كريم الأسدي : الكريم فوزي كريم (نصٌ نثري) (ملف/8)

الكريم فوزي كريم
نصٌ نثري
كريم الأسدي ـ برلين

وسائل التواصل الاجتماعي تنقل عبر فضاء الأرض ومدنها المتباعدة أخبار موت العراقيين ، موتهم في وطنهم وموتهم في مغترباتهم الكثيرة التي لولاها لكان بالإمكان ان تكون حياتهم أطول وأجمل طبعا ، أو ببساطة تكون أطول لأنها أجمل ، اذ ان العالم كله والبشرية برمتها وبكل تجاربها التاريخية غير مؤهلة الى الآن في منح الانسان وطناً بديلاً حقا عن وطنه الحقيقي أو الأول .. وهذا وضع أوربا وأميركا الشمالية والدول التي نسميها بالدول الديمقراطية رغم ان شاعراً مرهفاً وجميلاً ومحباً لوطنه العراق يصف لندن المدينة التي يقيم فيها بأنها أكثر مدن الاغتراب رحمة !! وفي القول ادانة واضحة لبقية مدن الاغتراب .. هذا القول قرأته قبل أعوام للشاعر فوزي كريم الذي اطلعت على خبر رحيله عن لندن وعن العراق والعالم وعن كل مكان وزمان يوم 17 أيار 2019 وعبر وسائل التواصل الاجتماعي التي لا أميل لهدر وقتي فيها بيد انها أصبحت وسيلة من وسائل معرفتك بالناس والعالم بل وحتى بوطنك أنت البعيد عن الوطن .. قرأت خبراً راثياً ، حزينا وقصيراً عن رحيل فوزي نشره الصديق الشاعر عبد الكريم كاصد في صفحته على الفيس بوك والخبر اشبه بمقطع شعري قصير يحدد صفات فوزي الشاعر الجميل الوديع دون ان يشير الى اسم عائلته أو أبيه كريم اذ يناجيه كريم كاصد كحبيب ، لذا وجدتني أردد وأنا اتابع القراءة وأقول ( بس لا فوزي كريم ) ، انتهيت من قراءة الخبر المرثية لتؤكد لي تعليقات القراء ان المرثي هو فوزي كريم مثلما أخبرني حدسي الذي كنت أتمنى ان لا يصدق لحاجتنا لهذا العارف الرهيف الشريف المحب شاعراً وناقداً ومثقفاً ومفكراً وصديقاً وأخاً منصفاً بيننا ، وهذه الصفات حملها فوزي بكل جدارة .. أهيب فيه رهافة الإحساس واتساع المعارف وكبر الموهبة ودقة التشخيص وذكاء النقد وحدة الوعي وقدرة الفرز ونبالة الثقافة وجرأة المواجهة حتى لو كان وحيداً أمام جيش كامل .. لا يهاب اللغط ولا يغره البريق ولا يعنيه الزعيق ، بل يذهب بحاسته السليمة وذكاء فطرته وتهذيب معارفه لشخصه ووعيه الى الينابيع الصافية حتى لو سبح ضد التيار ، ولطالما عجَّت المنافي بهكذا تيارات قوية ومتسخة لم يقنع فوزي بالابتعاد عنها فقط وانما كان نقدها ـ وأحياناً فضحها ـ من مشاريع حياته .. كان منتصراً أبدياً للجمال والخير والموهبة الحقيقية ، واستطيع الجزم انه ساعد ورعى الكثير من المبدعين والموهوبين الشباب ، وكان يقدم لهم الرأي والاستشارة و يكرمهم وينفق عليهم من جيبه الى درجة شراء الملابس لهم ومنحهم مصروفهم اليومي ، وهناك شهادات بحقه في هذا الصدد الذي لا يتكلم هو فيه .. مكانه الحقيقي كان في عراقه وبغداده وقرب دجلته وفراته وفي كرخه وكرادته في ذاك البيت الذي يطل على بستان نخيل يؤدي الى النهر ، الى دجلة !!.. لم أكن أعرف فوزي كريم حينما نشر لي نصوصاً في الأعداد الأوائل من مجلته الرصينة ( اللحظة الشعرية ) جنب نصوص زملائه وأصدقائه ومجايليه من أمثال سركون بولص و فاضل العزاوي وعبد الكريم كاصد وجليل حيدر ، بل انه نشر تحليلا نقدياً لمجموعتي الشعرية الأولى ( قصر البداية ) في عدد من أعداد هذه المجلة ، ثم طلب مني ان أرسل اليه نصوصاً ومختصرَ سيرةِ حياة ليبعثها الى معجم البابطين الشعري في الكويت ، وقد أرسلت اليه هذه النصوص والبيانات في بريد ذهبَ من برلين الى لندن على عنوانه الشخصي لتحل نصوصي في معجم البابطين .. اتعب مرض القلب فوزي مثلما اتعبته الحياة في العقدين الأخيرين من حياته فانزوى واعتزل ، مثلما زادت الخيبات التي عاشها مع الناس مرارة على مرارات حياته
الخلود له ، فقد منح وأعطى وأكرم وأضاء ولا تزال قناديله تلتمع مشرقةً في دياجير مدن الاغتراب وأضويتها وفي ليل الوطن ونهاره ، ويقيناً انه لم يمت قلباً وفكراً وروحاً وشعراً ، ولأنه لم يزل في قلوبنا وقلوب الذين عرفوه حق المعرفة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زمان ومكان كتابة هذا النص : يوم 21 من أيار 2019 في برلين

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *