حين تكونُ عيناها وطناً !
قلتُ لها :
حين جعلكِ القدرُ في طريقي كالشَّجرِ أو كالزَّهرِ أو كالحجرِ ، وأنا ممتلئٌ بالغرامِ ، ومُثقلٌ بالجراحِ ، أحياناً أراني مَلِكاً بلا تاجٍ ، وأحياناً أراني عاملاً يستجدي قوتَ يومِه ، منذ أن عرفتكِ تحرَّرتُ من أشياءَ ، وتقيَّدتُ بأشياءَ ، تحرَّرتُ من اتجاهاتيَ الفكريَّةِ ، ومن فلسفتي في الحياةِ ، تغيَّرت نظرتي إلى الوطنيَّةِ والانتماءِ ، إلى العروبةِ والقوميَّةِ ، وتغيَّرت بعضٌ من معتقداتي ، وبعضٌ من رؤايَ .
لا أعرفُ هل هي مجرَّدُ صدفةٍ حين تعرَّفتُ إليكِ ورياحُ التغييرِ تهبُّ من تونسَ ؟ وهل هي صدفةٌ أن يبدأَ ما اعتقدناه ربيعاً بحريقٍ : أن يحرقَ إنسانٌ نفسَه وكأنَّه طائرُ الفينيقِ ؟ وهل هي صدفةٌ أنَّي تعلَّقتُ بكِ في زمنِ الحربِ والغربةِ ؟
تغيَّرت أوطانٌ وأنظمةٌ وحكَّامٌ وأنتِ ما زلتِ أنتِ ، كم تصاغرت الأوطانُ في عيني حينَ صارت عيناكِ وطناً ، كم تضاءلت صورةُ العربِ في ذاكرتي وكم تشوَّهت حين أدركتُ كيف تُحاكُ الخياناتُ ، وكيف تتشكَّلُ المؤامراتُ ، وكيف تذبُلُ أوراقُ الأُخوَّةِ والمحبَّةِ ، وكيف تُطبخُ الصَّفقاتُ على نارٍ وقودُها شبابٌ وفتيةٌ وصِبيَةٌ في أوَّلِ العمرِ .
كم كنتُ أعشقُ البحرَ والإبحارَ ، والآن حين أقفُ على الشَّاطئِ أقرأُ الفاتحةَ ، وألهجُ بالدُّعاءِ ، فأنا يا حبيبةُ أقفُ أمامَ قبرٍ عظيمٍ . أيُّها البحرُ العظيمُ .. القبرُ العظيمُ إنِّي أغارُ منكَ ؛ فالرِّيحُ التي تمرُّ عليكَ تحملُ إليَّ أنفاسَهم وعطرَهم وأحلامَهم ، فلكَ ولهم منِّي السَّلامُ .
وهكذا يا حبيبةُ دخلتُ معكِ عصرَ الحروبِ والفتنِ والمؤامراتِ ، وقد اقترنَ حبُّكِ بهم كأنَّه اقترانٌ رياضيٌّ ، صعبٌ تحليلُه ، وصعبٌ اشتقاقُه وكأنَّه الاقترانُ المستحيلُ ، وها أنا الآنَ أشبهُ ببحرٍ وحيدٍ معزولٍ عن البحارِ ، هجرتْه الرِّيحُ فلا يصبُّ فيه نهرٌ ، ولا يتنزَّلُ عليه مطرٌ ، فمنذ أولِّ خريفِ العربِ لم يهدرْ له موجٌ ، ولم تغرقْ في حبِّه سفينةٌ ، ولم يتمزَّقْ في ليلِه شراعٌ ، عاجزٌ كأنَّه ما عرفَ يوماً كيف يكونُ الهيجانُ ، ولا ثارَ فيه يوماً بركانٌ ، شواطئُه خجلى ، كأنَّها امرأةٌ محرومةٌ من الرِّجالِ ، ورمالُ تلك الشَّواطئِ لا تُشبهُ الرِّمالَ ، كلَّ يومٍ تنتظرُ أن يصلَ إليها البحرُ ولا وصالٍ ، كلَّ يومٍ تنتظرُ مياهكَ المالحةَ لتستحمَّ كما تستحمَّ العرائسُ والنِّساءُ ، خفتَ صوتُ موجكَ كما يخفتُ ضوءُ نجمةٍ بين الغيومِ .
كم أنتَ ملعونً أيَّها الرَّبيعُ العربيُّ المزيفُ ، ها أنا أنتظرُ انعقادَ زهركَ ، ها أنا أنتظرُ طيوفَ ألوانَ زهركَ ، هل هي بلونِ الدَّمِ ؟ هل هي برائحةِ الجثثِ والأشلاءِ المحذوفةِ على قوارعِ الأرصفةِ والطُّرقِ ؟ أنتظرُ أيُّها الرَّبيعُ الخائنُ مخرجاتِكَ ، أنتظرُ كالمجنونِ صفقةُ القرنِ وصفعةُ الدَّهرِ ، أنتظرُ كالمجنونِ كيف تُباعُ الأوطانُ رخيصةً ، وكيف تتغيَّرُ الخرائطُ وتتغيَّرُ الدُّولُ ، وكيف يتحوَّلُ الوطنُ العربيُّ الكبيرُ إلى أوطانٍ عِبريَّةٍ صغيرةٍ ، كلُّ قبيلةٍ وطنٌ ، وكلُّ طائفةٍ وطنٌ ، وكلُّ فخذٍ من عشيرةٍ وطنٌ .
يا حبيبةُ هل تبقَّى لديكِ أحلامٌ ؟ لم يتبقَّ يا حبيبةُ لديَّ أحلامٌ ، وهل يحلمُ مَن لا ينامُ ؟ آخرُ أحلامي ذلك الحلمُ الذي هاجرَ من ليليَ الثَّقيلِ يبحثُ عن وطنٍ بديلٍ ، وحين سألتُ عنه قالت لي بعضُ الأحلامِ المهاجرةِ من عيونِ الأطفالِ : لمحناهُ يقيمُ وحيداً في عينيها ، فقلتُ لهم : الآن صارَ لي وطنٌ !
د.عاطف الدرابسة