جابر خليفة جابر : جِيم جَديد (قَص)
(8) جائزة من أور

إشارة :
كتاب (جيم جديد – قصّ) للمبدع جابر خليفة جابر الذي ينشره موقع الناقد العراقي في حلقات هو واحد من أهم الكتب الثقافية التي صدرت بعد الاحتلال. فبالإضافة إلى أنّه يتناول مفاهيم وأحداث وشخصيات ثقافية وفق نظرة جديدة وبعضها يُطرح لأول مرة ، فهو أيضا تشريح لمعضلاتنا الثقافية ومحاولة طرح حلول لها بدلا من النواح والتشكي. أمّا أسلوبه السردي الهادىء و “الحياتي اليومي” فقد أزال عنّا التباس وصفه على الغلاف بأنه “قص” لأول مرة. وللأسف لم يحظَ هذا الكتاب المهم بالمناقشات المطلوبة التي نتمنى أن تثيرها محاولة نشره هنا. تحية لجابر خليفة جابر.

(8)
جائزة من أور

في أول الرواق انتصبت المنحوتة الفخارية الملونة بعنوانها الأصفر البهيج
( نساء يقرأن) وبيّن لنا الدليل، إن الفنانة العراقية استوحت فكرتها من بورترية للرسام الهولندي فان كوخ وقد بدا نصف وجهه مضمدا بعد أن بتر إذنه..
كن ثلاث فتيات وأربع نساء بأعمار اكبر ملتمّات حول كتاب مفتوح في حضن إحداهن ثمة ورود متناثرة على شالاتهن وأثوابهن المزركشة، كأن باقة انفرطت توا بسبب تدافعهن للقراءة، لكن مع أية حركة ولو برمشة عين نرى الوردات على شكل أحرف أو كلمات، ثم برمشة أخرى تتبدل أزهارا، وتتماوج ألوانها وهي تتبدل.
لم نفهم الرابط بين لوحة فان كوخ والمنحوتة إلا بعد تدفقت النحاتة بشروحها..
– منذ أن شاهدت هذا البورترية لم أقتنع إن فان كوخ بتر أذنه بسبب نوبة جنون، كنت واثقة بحس غامض من رسالة ما يتضمنها فعله الدموي، رسالة حمراء حادة وصارخة بجنون، وحين اكتشفتها استغربت ولم أزل لأن صمما أصاب العالم فلم يسمع صرخته، كأن كوخ بتر آذان البشر جميعا حين بتر أذنه.
– وما الذي أراده الرسام وتمكنت من اكتشافه أو سماعه؟
– كان يعاني من نقص التعليم، من حرمانه من إكمال تعليمه وهو في سن المراهقة، حاول أن يعوض عن هذا بممارسة التعليم مستعينا بالكنيسة، كي لا يُحرم آخرون مثله، حاول أن يعلم الناس جميعا عبر الرسم، وحين شعر بعجزه عن تحقيق ذاك عمد إلى أذنه فبترها ليقول لنا اقرأوا بدلا عن السماع فقط! تحولوا إلى أعينكم ،اخرجوا منها نور أرواحكم بدلا عن الاكتفاء بالأخذ والأخذ من خلال آذانكم!
– قراءة غريبة فعلا..
– لاشك عندي أنه اكتفى من الصراخ في هولندا وكل أوربا تقريبا فلا أمية عندهم والكل يقرأون، لاشك إنه يصرخ الآن في بلاد أخرى لكنني اسمعها حادة في العراق، وخاصة هنا في أور..
– أمر غريب آخر، لماذا مولاتي السومرية؟
– لماذا!؟ لأن القراءة والكتابة هنا خلقت، ومن هنا أشرقت، لذا اشتغلت هذه المنحوتة لأحرر العراقيين من الأمية وخاصة العراقيات.
لكي نربي أجيالنا متعلمة ومثقفة وواعية ومحلاة بالسلوكيات السليمة وحب الوطن علينا ان نحسن إعداد الأمهات، حينها سيكون العراق جنة أينما حللن.
واصلنا تجوالنا في الرواق السومري لكننا عدنا ثانية إليها، إلى منحوتة العراقيات وهن يتدافعن من اجل القراءة فقال صاحبي: مرت أشهر على الثامن من أيلول (اليوم العالمي لمحو الأمية) ووزعت جوائز اليونسكو/ جائزة سيجونغ الملك الذي اكتشف الأبجدية الكورية المسماة “هانغول” منذ خمسمائة عام/ وجائزة كونفوشيوس.. ترى لم لا تخصص دولتنا الجديدة جائزة عراقية تتدفق فيها روح القرآن الكريم وهو يبدأ بأول كلماته(اقرأ) وأول أداة يذكرها وهي (القلم) وتتدفق فيها أرواح العراقيين الأوائل في أور وسومر وهم يكتشفون الكتابة؟ ولنسمّها جائزة أور للقراءة والكتابة، ما المانع؟ ولم لا نفكر بهذا؟
– وهل يكفي محو الأمية لخلق إنسان فاعل ومعطاء؟
– التفاتة ذكية منك، علينا أن نركز على آذانهم أيضا ونحن نعلمهم القراءة والكتابة، هذا ما أراد أن يشير إليه فان كوخ بإذنه الذبيحة، يقول لنا اغدقوا على أسماعهم بالمعارف، كيف يربون أبناءهم، زودوهم بالثقافة الصحية، بثقافة الترشيد، بالشعور بالوطنية والحفاظ على ممتلكات البلاد، ثقافة احترام الآخر خاصة العراقي، رعاية المخلوقات الأخرى، وحماية البيئة، علموهم كل هذا تحت مظلة اقرأ، لأن اسمع كانت قبلها وان لم تكتب، وإذا تعلم الآباء والأمهات هذه المعارف وان لم يتقنوا الكتابة والقراءة جيدا فسيتعلمها أبناؤهم وبناتهم وعوائلهم ،وبعد زمن ليس طويلا عقدين أو أكثر ستمحى الأمية من العراق، حتى الثقافية منها ستمحى، على أن يرافق ذاك قوانين ملزمة لمحو الأمية لمن هو دون الأربعين أو الخمسين وقوانين ملزمة للتعليم الابتدائي أولا ثم المراحل الأعلى، وأن تجيد الدولة ولو تدرجا إعداد وتطوير كفاءة كوادر التعليم..
كنا منشغلين بهم التعليم حين همست النحاتة بأن وقت العرض انتهى وهي تشير إلى المنحوتة باسمة، كانت الأزهار تتطاير منها وسمعنا فعلا أصوات العراقيات السبع وهن يقرأن بهمسات سومرية ناعمة، فخرجنا على مضض، تمشت همساتهن معنا وكنا نحلم بجائزة أور ..
=====

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. صادق المخزومي  : قصيدة الرصيف للشاعر صباح أمين – قراءة أنثروبولوجية.

مقدمة من مضمار مشروعنا ” انثروبولوجيا الأدب الشعبي في النجف: وجوه وأصوات في عوالم التراجيديا” …

| خالد جواد شبيل  : وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم.

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *