طلال حسن : عصافير من مخيمات نينوى (قصص للأكفال) (7- النصّ الأخير)

المبدع الكبير الأستاذ طلال حسن

الدوامة

خرجتْ من البيت بسرعة ، تاركة صغيرها يصرخ في فراشه ، لقد نفد حليبه ، ولابد له من حليب ، فهو لم يرضع منذ يوم أمس .
وقد طلبت من ضرتها ، الزوجة الأولى لزوجها المقاتل ، الذي غنمها هي في معركة سنجار ، أن ترضع إبنها ، لكنها رفضت ، وقالت لها بتشفٍ واضح : حليبي قليل جداً ، وهو بالكاد يكفي ابنتي .
واندفعت إلى الزقاق ، الذي كانت تملأه الحجارة ، التي انهارت من البيوت المتهدمة ، وأسرعت إلى بيت قريب ، تسكنه عائلة موصلية ، لعلهم يعطونها شيئاً من الحليب لطفلها ، وإن كانت تعرف أنهم يكرهون الدواعش وعوائلهم وحتى أطفالهم .
ورأت بيتاً قريباً ، وكان بابه موارباً ، وهمت أن تتجه إليه ، وإذا قنبلة هاون تسقط عليه ، وتدمر البقية الباقية منه ، واندفعت بعيداً عن الزقاق ، وصادفها شارع مليء بالعربات والآليات المحطمة ، يندفع من أزقة قريبة منه ، أعداد كبيرة من الناس الخائفين الراكضين نحو أعلى الشارع ، حيث تتواجد القوات الحكومية .
ووجدت يازي نفسها وسط الناس الهاربين ، وفوجئت بفتاة ايزيدية في عمرها ، تطبق على ذراعها ، وتصيح بها : أنتِ ايزيدية مثلي ، تعالي نهرب ، إن أحداً لن يعرفنا ، لعلنا نستطيع الخروج من الموصل .
وتوقفت يازي ، وقالت : كلا ، طفلي في البيت .
وصاحت بها الفتاة : أيتها الحمقاء ، إنه ليس طفلك ، أسرعي ، ولننجّ بأنفسنا .
ولم تتحرك يازي من مكانها ، وقالت : مهما يكن ، إنه ابني ، وهو يشبهني .
وقبل أن تنتهي من كلامها ، انفجرت على مقربة منهما قنبلة هاون ، أدت إلى سقوط العديد من الهاربين ، وأعقبها مباشرة سيل من الرصاص يطلقها مقاتلو داعش على الهاربين ، فدفعت الفتاة الايزيدية يازي ، وهي تصيح بها : هيا ، هيا ، سيقتلنا مقاتلو داعش إذا وقعنا في أيديهم هذه المرة .
وخرجت يازي والفتاة الايزيدية من الموصل ، بعد أن تسلمتهما مع غيرهما من الهاربين القوات الحكومية ، وأخذتهم جميعاً إلى إحدى المخيمات ، وهناك أقامتا في خيمة وحدهما وسط مئات الخيام .
وفي الليلة الأولى ، قبل أن تأويا إلى فراشيهما ، قالت الفتاة الايزيدية : لا داعي لأن نبقى في هذا المخيم فترة طويلة ، نحن ايزيديتان .
ونظرت يازي إليها مستفسرة ، فأضافت الفتاة الايزيدية : لنذهب إلى أهلنا .
فقالت يازي : لم يعد لي أهل ، قتلهم الدواعش جميعاً .
وقالت الفتاة الايزيدية : لقد حدثتني عن خطيبك ، اذهبي إليه حيثما كان .
وهزت يازي رأسها ، وقالت : ماذا أقول له ؟ إن لدي طفل من مقاتل داعشي .
قالت الفتاة الايزيدية : لا ذنب لك في هذا ، كما لا ذنب لي فيما أصابني ، نحن ضحايا .
فقالت يازي : اذهبي أنتِ ، سأبقى هنا حتى أجد طريقة للهجرة إلى الخارج .
ذهبت الفتاة الايزيدية إلى أهلها ، وكانوا قد لجأوا إلى الشيخان ، وبقيت يازي في خيمة وحدها لا تعرف ماذا تفعل ، لكن آخر شيء يمكن أن تفكر فيه هو أن تذهب إلى خطيبها ، وهي تعرف أنه في الشيخان أيضاً .
وذات يوم ، عند الضحى ، كانت يازي ماتزال في فراشها داخل الخيمة ، حين أحست أن أحدهم يقف بالباب ، لابد أنها إحدى جاراتها اللواتي كنّ يتعاطفن معها ، لكنها اعتدلت ، وقلبها يخفق بشدة ، حين سمعت صوتاً شاباً يخاطبها قائلاً : يازي .
ونظرت يازي إليه ، إنه خطيبها خضر ، وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة اقترب منها ، وقال : هيا تعالي نذهب من هنا ، يا يازي .
قالت يازي ، والدموع تملأ عينيها : لم يعد لي أحد أذهب إليه ، لقد قتل أهلي جميعاً .
فمد خضر يده ، وأمسك يدها ، وقال : لا تقولي هذا ، يا يازي ، عائلتي هي عائلتك ..
ثم أشار بيده إلى نفسه ، وأضاف قائلاً : إن لديك .. خضر، يا يازي ، ولن أتخلى عنك العمر كله .

الفهرس
ــــــــــــــــــــــ
1 ـ على هامش المخيمات 1
2 ـ العيد 4
3 ـ بعيداً عن تلعفر 7
4 ـ جرو جدي 10
5 ـ بابا 13
6 ـ جدة عائشة 16
7 ـ في مخيم الزاب 19
8 ـ العودة إلى المدرسة 22
9 ـ فراشة في الجحيم 25
10 ـ جنة سعدون 28
11 ـ أم ادميعة 31
12 ـ أين جميلة 33
13 ـ الكابوس 38
14 ـ الملفتة 41
15 ـ الدوامة 45

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| محمد الدرقاوي : كنت أفر من أبي .

 هي  لا تعرف لها  أبا ولا أما ،فمذ رأت النور وهي  لا تجد أمامها  غيرهذا …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *