …. إلا أن نقال هاشم مغلق … ثم اتصلت بنقال طيف … فبقي يرن دون أن تتمكن طيف من الرد عليها … وبقيت أم بارق … الوحيدة التي لا تعرف ماذا حلّ وماذا سيحل بفلذة كبدها وهو بعيدٌ عنها … ولأول مرة في حياتها …غطى الليل الكون بعباءته السوداء … والأبوان كل منهما في مكانه والله يفعل ما يريد … حيث كل منهما لسانه يلهج بالدعاء والابتهال … أنتصف الليل … ولم تستطع الأم النوم … عاودت الاتصال بابي بارق … ليطمئن قلبها … إلا أن يوسف لم يستطع الرد عليها … وأعطى النقال لأخيها …
معاذ : ان يوسف نائم … والنقال قربي … اطمأني بارق بخير وهو نائم ايضاً … وهو برعاية الله … غداً ان شاء الله سيجبسون قدمه … ويخرج من المستشفى … نامي الآن …
ام بارق : كيف يغمض لي جفن ولا اعرف ماذا حلّ بولدي … ثم إني لا اعرف … كيف لم ائتي بمفردي إلى المستشفى … لرؤية ولدي .
معاذ : غداً غداً ان شاء الله … ما هي إلا سويعات فقط …
أما طيف أرادت أن تبقى … لكن ذويها … لم يسمحوا لها … وقالوا لها غداً فجراً ان شاء الله سنكون هنا … وهذا رأي سديد … أما هاشم فبقي جالساً على الكرسي … جنبه … يراقب ملامح وجهه وجسمه ولم ينقطع من الحديث …. وفتح أرشيف ذكرياته معه … على الرغم من مطالبة المرافقين … بان يخرج ويستلقي ليستريح … وبقي هكذا حتى الصباح … وعندما جاء الطبيب لمعاينة … المريض الذي أجرى له العملية … طلب من هاشم ان يخرج … ويتركه بمفرده … فتح عينه بيده … ثم وضع السماعة على قلبه ليتأكد من نبضه فوجده …

المشهد الأخير
جاء الطبيب ليعلن حالة مريضه … الذي أجرى له العملية يوم أمس … وكل الأحبة احتشدوا … عند الباب بانتظار إعلان الطبيب … حيث الأب والأعمام والخال والحبيبة والأصدقاء …..الخ ، وعندما انتهى الطبيب من معاينته … لمريضه …. وجده قد فارق الحياة … سحب الشرشف الأبيض ليغطي وجهه الجميل … الذي دخل كل القلوب التي عرفته … تطايرت … صور بارق … طفولته …. صباه … شبابه … ضحكاته … وقفاته الجادة … تمثيله لدور المصلح … كل صوره التراجيدية والكوميدية تناثرت على رؤوس المحبين وذهبت أدراج الرياح …. وانسدل الستار على المسرح الذي حلم به صديقه …
خرج الطبيب من الغرفة ليعلن النبأ الذي سيشق أسماع كل الحاضرين … ثم اتجه إلى الوالد وقال له … البقية في حياتك … وعظم الله لك الأجر في ولدك … ثم ذهب إلى مقصده … يا لهول ما ذاع من خبر … قال الأب إنا لله وإنا إليه راجعون ولا أقول إلا ما يرضي الله … ثم أجهش في البكاء وطيف وهاشم … وكل الأحبة وثبوا عليه صارخين … حتى عجت المستشفى بالبكاء … ومعاذ الذي راح ينشج بحرقة وهو يقول ماذا أقول لسارا … وبأي مصيبة اخبرها …. لكنها مشيئة الله يا يوسف … ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم … وأنت المؤمن الذي عهدنا إيمانك من قبل … وليس أمامنا سوى الصبر … ولنقم المأتم في داري فهي أوسع … ثم توجه بقوله لأقارب يوسف … أكملوا انتم إجراءات شهادة الوفاة … وسيقام المأتم في بيتي … وسأذهب أنا إلى أم بارق لاصطحبها معي إلى بيتي ….
وصل معاذ إلى منزل أخته وهو ينوء بحمل الخبر الذي يثقل كاهله … وبعد التحية … المشكوك في فهمها … قال … أ … ثم سعل سعلة مفتعلة … تحشرج الكلام في فمه … ان بارق سيخرج من المستشفى العصر … ويوسف أرسلني إليك … لاصطحبك إليه …
أم بارق : نعم … ها … انأ متأهبة … للذهاب .. هيا هيا … لكن عيونك متورمة.
معاذ : نعم هذه مسالة طبيعية لأني لم اعتد المبيت في المستشفى … لنذهب الآن فالطريق مزدحم …
أم بارق : لحظة واحدة … فقد هيأت لبارق … السمك اللذيذ الذي يحبه … والشاي الحار … وحالما سمع معاذ ذلك حتى سالت دموعه منحدرة على خديه … وذهب مسرعاً إلى السيارة دون ان تلاحظه …. ثم جاءت وصعدت السيارة وهي تحمل معها الأمتعة … وبينما هما في طريقهما … قال لها … فقط أمر على منزلي … أصلـّي وأتناول لقمة … لأني لم أتناول … الفطور حتى الآن … ثم نذهب إلى المستشفى … ساور الأم الشك في تصرفات معاذ … وانه يبدو على غير عادته …. وعندما وصلت إلى البيت … رأت زوجة أخيها متألمة وقد تورمت عيناها من البكاء …. وفي هذه الأثناء اتصل يوسف بمعاذ … وسأله هل اخبر أم بارق … أجابه … بان الكلمات انتحرت على لسانه … وهي الآن في منزلي … أجابه ستعرف أكيد بعد لحظات … نحن متوجيهن لبيتك ومعنا بارق … وما هي سوى خطرات حتى اجتمع الأقارب والأحبة يتباكون في بيت معاذ …. وجمهرة عند الباب …. وهم ينظرون إلى النعش الذي توجه إلى شارعهم بجلبة متأججة من البكاء والألم … حتى توقفوا تلقاء الباب …
أسرعت أم بارق إلى الباب مطلة بذهول على النعش الواقف لدى الباب …. وكلما سألت أحداً أجابها باكياً … من في التابوت ؟ … فغرت فاها … واتسعت حدقتاها … وراحت تبحث في الوجوه الباكية … المتطلعة صوب التابوت … ثم قالت … وهي تتشبث بيوسف … أين بارق … ثم صاحت بأعلى صوتها صارخة … يوسف … بمن العزاء …. أجابها : انه بارق … انه ولدنا … ثم جثا على ركبتيه جنب التابوت الذي وضع على الأرض وأجهش بالبكاء … وعندما سمعت الأم النبأ وكان صعقة كهربائية صمّت إذناها وأعمت عيناها … وقالت العزاء بولدي …. ثم أنها سقطت على الأرض … لم تحتمل الصدمة … مفارقة الحياة …….
عرس في الفرات
تلاطمت أمواج البحر وهاجت
محتفلة بالاختطاف ….
وفجأة انطفأت الشموع
وتبعثرت قبل موعد الزفاف
وأصبحت طيف كزورق تائه بلا مجداف
أثاث قديمة مهجورة
أصبحت كلها متلاف
دموع حارقة ….
تجري كجريان النهر بلا ميقاف
أضاءت قناديل العرس
في البحر على الغريق المدناف
وتناثرت على سطحه
أكاليل الزهور بإنتصاف
وتمزقت كل بطاقات الفرح قبل الليل الرهيب ….
وكشرت الخفافيش بوجه يوسف
………………………………………….
………………………………..
……………………….
الأستاذة الـدكتـورة
إخــلاص بـاقـر النـجــّار
كلية الإدارة والاقتصاد / جامعة البصرة
قسم العلوم المالية والمصرفية
جمهورية العراق/ دارالكتب للطباعة والنشر
الطبعة الأولى ، 2010
Ikhlass004@yahoo.co

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

| زياد كامل السامرائي : عصيان يعدو إلى حتفه.

اتركي لنا كذبة بلون الرجاء يا حياة كذبة لا تدوس على خواطرنا فتجرح الصراط نمشّط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *