جابر خليفة جابر : جِيم جَديد (قَص)
(19) قوارب زيد

إشارة :
كتاب (جيم جديد – قصّ) للمبدع جابر خليفة جابر الذي ينشره موقع الناقد العراقي في حلقات هو واحد من أهم الكتب الثقافية التي صدرت بعد الاحتلال. فبالإضافة إلى أنّه يتناول مفاهيم وأحداث وشخصيات ثقافية وفق نظرة جديدة وبعضها يُطرح لأول مرة ، فهو أيضا تشريح لمعضلاتنا الثقافية ومحاولة طرح حلول لها بدلا من النواح والتشكي. أمّا أسلوبه السردي الهادىء و “الحياتي اليومي” فقد أزال عنّا التباس وصفه على الغلاف بأنه “قص” لأول مرة. وللأسف لم يحظَ هذا الكتاب المهم بالمناقشات المطلوبة التي نتمنى أن تثيرها محاولة نشره هنا. تحية لجابر خليفة جابر.

(19)

قوارب زيد

في قونية على أرض تركيا الحالية، لم يطق مريدو جلال الدين الرومي وطلابه شغف مولاهم الشيخ بالتلميذ الجديد شمس الدين التبريزي، وهكذا اختفى التلميذ الآسر لروح إستاذه، كيف ؟هل رحل أم قتل أم هرب؟ لا احد يعرف الآن، لكنه غاب فجأة وغاب أستاذه الرومي يبحث عنه، عقدة نفسية استحكمت عندهم ففعلوا ما فعلوا، ربما سيتناولها كاتب بقصة أو مسرحية كما فعل بوشكين حين كتب عما قام به ساليري ضد موزارت، وقد يتصدى عالم نفس مشرقي لدراسة هذه العقدة النفسية كما فعل فرويد ويونغ عن عقدة أوديب والكترا وغيرها..لكن سيرة المبدعين خاصة في المشرق وفي الغرب أيضا، حفلت بسلوكيات إنسانية سامية، منها ذاك الإيثار الرائع بين عبد الحميد الكاتب وتلميذه ابن المقفع حين داهم الحرس العباسي بيت الأستاذ لإعتقاله وكان كل منهما يقول أنا عبد الحميد، يقولها الأستاذ ليحمي تلميذه، ويصرخ بها التلميذ ليفتدي أستاذه..ومنها ما حدثني به صديقي الروائي زيد الشهيد..

الروائي زيد الشهيد

في المربد، بعيدا عن المتن الممل، وكل هوامش المرابد ممتعة، التقيت زيدا، زيد الشهيد، ومضينا معا، معنا آخرون، إلى القرن الراحل، إلى أواخره تحديدا، كنت مختنقا أوقاتها أو أكاد، حين رسا قاربه عند قلبي، قارب زيد وكانت رسالة منه، من اليمن، ثم حطّت رسائل، حطّت أو رست، لا فرق، فكلها تحمل إليّ ما أتنفسه، أخبارا عن الأدب، وقصاصات صحف ومجلات تتضمن قصصا نشرتها في الخارج، لم يكن زيد مضطرا لتحمل عناء ذاك، إنما كانت صداقة روحين بيننا ولم نلتق حينها، لم أره قط ولم يرني، لكنها القلوب بسواقيها التقت، ورأت..
استحضرنا مع كاسات الشاي أيامنا، مرة لم تسعني البصرة على اتساعها ولم يطفو بي شط العرب، حين وردتني رسالته كأنها قارب إنقاذ وهي تحمل مجلة أصوات الصنعائية وعلى صفحاتها تربعت قصتي(الحصان:قائد العربة) هو من نشرها هناك وهو من مضى بها إلى بريد صنعاء وبعثها إليّ، ليفرحني، أليس أهم مهام الإنسان أن يصنع الفرح.. فرحت بقصتي وفرحت أكثر بإنسانية صديقي، وثمة فرح ثالث شدّني، قاص من اليمن إسمه (وجدي الأهدل) كان لما كتب ثمة فرادة وسرد جاذب فاستقر في الذاكرة، بعد عشرين عاما، على هامش المربد، سألت زيدا عنه، عن الاهدل، وكان الوقت ضحى وكانت الجمعة، وكان يحبه ..

الروائي وجدي الأهدل

تلك الأيام أواخر القرن العشرين كان وجدي الأهدل بعدُ شابا صغيرا ونشر قصصا جميلة لفتت انتباه أدباء اليمن إليه، واحتفوا به، كان جريئا في تجاوز بعض التابوات في دولة مركزية السلطة ومجتمع شديد المحافظة، وكأنه كان يعبر عما عجز عنه الآخرون فشجعوه، النقاد والأدباء ونشروا له، حتى طبع رواية له بعنوان (قوارب جبلية) فصدر قرار بمنعها، وصدر قرار بإلقاء القبض عليه، فاختفى، كما اختفى شمس التبريزي، لكن من بطش السلطة، لا من أصحابه الذين جهدوا في حمايته وإخفائه عند احدهم، وأشاعوا انه غادر البلاد، لم يكتفوا بذلك، بل كتبوا إلى الأديب الألماني المعروف وصاحب نوبل (غونتر غراس) ودعوه إلى التدخل عبر نفوذ بلاده لحماية وجدي وحمل حكومة اليمن على العفو عنه..نص جميل فعلا، “حالي” بلهجة أهل اليمن ، وحلو بلهجتنا في العراق، لكن الأحلى منه أن يستجيب غونتر غراس للنداء، ويتدخل، والأحلى مذاقا وفعلا ومتعة إن غراس لم يكتف بالتدخل عن بعد وهو في المانيا، بل حزم حقيبته وتوجه إلى صنعاء ليكمل قصة إبداع إنساني رائعة، شاهدُها زيد الشهيد ورواها لي، ضحى الجمعة على هامش المربد وبعيدا عن متنه الراكد الرتيب..
منذ شهر، أكثر أو اقل صرخ غونتر غراس بقصيدته (لماذا علي أن أبقى ساكتا) أدان عدوانية اسرائيل وحذر من خطر قنابلها النووية، فقامت قيامة تل أبيب والمؤسسات المتحكمة بالثقافة العالمية، أموال اليهود كلها ولوبياتهم، تحركت لخنقه وإدانته لأنه صرخ وكان مختنقا، هاجمه نتنياهو شخصيا ورددت أبواق الأخ الأكبر، اليهودي هذه المرة، لا السوفيتي! وصبت لعناتها على غراس..
وأنا أقرأ الآن رواية الكاتب اليمني علي المقري(اليهودي الحالي= اليهودي الجميل) أضحك على حالنا، أضحك قرفا، وبمرارة أتساءل: يا أدباء العرب، أيها المبدعون، يا أحبتي، على الشرط الإنساني أن يتحرك فينا ولو قليلا، لنرسل بقارب ما، شبيه بقارب زيد أو قارب غونتر غراس الذي رسا به على ساحل صنعاء من اجل قاص شاب مغمور، اسمه وجدي الاهدل، قارب إنقاذ صغير، صغير جدا، ولو من ورق ..

=====

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

تعليق واحد

  1. سوسان جرجس

    إنّ ما يميز هذا النص كونه يخرج بنا عن الأدب الكلاسيكي المستهلك لنكون أمام أدب السيرة الذاتية بأسلوب فريد يتمكن فيه الكاتب وبمهارة وشاعرية أن يمزج ما بين “موضوعية” مفترضة وذاتية أدبية عميقة الجذور… إن نص “قوارب زيد” نص متمكن يتلاشى فيه ذلك السور الفاصل ما بين المصير الاجتماعي والسيكولوجيا الفردية… والأجمل من كل هذا أنّ يختم جابر خليفة جابر نصه هذا بلهجة غاضبة ناقمة على الركود الذي نحن فيه رغبةً منه في تغيير ما… فأي تغيير هو ذاك الذي يطمح إليه؟ سؤال برسم تأويل وقراءة كل منا….. تحياتي واحترامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *