المشهد الثالث
وما هي إلا بضعة أشهر خلت … حتى بدأت بالونات الأمل والتفاؤل تتطاير في سمائهما … والساعات الآتية محملة بالمفاجآت السارة … لا سيما وان سارا في شهرها الثامن للحمل … وان الطبيبة إسراء تبشّر سارا وزوجها يوسف بان هذا المولود سيكون من نصيبهما … وما عليهما إلا ان يعدا العدة لاستقباله … فترى الأم كالمجنونة وهي ترتب ثياب الوليد المرتقب … ولعبه الكثيرة الجميلة … وسريره الأبيض المزركش بالأحمر … وحمامه الصغير … الذي يسبح فيه ذو المحرار الطبي الصغير الملصوق … بأحد جوانب الحوض الصغير … لتقيس درجة حرارة الماء قبل ان تضع وليدها فيه … أما الشامبو فأغلى وأرقى الأنواع وعلى ذلك قس …
وهكذا مرّت الأيام على درجة كبيرة من العناية والحذر والحيطة واستشارة الطبيبة … إلى ان وصلت الشهر التاسع … وكل الأنظار مصوبة نحو سارا … ترى هل ستوفق في هذه المرة … هل ستدخل الكرة في المرمى … هل ستصبح اماً ؟؟؟.
حتى جاءها المخاض … يا له من يوم مرتقب … أسرع يوسف بتوتر خارجاً ماسكاً مقبض الباب بقبضة فولاذية …حتى كاد ان يقتلعها من مكانها وهو يسير بخطى سريعة … إلى الشارع حتى كاد ان يتعثر في طريقه … في الوهلة الأولى لم يحظ بأية سيارة تذكر في الشارع … مما أضرم القلق في صدره وهو ينظر إلى الشارع نظرات حادة قلقة … إلا ان الحظ حالفه هذه المرة لان سيارة قادمة … وان كانت تسير بخطى وئيدة … وكأنها قد صنعت منذ العشرينات … على الرغم من ذلك يوسف استبشّر خيراً بها وسارع إلى استئجارها … وهو يشير للسائق اتجاه المنزل … بعد ذلك ركض نحو داره ليساعد سارا على الخروج وصعود السيارة العجوز … إلا ان النزف داهمها … مما أربكها وزوجها … مما زاد من سرعة يوسف على الحركة وهو يثب على باب السيارة ليفتحه ويدخل سارة داخل السيارة … وكأنه يدعّها دعّاً ، إلا ان السيارة العجوز … راحت تمشي وكأنها تترنح ثملة هذا كل ما تستطيع من قوة … فضلاً عن رائحة الوقود الكريهة المتصاعدة فيها … التي تكاد تكون مصدراً من مصادر القيء … وكل لحظة يحض يوسف السائق على السرعة … فيجيبه السائق هذه أقصى سرعة يا سيدي … وهكذا سارت السيارة في مشهد كئيب حتى وصلت مستشفى الولادة …فأسرعوا بسارا إلى الداخل … حيث صالة الولادات …
المشهد الرابع
بقي يوسف ينتظر في الخارج قرب الباب وهو حائر مرتاب … هل سيكون أب … هذه المرة … تمتم قليلاً ثم قال في دخيلة نفسه المهم سلامة سارا …اللهم لا أسالك رد القضاء ولكن أسالك اللطف بنا … وهو على هذه الحالة يردد الدعاء قرب الباب … دقائق حتى تجمع قربه ذوو سارا والمحبون … مرت ثلاث ساعات ويوسف يذرع الأرض جيئة وذهاباً … حتى رمق ممرضة خرجت فأسرع الخطو وبلهفة لسؤالها وبصوت متحشرج … ها .. رحماك أيتها الممرضة خبريني عن حالة زوجتي وطفلي … قالت له الممرضة متنهدة : للأسف أنها تعاني ولادة متعسرة … وقد أخبرتها الطبيبة بعد ساعة سنضطر لإجراء العملية القيصرية لإنقاذها وجنينها .. .
ازدادت ضربات قلب يوسف وأحمّر وجهه وأصـفر … وقال بصوت مرتعش مـ مـ ماذا … عملية … وقد يحدث مكروه … ثم رفع يديه متضرعاً قائلاً يا رب ألطف بنا يا رب ألطف بنا … وبينما الطبيبة تعدّ العدة وتحضّر لإجراء العملية … فرّج الله تعالى عليها بولادة طفل جميل ذكراً … إلا أن الوليد لم يعلن للجميع عن مجيئه … لم يدق أجراس الصراخ … جاء أصم أبكم وئيد … فأومأت الطبية بأسى إلى انه ميت … ويا لهول ما سمعت الأم … كان كجلبة مدوّية شقت إذنيها وأفقدتها صوابها مجهشة بالبكاء والنحيب …
خرجت الطبيبة منهكة متألمة من خيبة الأمل ولشدة الأسى الذي تكابده سارا … وبينما هي تسير في الممر المؤدي إلى غرفتها بخطى كسيحة … وثب عليها يوسف قائلاً : ها .. حضرة الدكتورة ماذا حلّ بسارة وجنينها أراك عابسة الوجه واجمة …
الطبيبة متنهدة : أنت مؤمن بقدر الله تعالى … الأم بخير والبقية في حياتك في الطفل …
اطرق يوسف رأسه وقال في دخيلة نفسه إنا لله وإنا إليه راجعون وقد فاضت عيناه بالدموع وهو صامت …
لقد عانى الأمرين طوال كل هذه السنين الخوالي الخمس … من حياتهما حتى الحلم الأخير الذي طالما عاش في مخيلتهما … والذي طالما تشبثا به … كما يتشبث فاقد الأمل بخيوط العنكبوت … بالرغم من وهنها وقلة حيلتها وجدواها … ولكن عسى ولعلّ … ان تتحول هذه الخيوط الواهنة للأمل إلى خيوط أمل سحرية يحيك منه القدر طفلاً يملأ حياتهما سعادة وغبطة وسروراً … بيد ان سارا … استسلمت للقنوط من جديد … ويوسف كما كان مؤمناً بأن الله سيرزقه طفلاً يوماً من الأيام … كان كلما توالت رزاياه … إزداد تمسكه بسارا … وتأججت في نفسه روح الصبر والمؤازرة … والحث على تحمل الرزايا … لأنه على يقين تام من قول الله تعالى : (( ان مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا )) ،لا محالة … لا محالة …ولابد ان ينتظر الإنسان ماذا يخبئ له القدر في ثنايا طياته المبهمة التي لا يطّلع على سجلها احد … فقد رفعت أقلامها … وجفت صحفها منذ الأزل … استطاع يوسف أن يجعل زوجته سارا تتكيف وتتجاوز الأزمة التي دارت في رحاها … ولابد من الاستمرار في مراجعة الطبيبة … ومحاولة تجنب الأسباب التي أدت إلى موت الطفل … ولنرى ماذا يخبئ لنا القدر في الآفاق ….
الطبيبة : عزيزتي سارا أرجو ان لا يؤثر الإجهاض المتكرر هذا في مسيرة حياتك … علاقتك بزوجك … بالآخرين …وكل جوانب حياتك الأخرى … وهذا لا يعني نهاية العالم بالنسبة لك.
سارا متنهدة بأسى : حتى وان كنت قد منيت بالفشل طوال سبع سنوات خلت من أعمارنا …
الطبيبة : أراك كثيراً تبلدين ذهنك بفكرة الإجهاض بدرجة انك أصبحت ترين الولادة والإجهاض سيان … إلا إني أريد أن أقول لك … بأنك لم تجهضي هذا الطفل … وإنما ولدتيه كاملاً بعد ان أكمل تسعة الأشهر … إلا ان النزف هو الذي أودى بحياته كما تعرفين … والأمل معقود بالله …
سارا : أي أمل هذا الذي تتكلمين عنه يا دكتورة …
الطبيبة : وكيف حال العقيم ماذا تقول … فما عليك غير التحلي بالصبر لأنه مفتاح الفرج …
سارا : ليس لديّ طاقة كامنة منه .
الطبيبة : اصطنعيها بنفسك وكما يقولون ان الذي يروم وصول الشمس حاك خيوطها طريقاً إليها … صمت الاثنان برهة … وهما جالسان يتسامران في ليلة صيفية في الشرفة الجميلة … المطلة على الشارع المزدحم بالسيارات والمارة … وفي نفس كل منهما الم مترسب ممزوج بتصميم روحي على الصبر … كلاهما يتحاور مع نفسه وهو يحتسي كوب الشاي … على الرغم من ان الطقس صيفي مبدر… الآن وللحظات لا يمكن تفاديها البتة … كانت تستيقظ في أعماقهما نشوة الحياة ويتفجر ينبوع الهوى دافقاً رقراقاً ليروي ترع حياتهما ويملئها من مائه العذب السلسبيل القراح … شربة تمحي غصة الألم وتروي الظمأ … وبصمت تبادلا النظرات … وكأنهما عاشقين جدد …
تطلعا لبعضهما صامتين … وقد كانا في حالة من الجد هنيهة ثم ضحكا لاستغراقهما بطرق أبواب المستقبل المقفلة … ثم باغت يوسف سارا بسؤال سريع …
أتعرفين ما أريد قوله الآن .
سارا : ماذا تريد ان تقول …..
يوسف : إن الطفل القادم سيكون من نصيبنا ان شاء الله …
سارا : نسال الله تعالى اليسر بعد العسر .
يوسف : ان الشمس عندما تتبلج تأتي بعد ظلمة قاتمة مميتة … تحطم قيود الدجى وتفرض نفسها على الكون …
وهكذا تأقلما وتكيفا على وضعهما المأزوم من جانب … ومن جانب أخر لابد من الحفاظ على الدعة والاستقرار لئلا يجرفهما التشاؤم إلى تيار الهاوية …وان لا يسيرا على خريطة الماضي … ولا يسمحا له بان يرمي بظله الثقيل على مسارت الحياة المستقبلية … أي ان الإنسان دائماً ينظر للإمام دون الالتفات إلى بصمات الماضي … وهذا ما يفسّر خلق الله تعالى عيون الإنسان في مقدمة رأسه لينظر دائماً إلى الأمام …
أنا والليل والأرق
أهرب من سهدي لحظة وأناجي
ثم اشتاق إليه وأدخل القفص
لأنه أنيسي في وحدتي
وسهمي الصائب حين يقنص
هو ساحب قلمي على صحراء الورقة ليرسم نغمات وعليها ينص
هو لساني الجريء
الناطق الهادر بأحاديث وقصص
سهداً يا صديق جفوني التي لا تفارقك
لحظة وترهص
يا شعاع إلهامي وأشعاري
وناقشاً ظلامي بدر مرصص
لبيك … ألف لبيك عندما تناديني
مناداة صديق مخلص
يا منى الروح ومهجة القلب
الليل طويل … هيا لنرقص …
…………………………………..