حسن النوّاب: كردي من جنوب القلب

الشاعر والصحفي الشهيد "محمد درويش علي"

صفعني نبأ رحيله من شريط الأخبار التي كانت تبثه فضائية الحكومة، كنت حينها اتلذذ بتناول فاكهة شهية، قذفت الفاكهة من فمي ونهضت مثل معتوه فإرتبكت ام اطفالي وظنت ان نوبة جنون قد داهمتني، وحين لمحتْ خيط دمع يهمي من عينيّ ضربت صدرها هلعا وقالت ماذا اصابك؟ قلت لها لقد اغتال الحرمان واهمال الحكومة قنديلا من خيمة الإبداع في بلادي، لم تفهم عباراتي وتركتها وخرجت من الدار بحثا عن شهقة هواء تملأ رئتي وهبطت صورة الشاعر محمد درويش علي امام ناظري بوجهه الذي طالما رأيته باسما برغم الأوجاع التي تكبله، وتداعت الي ذاكرتي تفاصيل الحياة التي اقترنت بهذا الشاعر، هذا الطيب مثل لبن اربيل والعنيد مثل جبل..
كنت اعمل مصححا في جريدة العراق واكتب ايضا علي صفحاتها الثقافية وذات يوم جذبتني قصائد قصار نشرتها الصفحة الثقافية التي تعني بالأدب الكردي كان ذلك في بداية التسعينيات ومع بداية حصار الجوع الذي فتك بالجميع، اعجبتني القصائد وكتبت عنها عرضا انطباعيا ونشرته في الجريدة.. وذهبت الأيام، ذات ظهيرة كنت اجلس في مقهي حسن عجمي فإقترب من مكاني كائن قصير القامة ممتليء الجسم وبرأس بدأ الصلع يغزو شعره.. جلس الي جواري وبصوت حنون يكاد لايسمع قال لي: جئت اشكرك عما كتبته عن قصائدي قبل شهور مضت في جريدة..
لم اتمكن من معرفته اذ كنت حينها قد كتبت عن شعراء وشاعرات جذبتني نصوصهم منهم لطيف هلمت وصلاح شوان وكولالة نوري بالمناسبة هذه الشاعرة التي نضجت احزانهاكثيرا كان اول من اشار الي قصائدها قلمي واول لقاء معها نشرته الصحف اجريته ايضا في ملتقي القصة بداية التسعينات؟!… وشعرت بالحرج لأني لم اتمكن من معرفة هويته ولما اخبرني عن اسمه نهضت وعانقته بحرارة وتوطدت علاقتنا في ذلك الظرف العصيب الذي كان الجميع يدخن سجائر اللف، ودعاني الي مقهاه الصغيرة التي استأجرها في اطراف سوق الشورجة ومنها كان هذا الشاعر العصامي يحصل علي قوت يومه بالكاد، وبعد حوار قصير بشؤون الأدب دهشت من لهجته البغدادية التي تخلو من اية لكنة برغم كرديته العريقة والمتجذرة في دمه، وادركت ان الشاعر الذي اجلس في مقهاه الصغيرة يحمل افكارا يسارية يتمسك بها حد الموت وان مثاله الأعلي الشاعر عبد الرحمن طهمازي الذي كان في حينها قد قرر العزلة التامة عن الحياة الثقافية بعد قصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها: “سقطت الطبيعة من يدي ” .. ولما كنت اعيش في بغداد في حينها واعمل بجريدة العراق،كانت اقدامي الحائرة ويدي الحاسرة تقودني لزيارة مقهاه بين حين وآخر وكان يعرف الهدف من زيارتي ودون ان يحرجني بسؤال يضع في جيبي ما تسير من نقود لديه حتي اتمكن من شراء شيطاني لتلك الليلة، ذات ظهيرة وصلت له متعبا منكسرا وقد تجمعت جميع هزائم العالم بدمي نتيجة تمردي وعبثي في نادي الأدباء وقد اطلقت لساني للإنتقام من كل مايمت الي الظلم بصلة وكنت مرتبكا.. خائفا.. اجلسني علي اريكة قديمة من مقهاه الصغيرة وجلس الي جواري وطلب مني ان اشرب الشاي علي مهل ولما شعر ان روحي مختنقة بالبكاء طلب من زبائنه مغادرة المكان واغلق باب المقهي علينا وقال لي: ابك ياحسن.. ابك حتي تشبع..
وانغمرت بنحيب حارق.. اذكر ان محمد درويش بمحاولة منه الي عودة السكينة الي روحي، كان يمسح دموعي بإصابعه ويتذوق دمعي ويقول باسما: ياله من دمع طاهر ولكنه مليئا بالخمرة.. حتي جعلني اتبسم اخيرا واكف عن البكاء.. عانقني بعنف لكن الدهشة تلبستني فقد بدأ دوره بالبكاء.. بدأ يبكي بحرقة ويغني للمنكوب بصوت مشحون بالشجن الجنوبي الذبيح..
” امر علي الدار.. مهدومة عتبكم.. ذليلة وتكسر الخاطر عتبكم ”
وبعد ان افرغ جرار دمعه الحبيس من روحه الطيبة.. نهض وفتح باب المقهي ثم استدار نحوي وقال لي: هل تسمع نصيحتي؟
اجبته بيأس: اسمعها
قال وقد فتح عينيه مثل معتوه: سيقتلك هذا الوطن فأنت تحبه وهو لايطيق هذا الحب.. ابحث لك عن بلاد اخري..
نهضت وغادرت المقهي ولم اره بعدها الا في جريدة المدي عندما زرت البلاد بعد سقوط الصنم، كنت اجلس في غرفة صديقي الشاعر عبد الزهرة زكي حين اطل محمد درويش وكان يعمل هناك ولما نهضت الي استقباله.. صافحني بفتور ودهشت لذلك، وانصرف عن انظاري.. لما خرجت من جريدة المدي كنت افكر بمحمد درويش علي وبحضوره الخاطف امامي.. قلت مع نفسي.. ربما ان الرجل وجد نفسه اخيرا فمن يكون صعلوك مثلي امامه، لكني طردت هذه الفكرة.. وفي الطريق الي نادي الأدباء وكان معي الشاعر الراحل اديب ابو نوار قلت الي نفسي.. اذا كان محمد درويش يستقبلني هكذا.. فثمة خلل كبير حدث لهذه البلاد.. واليوم بعد ان سمعت بنبأ رحيله.. عرفت لماذا كان لقائي معه فاترا.. لقد تذكرت كلمته التي نصحني بها قبل عشرين سنة عندما قال لي: سيقتلك هذا الوطن فأنت تحبه وهو لايطيق هذا الحب.. ابحث لك عن بلاد اخري..
اجل كان محمد درويش علي بلقائه الأخير معه يريد مني ان لا اموت مثلما مات الآن.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| د. زهير ياسين شليبه : الروائية المغربية زكية خيرهم تناقش في “نهاية سري الخطير” موضوعاتِ العذرية والشرف وختان الإناث.

رواية الكاتبة المغربية زكية خيرهم “نهاية سري الخطير”، مهمة جدا لكونها مكرسة لقضايا المرأة الشرقية، …

| نصير عواد : الاغنية “السبعينيّة” سيدة الشجن العراقيّ.

في تلك السبعينات انتشرت أغان شجن نديّة حاملة قيم ثقافيّة واجتماعيّة كانت ماثلة بالعراق. أغان …

2 تعليقان

  1. خضير الحسني

    من قال انه رحل…مازال فيك يثمل من دمعتك الساكبه يغني للاعتاب وللاحبه الذين لايعرفهم ونسمعه ونراه كفين يرتجفان تمسح الاسى من احداقنا التي تحتضن الراحلين…

  2. مع انك قد انصفته في الكثير من القول لكنك لم تصل سواحله قبل رحيلها عن سفائنها
    التقيته حين تخلت عنه المدى وهو من المؤسسين
    حين اصبح فخري كريم جدارا يمنع وصول الهواء الى رئتيه
    لم يعرفه احد كما عرفت
    كتلة عراقية الالم
    فقر وغربة ولا امل في بناء اسرة
    ذنبي الكبير اني في هاتفي الاخير لم اقل له اني بدونك ما عرفت السعادة ابدا
    وانك اخطأت كثيرا حين خيل اليك اني حصدتها بعيدا عنك وعن العراق
    وجهك الان مع وجهي ينظران الى اللامحدود على صفحة الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *