جابر خليفة جابر : جِيم جَديد (قَص)
(5) ثريا المثقف

إشارة :
كتاب (جيم جديد – قصّ) للمبدع جابر خليفة جابر الذي ينشره موقع الناقد العراقي في حلقات هو واحد من أهم الكتب الثقافية التي صدرت بعد الاحتلال. فبالإضافة إلى أنّه يتناول مفاهيم وأحداث وشخصيات ثقافية وفق نظرة جديدة وبعضها يُطرح لأول مرة ، فهو أيضا تشريح لمعضلاتنا الثقافية ومحاولة طرح حلول لها بدلا من النواح والتشكي. أمّا أسلوبه السردي الهادىء و “الحياتي اليومي” فقد أزال عنّا التباس وصفه على الغلاف بأنه “قص” لأول مرة. وللأسف لم يحظَ هذا الكتاب المهم بالمناقشات المطلوبة التي نتمنى أن تثيرها محاولة نشره هنا. تحية لجابر خليفة جابر.

(5)

ثريا المثقف

ضحى الخميس 11 كانون الأول 2011 وانطلاقا من مقر اتحاد الأدباء العراقيين في البصرة القديمة والى حيث يرقد السيّاب والبريكان في مقبرة الحسن البصري شُيع القاص الرائد والمجدد محمود عبد الوهاب بتجمع حاشد – جامع وفريد نوعا وكثرة – من الأدباء والفنانين والمثقفين البصريين لم تشهد البصرة مثيلا له من قبل.
لنأخذ عيني قارئ ما مفترض وهو يطلع على خبر متشح بالسواد كهذا في صدر الصفحة الأولى لأهم جرائد البلاد، بل كلها، ولنرى كيف سيقرؤه؟
قد يأخذه أولا أسم المقبرة إلى البصرة الأولى حيث عاش الحسن البصري والمعتزلة وإخوان الصفا وماريا بنت منقذ العبدي و القصاصين الأوائل أسلاف الراحل محمود كالرقاشي وابن المقفع والحريري وربما سيسحب خيطا طويلا من الأسماء ليصل إلى سليمان فيضي وروايته الايقاظية ، سيعود إليهم جميعا ، إلى ذاته الحضارية ، ليقرأهم قصة قصة حتى يحلّق مع ( رغوة السحاب) الرواية الوحيدة لمحمود عبد الوهاب.
وستتأمل عينا القارىء صورة مختزنة لتمثال السياب على شط العرب وهو يقول
( الشمس أجمل في بلادي من سواها
والظلام حتى الظلام
هناك أجمل فهو يحتضن العراق)
وهذا ما قاله سلوكا محمود عبد الوهاب وهو يصر على البقاء تحت شمس العراق الجميلة وطي ليله الأجمل غير مكترث بغربة من استغرب أو تغرب..
في البصرة بقي وكان عابرا استثنائيا لن تزول ظلاله من على شوارعها و مقاهيها..
وسيتذكّر القارىء المفترض لخبر النعي هذا، ما قاله البريكان وهو يصرّ على صمته متحديا طغيان السلطة أيام انحنى كثيرون وتلطّخ كثيرون واختفى أو هرب كثيرون ، وأيام قالت قلة قلائل كما قال :
( قدمتمولي منزلا مزخرفا مريح
لقاء أغنية تطابق الشروط!
أوثر إن أبقى على جوادي وأهيم
من مهب ريح إلى مهب ريح )
وان لم يستطع القارىء أن يهيم مع الريح رافضا قصور الطغاة وهداياهم فسيتمنى ذلك، ينتمي إليه – عند حد أقل- إلى الهائمة أرواحهم بعيدا عن بلاط السلاطين وموائدهم ..
وسيقف القارىء طويلا أمام عبارة (بتجمع حاشد ، جامع وفريد نوعا وكثرة) سيراهم جمعا غريبا وجميلا فعلا، أجيالا من الأدباء والفنانين والمثقفين البصريين ليس منهم ولا ممثل واحد لأي سلطة، حتى سلطة اتحاد أدباء بغداد لم يحضروا ( كأن محمود، المحمود دائما لم يرتضهم في حضرته!)،سيرى المشيعين، شتاتا مجتمعين، من اليسار باختلافاته ومن أقصى اليسار أيضا وسيراهم من اليمين أو من أصحاب اليمين بالتعبير القرآني ، وسيرى القوميين والوطنيين والمستقلين وحتى من البعثيين المعتّقين ويرى الأطباء أيضا يشيعونه وأطفال المدارس..
ويتساءل، سيتساءل القارىء المفترض : كيف استطاع محمود عبد الوهاب أن يجمع هؤلاء في ظل نعشه، جمعهم في ساعة واحدة ومكان واحد وهم من ألوان شتى ومشارب ؟
لكنه لا يجد جوابا إلا من عند روح محمود المحبة للجميع والمحترمة للجميع، من اختلف معهم ومن اتفق، من شاركه الفكر والمعتقد ومن تباين عنه، تلك الروح الشفافة المستمعة أكثر منها متحدثة والمهتمة بكل صغير وكبير، تلك الروح التي تؤمن فعلا بالرأي والرأي الآخر، من دون تشدّق في العلن ونفي وقتل معنوي في السر كما هو حال من لم يستطيعوا أن يجمعوا مثل الحشد، ومن لن يستطيعون جمعه ساعة يرحلون ..
محمود عبد الوهاب الإنسان قبل المبدع، هو الذي جمعهم، ومحمود عبد الوهاب المتواضع المثقف الواعي لما يقول ويفعل، محمود المبدئي، الذي لم يرطن بمدح ولا بصمت! ولا بمجاملات. محمود المثقف الجامع هذا، هو الجامع لحشد التشييع الجميل كجمال وجه محمود وقلبه وإبداعاته وإنسانيته.
وسيستغرب هذا القاريء من بعض من رأى تشييع محمود – من المتكبرين الذين لا يرون قبلهم أحدا ولا بعدهم – ولا يتواضع أو يسعى إلى التواضع .
سيستغرب القارىء من الذين تغربوا وتؤربوا حتى نال المغيب من أرواحهم كيف رأوا روح محمود المشرقة ولا يزحزحون دواخلهم الثقيلة نحو شمس بلادهم حيث الدفء والإنسانية والمحبة والإبداع العراقي الأصيل.
وسيندهش القاريء – وهو يرى محمود القارىء الكبير- سيندهش من إصرار الكثير من المثقفين واقتصارهم على قراءة الآخر الأشقر البعيد ويتناسون قراءهم الحنطيين السمر، سيندهش لأنهم لا يكتبون إلا من خلال عيون الزرق ولا مكان لسود العيون وحورها وحتى مكحّلاتها محلا عندهم ولا إعراب.
سيسميهم قارىء هذا الخبر: الأعراب ( أعراب الثقافة على غرار أعراب المدينة) أو يسميهم: الأغراب، الأغراب عن الوعي وعن التحضر، وعن الجمال، جمال الشمس العراقية المبدعة وحتى عن الظلام الحاضن للعراق الجميل.
لهذا ربما – يقول القارىء – كان أكثر أدباء البصرة قريبين منه، جل محبيه كانوا يترددون عليه وكانوا أهله وعائلته، عشاقه وأحباؤه، لكن الأقرب إليه من دون الجميع هو حواريه الأجمل الذي رسم بإنسانيته أروع لوحة للمحبة والوفاء والتفاني المخلص وأعني تلميذه الأنجب أستاذنا النجيب ، إبداعا وإنسانية، الأستاذ محمد خضيّر..
سيتمنى القارىء أن تخطط مؤسسات الثقافة عندنا لإنتاج قراء كبارا ومثقفين جامعين ، لإنتاج مثقفين ينتجون السلام ويشعّ السلام من نفوسهم وقلوبهم قبل أن يتراءى من على وجوههم، كما كان محمود عبد الوهاب أستاذ الجميع، مثقفا جامعا ومثقفا سلاما، وسيبقى مثاله السلام جامعا للثقافة الحقّة، وستبقى، شفقة القارىء كل شفقته، كاوية وبالغة المرارة، لأولئك( المثقفين) الذين لبعض درجات تواضع محمود عبد الوهاب ومحمد خضيّر وإنسانيتهما لا يرتقون.

=====

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *