حوار مع الفنان المعروف “برهان صالح” (القسم الأول)*

الفنان برهان صالح

* حاوره الفنان “فاضل ناصر كركوكلي”
يكتسب الحوار ُ مع الفنان المبدع – برهان صالح – أهمية ً إستثنائية و شجونا ً خاصة لأسباب كثيرة منها معاصرة الفنان لمرحلة ٍ زمنية هامّة من تأريخ الفن المعاصر في نهاية السبعينات التي شهدت بوادر َ مرحلة ما بعد الحداثة في العراق من خلال أسماء ٍ فنية و بصمات ٍ واضحة لجيل التمرد على الأطر التقليدية و القوالب الإستهلاكية بالإضافة الى تطويرها و تعميقها مرحلة الحداثة التي رسّخها جيل ُ الرواد في مراحل سابقة ، كما يكمن الحديث ُ عن هذا الفنان ألقا ً خاصا ً في إمتلاكه جدارة ً فنيّة عالية و شخصية ً تتجاوز ذاتها بإستمرار في صميم الحركة الفنية العراقية أو ما يمكن ُ تسميتها بوجودها في قلب الحدث الفني العراقي الزاخر بالمدارس الفنية المتنوعة و بالتيارات و المناهج الجمالية المختلفة وبأسماء فنية أرست خصوصية الفن العراقي الأصيل بإستلهامات و توظيفات رموزات شعبية و تأريخية بتقنيات رائدة في الفن بالإضافة الى معاصرته تنوع َ إطر المدارس الفنية الغربية في المهجر و منذ سنوات عديدة و إسهاماتـَه الفنية العديدة في معارضه الشخصية و الثنائية و الجماعية في إظهار خصوصية الفن الرافديني في خارج العراق ، لذا تماهى حديثـُنا معه بالبحث الفني في الثمانينات من القرن الماضي ممهورة ً بنكهة الصدق و الصراحة في تجربته الفنية التي لا تليق ُ إلا بشخصية الفنان ( برهان صالح ) الكركوكلية الشعبية المتواضعة و النقيـّة بدون أية رتوش حيث تذوب فيها شموع ُ الذكرى بنيران ِ المساهمة الواقعية بإيجاد ِ الفن الخلاّق …..!!

الفنان فاضل ناصر

سؤال/ أستاذ برهان – كيف تسنـّى لك الدخول الى عالم الفن التشكيلي الرحب … أقصد ُ المؤثرات الأولى في مسقط رأسك .. كركوك …؟؟
الجواب/ بصراحة .. إنني وجدت ُ نفسي من الصغر محبا ً للرسم ، وكنت ُ أستغلُّ معظم أوقاتي في ممارسته و كانت الأجواء تلائمني كثيرا ً لممارسة تلك الطقوس الجميلة لذا فإنني أعتبر ُ نفسي محظوظا ً لأنـّي عشت ُ طفولتي و صغري في كركوك وفي تلك المنطقة الشعبية المليئة بالحيوية و النبض الإنساني وهي محلة المصلـّى المعروفة باناسها الطيـّبين و المـُحبين للحياة و العيش الكريم ، ..
 لقد كانت البيوت في تلك المحلة كلها تشكـّل بيتا ً واحدا ً و كأنـّه بيت أهلك و أقاربك و كانت عوائل تلك المحلة تبدو عائلة حقيقية واحدة بالإلفة والترابط و كانت تلك العوائل تجتمع ُ كل مساء في بيت من بيوت الجيران حيث يبدأ كبار َ السّن يقصـّون علينا أجمل القصص من الخيال الواسع و نحن نجلس ُ في حوش الدار أو في الغرف المزدانة بالمواقد الشتوية لنستمع الى تلك الروايات الغرائبية عن الميراث الفولكلوري الخالد لشعبنا الى أن ننام … لقد كنت في الصباح أحاول ُ تقليد تلك الصور التي إستقرت في مخيلتي على الورق و الجدار أو على أبواب البيوت او على الارض في محلتنا وكنت ُ لا أحتاج الى الطباشير او القلم لكي أرسم لأنني و بكل بساطة أقوم بكسرِ أو تقطيع قطعة صغيرة من حائط الجدار المبني من الجص الابيض الناصع لأقوم بعملية الرسم , كما كنـّا نقوم في كل سنة بطلي سطوح بيوتنا بالطين الأحمر للوقاية من تسرّب مياه المطر وكنت أجلب ُ هذا الطين وأعمل منه دمى صغيرة و أشكالاً دقيقة لقد كانت بيوت الأزقة القديمة كلها مبنية من الطـُرز القديمة الأصلية و المليئة بالزخارف الجصـّية الحافلة بالصور النباتية و الزخارف الحيوانية و أشكال الطبيعة بالإضافة الى الزخارف الطينية والخشبية التي كانت تعكس ُ أشكال الآزياء الشعبية والحكايات والأساطير الموروثة المرسومة بدقة من قبل نجارين ذوي خبرات في الرسم الفطري ولازلت ُ ، الى يومنا هذا ، أحتفظ ُ في ذاكرتي صورة طائر البـُراق المرسومة على الجرار الخشبي (چكمه گه ) بالإضافة الى إحتفاظي بالصور الجميلة لعالم طفولتي الزاهية بالخيال المجنح المليء بالميثولوجيا الشعبية ، فكم هو جميل و مدهش بأن يتذكر الإنسان بأنه يعيش في وطنه و أرض أجداده الذين ولدوا و ماتوا فيها ففي كركوك كانت الأشياء كلها توحي بأنني عشت ُ في طفولة ٍ غارقة بالإيحاء و النور بين أهلي و أصدقائي لذا أحاول الآن أن أجسّدَ هذه المفردات الجميلة و النادرة التي ولجت الى دواخلي من عالم ٍ رائع الى عالم أروع وأجمل وهو الرسم والتعبير الفني …
لقد كنت ُ أعتبر نفسي أحيا في كركوك ولكن بعد غربتي عنها أصبحت كركوك تحيا في داخلي و تعيش في إشراقة قلبي حتى أصبحت جزأ ً كبيرا ً من كياني إبتداء ً من المدرسة الإبتدائية و المتوسطة و إنتهاء ً بالإعدادية في بغداد و حتى حصولي على الجوائز في الرسم والمسرح وسفري الى ايطاليا لإكمال دراسة الرسم و المسرح و سفري الى ايطاليا لإكمال ِ دراسة الرسم بعد الدراسة الإعدادية …
سؤال/ كيف كانت التحولات الفنية في دراستك بمعهد الفنون الجميلة في بغداد ، ومن هم الأساتذة الذين تركوا بصماتهم في أعمالك الفنيّة الأولى ..؟؟
الجواب/ أتذكر ُ بعد إكمالي الدراسة المتوسطة قدمت ُ طلب الإنتساب الى معهد الفنون الجميلة عام ( 1975 ) وبعد إجتيازي الامتحان العملي بنجاح و باشراف الفنان المرحوم ( شاكر حسن آل سعيد ) و أساتذة آخرون ، كان عليّ أن أجتاز إمتحانا ً آخرا ً وهو الأهم بالنسبة لهم ، وليس بالنسبة لي في كل الاحوال ، حتى يتسنى لي الدخول الى المعهد وهو إمتحان سياسي بحت عن مدى إلتزامك و إخلاصك للحزب و الثورة و ليس للوطن و المواطنة العراقية لذا قاموا بطردي فورا ً بعد أن قلت لهم بأنني رسام ومن ضمن المقبولين بالمعهد و ليسَ لي أية علاقة بالسياسة فاضطررتُ الى إكمال الدراسة الإعدادية سنة(1978 – 1979) فتكرر نفس ُ القصة معي في أكاديمية الفنون الجميلة فسافرت الى إيطاليا مضطراً و أكملت ُ دراستي هناك و بعد رجوعي الى العراق في سنة ( 1981 ) أعتقلت ُ أربعة شهور بسبب إقامتي معرضا ً فنيا ً مع الأصدقاء التشكيليين العراقيين بتهمة الإساءة للحزب الحاكم و بعد إطلاق سراحي منعت ُ من السفر الى خارج العراق فبقيت إتصالاتي مع أساتذة معهد الفنون و الأكاديمية الذين أبدوا لي جميع المساعدات و الملاحظات لأعمالي الفنية و لوضعي المؤلم لأتمكن من الخلاص من تلك المحنة الأليمة وكان للمرحوم الفنان شاكر حسن والفنان الكرافيكي رافع الناصري وفنانون آخرون الفضل الكبير في إستمراري و في بقائي في الساحة الفنية العراقية حتى تمكنتُ من تطوير أعمالي الكرافيكية ليصبح لي رصيدا ً من المشاركات الفنية الطويلة مع الفنانين الرواد والشباب منذ عام ( 1981 ) ….
سؤال/ ما هي قصة إنعطافك نحو فن الكرافيك الذي لقي إستحسانا ً واسعا ً من النقاد العراقيين ..؟؟
الجواب/ قصة ممارستي فن الكرافيك قصة غريبة تأخذني الى طفولتي التي كنت أجرّب فيها  ُطرق الرسم على الحائط المطلي بالجص ّ الأبيض ، وبما أن الطباشير الأبيض لا تظهر الملامح َ الدقيقة و الواضحة على الحائط الأبيض ففكرت حينها بإستخدام الفحم و تحديدا ً فحم الخشب المحروق فكانت النتائج رائعة في تحسسي بتوظيفات الحيثيات الدقيقة في إستخدام الأسود و الأبيض ، و عندما كنت ُ أرسم على الحائط كنت ُ أحسُ بملمس الحائط الخشن وبالتالي كنت ُ أتحسس ُ بنشوة غريبة تلك الأيادي التي قامت بطلي البناء من البنائين الأوائل ، ومع التركيز العميق لهذه الجدران كان باستطاعتي رؤية الأشكال الأسطورية الضاجّة بالمخلوقات عن عالم خرافي و ميثولوجي مليء بقصص الخيال التي سمعتـُها في بواكير حياتي والتي ركزت ُ فيها على كيفية تجسيد تلك المفردات الفنية الخاصة على الورق أو القماش …..!!  
سؤال/ كيف كانت تجربة أول عمل كرافيكي الذي أنجزته ..؟؟
الجواب/ في فترة شبابي تعرفت ُ على الفنان الكبير يونس كلو الذي أصبح فيما بعد صديق العمر والذي كان يدرس في معهد الفنون وقتئذ فإطلعت ُ في بيتهم على مكتبته الفنية التي كانت عامرة بالكتب عن فنانين عالميين و عندما سألتـُه عن كيفية إستفادته من هذه الكتب قال لي بأنها مصادر ضرورية للفنان وعندما سألني عن مصادري قلت ُ له بأن مصدري الوحيد لحد الآن هو كركوك وبالذات محلة المصلى و أزقتها فبينت ُ له فكرت الرسم بالفحم فأبدى لي إستعداده بأن يساعدني على توفير مستلزمات الحفر على الـ(لاستيك ) الذي إشتريناه من محل لصنع الأحذية بدل ( الكاوجوك ) ثم شفرات الحفر ، فباشرت ُ فوراً برسم أول عمل كرافيكي الذي كان طباعته يدوية بملعقة الأكل ( الخاشوك ) و بعده بدأتُ بتجربة العمل على الخشب المعاكس والطبع على الورق …
وبعد سفري الى إيطاليا ودخولي الى مشغل الكرافيك هالني عالم الرسم الكرافيكي بتقنياته و أدواته الفنية التي أشعرتني بأنني خلقت ُ لهذا الفن الذي كنت أحلمُ به ، ففي بداية الثمانينات شاركت ُ بأعمالي الكرافيكية في معرض جماعي مع فناني
 العرب والأجانب في إيطاليا في مدينة بيروجيا فنال إستحسان الجمهور بشكل ملفت للنظر مما دفعني بأن أقيم أول معرض كرافيكي في عام ( 1986 ) بعد رجوعي الى بغداد وعلى قاعة ( كولبنكيان ) المتحف الوطني للفن الحديث والذي كان برعاية الفنانين التشكيليين المعروفين ( إسماعيل الشيخلي ) والفنان ( نوري الراوي ) والذي ترك صدى ً واسعا ً في الاوساط التشكيلية العراقية ونال إمتداح الجمهور والنقاد على حد سواء … إذ كان هذا المعرض اللبنة الأولى لدخولي الساحة الفنية العراقية ….!!

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| بلقيس خالد : مع (أيام البصرة المسرحية) لهذا العام 2022 / حوار مع الفنان الأستاذ مجيد عبد الواحد.

مع (أيام البصرة المسرحية) لهذا العام 2022 كل ما يقدم على خشبة المسرح هو مجرد …

| عباس محمد عمارة : حوار مع الشاعر والمترجم السوري ماهر حرامي‎‎ .

بغداد 2022 ماهر حرامي شاعر ومترجم سوري. قال عنه الهايجن السوري أسامة أسعد في معرض …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *