فاتحة :
ليس القول هنا تنظيرا او رسما لنصوص قصصية آتية ، بل هو إجتهاد إستقرائي لتطورات القص العراقي وإرهاصاته الحاضرة ، فكي يفلح تنظير في تحقيق ما أريد منه يجب ان يستند إلى منجز متميز وجديد نوعا ومتراكم كما، وإذا لم يتحقق إستناد كهذا ستتجه النصوص المنظر لها يمينا اذا ما كان إتجاه التنظير يسارا والمقلوب يصح .
لاشك ان منجزمتفرد نوعيا موجود لكنه لم يرتق بعد لمستوى التركم الذي يجعله ظاهرة او نسقا واضحا- لذا كانت هذه المقالة محاولة لاستقراء مايكتب ولاستشفاف ما سيأتي ضمن إطار المسار القصصي الجديد ، وإنظمت المقالة على عنوانين هما .
1- الترسيس (1) : وهو القراءة – قفزا وإيجازا – لمسار القصة العراقية صعودا من انساغها الاول الموغلة في السرد الرافديني القديم وحتى الساعة القصصية الحاضرة .
2- الرؤى : وهي محاولة اجتهادية لاستشفاف الولادة الوشيكة للنص القصصي القدم إتكاء وانطلاقا – على ومن ارهاصات ونصوص بدأت التبرعم اواخر القرن العشرين (2) وهي بعد محاولة اعتمدت التعميم بتجنبها التخصيص .
الترسيس
فعلت ستينات المائة الميلادية العشرين نقضا وانتقاء وبناء في زقورة القصة العراقية المرسسة جذورها في ازمان لامست فجر التاريخ ومرت انساغها الصاعدة الينا بقصص واخبار الاسر والملوك في العراق القديم ، وبحكم واساطير إحقيار وكلكامش وبتراث السرد الفني العربي الاسلامي * وصولا الى مقامات الالوسي وقصص الرؤيا وحتى طبع ” الرواية الايقاظية ” لسليمان فيضي في البصرة عام 1919 وما بعد هذا التاريخ من نصوص تأسيسية شيدت نوعا بايادي محمود السيد وعبد الحق فاضل وعبد الملك نوري و التكرلي ومهدي صقر ونزار سليم ، وتراكمت كما من جعب انور شاؤول وجعفر الخليلي وادمون صبري وعبد المجيد لطفي وذو النون ايوب واخرين بعدهم .
هذا جمع مع ما اضيف اليه في الستينات وفي الاعوام العشرين الماضية يمثل الكل القصصي العراقي.
وقد قوضت الستينات ماقبلها وبنت – مما ابدعت ومما انتقت من انقاض زقورتها القصصية المغايرة للسابق باشتراطاتها السردية والفنية اسلوبا ولغة وخيالا ووصفا ، وهذا القطع او التغاير الفني لايعني تحقق قطيعة حدية بين قصة الستينات وبين ماقبلها ، وانما سجل حدوث قطيعة من نوع وشكل اخرين ، قطيعة فنية اسلوبية تتسامح او تسمح بقليل من التداخل مع الاقرب فنيا مما سبق ، وترفض وتتقاطع مع الابعد وحتى مع الاقل بعدا ، تبرز مثل هذه القطيعة واضحة لالبس فيها بين قصص الستينات وبين ماقبلها ، وبعدهاوبدرجة اقل وضوحا تشكلت او بدأت بالتشكل قطيعة اخرى بين بعض قصص اواخر القرن العشرين وبين ماقبلها ، ان هذه القطيعة الجديدة تتجلى بوادرها رغم عدم وضوحها على خارطةالمنجز العراقي الحاضر تتجلى الى درجة تستطيع معها قطع الشك بسكين اليقين ، وعلة وضوح الاولى(قطيعة الستينات) هو توفر انجاز قصصي متميز كما ونوعا صبغ خارطة القصة العراقية بالوان محمد خضير وسركون بولص وجليل القيسي وجمعة اللامي وعبد الاله عبد الرزاق ومحمود جنداري وموسى كريدي في الوان افتراضية ورمزية وصوفية ميثولوجية ووصفية ، تتباين جذريا او تكاد مع الوان التكرلي وعبد الملك نوري ونزار سليم ومهدي الصقر وعبد الحق فاضل .
ونرى ان الوانا جديدة في الكتابة القصصية الشابة ، تشير الى تشكل اولي لقطيعة مماثلة بين بعض نصوص القصة في العشر العاشر من هذا القرن وبين ماقبلها وتشي بتحققها في المنجز القصصي القادم وشيكا .لكن ما تفتقر اليه هو التراكم الكمي اللازم لتأكيدها.
ان مساحة القصة العراقية وخلاصات رؤاها واشتراطاتها تمثل ذاكرة لامة رسمت لنا عبر التفاعل الزمني المبدع استقراء محيطا ونافذا للمنجز القصصي الماضي / الذاكرة القصصية ) جمالا واخلاقا ، تراكما واصطفاء ، ودلالات مكنت الانجاز القصصي الحاضر /الوعي القصصي ، من افتراض اشتراطات – مغايرة للسرد واللغة والخيال والوصف السائد – تؤسس لاستشراف رؤى لاتغاير الرؤى السابقة حسب بل تناقضها ، جمعا وفردا ، تركيبا وتبسيطا ، تشي بهذه الرؤى وتلكم الاشتراطات ارهاصات نصوص قصصية بدأت التبرعم في بستان القصة العراقية اواخر القرن العشرين .
الرؤى
إذا كانت اللحظة الاولى لبدء التاريخ او الخلق او الكون حاضرا ، وكانت اللحظة التي تلتها مستقبلا ، اين هو الماضي ؟
بتساؤل مبسط كهذا نستنتج ان الماضي ليسمى إقليما زمنيا مستقلا عن الحاضر كما هو شان المستقبل ، وانما هو مصطلح يشار به دلاليا الى حاضر خزن في الذاكرة الكونية او الجماعية او الفردية بعد حلول زمن حاضر جديد محله وهذا الحاضر المخزون كان في وقت ما حاضرا ، وقبل ذلك كان زمنا غائبا بالمستقبل ، فالزمن لاينقسم وفق طرحنا هذا الى ثلاثة اقاليم ، وانما الى اقليمين فقط ، هما غائب ومجهول هو المستقبل، وواقع معلوم هو الحاضر ، والاخير يضم مايسمى ” الماضي ” يضمه كذاكرة او مخزون يستدعى عند الطلب ، وبما ان الزمن قابل القسمة الى وحدات افتراضية متناهية الدقة ، امكننا القول ان الوحدة الزمنية الاولى ” الحاضر الاول ” والوحدة التي تلتها ” المستقبل الاول ” كونتا ما اصطلح عليه ” الماضي ” بعد ازاحتهما من قبل وحدات زمنية اخر .
• الذاكرة / الماضي = حاضر مخزون + مستقبل تحول الى حاضر ثم الى حاضر مخزون
ومايقصد بالمخزون هو الاحتياطي المودع في الذاكرة بانتظار الحاجة – الواعية او اللاواعية – اليه لدعم وجودنا الحاضر ، لان الحاضر بفعالياته المختلفة يستند الى تجارب ورؤى مختزنة في الذاكرة ، ومن فعالياته ومخزونه ينطلق برؤاه وكشوفاته ليفتح آفاقا مستقبلية جديدة . وإذا انزاحت الاستنتاجات هذه وطبقت على مسار القصة العراقية عامة وعلى موضوع المقالة تحديدا تشكلت التقابلات الاتية .
1- المستقبل مقابلا للرؤيا الفردية او الجماعية للخيال القصصي المبدع
2- الحاضر مقابلا للوعي القصصي اواخر القرن العشرين
3- الماضي مقابلا للذاكرة القصصية كوعاء جامع لتجارب الوعي وكشوفات الرؤى
وعلى هذا الانزياح والتقابل فان الوعي القصصي اواخر القرن العشرين يبتدع اشتراطاته الفنية بناء ومحتوى من نتائج التفاعل الحاصل بين فعالياته وتجاربه وبين مايستدعيه – واعيا وغير واع – من مخزونه في الذاكرة كما المعادلة
• فعاليات الوعي القصصي ” الحاضر ” + مخزون الذاكرة ” الماضي = ارهاصات القصة الجديدة ورؤاها .
• ومن التفاعل الناتج بين حاصل هذه المعادلة وكشوفات الخيال المبدع تتجلى الرؤى والاشتراطات الفنية الجديدة للقصة العراقية الاتية كما المعادلة .
• ارهاصات القصة الجديدة ورؤاها + تجليات الخيال المبدع = القصة الجديدة اواخر القرن العشرين واوائل القرن القادم
تشير المعادلتان اعلاه ، عللا ونتائج الى ان المراد هو توظيف كل هذه العناصر -من حاضرو مستقبل مخزونين(ماضي) ومن حاضر راهن وكشوفات للاتي – للتاسيس للقادم القصصي الوشيك .
ان توظيفا جامعا لهذه الموارد لايعني كما هو واضح – الاتجاه بالكتابة القصصية الى استدعاء نماذج مخزونة واتباع سياقاتها أي نسخ المنجز الماضي وتقليده ، إذ إن إتجاه كهذا لايضيف الى زقورة القصة العراقية سوى كما باهتا لايكون وفق احسن تقدير الا تقليدا واتباعا ونقلا وكذلك لايعني هذا التوظيف الجامع ،
الاتجاه بالكتابة القصصية نحو المستقبل كاقليم زمني غائب له سياقاته وآفاقه واحلامه المجهولة ، والكتابة بهذا الاتجاه لها مطباتها اكيدة التحقق ، لان المرور السليم نحو المستقبل لايتحقق الا من خلال الحاضر .
إن الحاضر بدقائقه وخفاياه ، عرضا وجوهرا ، وعبر فعالياته وخزينه وكشوفاته هو مورد الكتابة الاساسي ، واتجاهها الاهم هو اختراق الحاضر نحو الاتي ، عندها يتشكل الزمن القصصي اللاخاضع لمسلمات راسخة ولالسياقات مهيمنة ، النص الذي يشرح السائد ويتحرى دقائق الخفوت والتوقد فيه والذي يتحرك نحو المناطق المشعة المتوقدة دائما مخلفا وراءه و الى جانبيه الرماد القصصي ليخزن في الذاكرة. منطلقا بهذا الى ميدان الحرية الاولى ( الجنون ) فاذا كان الجنون يعني الحرية المطلقة ، فان الحلم هو النص المجنون فما الجنون الا حلم دائم وما الكتابة الا حلم جماعي او خلاصة لاحلام الجماعة ، فمثلما تعمل منطقة الاحلام في دماغ كل فرد محللة ومشخصة ومستشرقة مجرى حياته عبر استقرائها لوعيه وذاكرته ، يكون مجموع المخيلات المبدعة للافراد هي منطقة احلام الجماعة وتكون محصلة المنجز الابداعي لتلك المخيلات هي الحلم الجماعي الذي يتناول إشكالات الجماعة مع ذاتها ومع محيطها ومع الكون وما ورائيته تحليلا وتشخيصا واستشراقا .
وتاسيسا على ما سبق فان نصوصا تعبر من خلال جنونها عن احلام الجماعة ، بعلمية الانسان فيها وبغيبياته ، وبنجاحه واحباطاته ، باماله والامه ، هي التي قصدت في هذه المقالة واذا عجز نص او منجز ادبي ما عن ان يكون احد مكونات هذا الحلم الجماعي ، بطل ان يكون ابداعا ولكان اتباعا ونسخا لان تقليد كل شيء ممكن الا الاحلام ، فليس
ثمة حلم قلد حلما اخر قط .
آواخر 1992
الهوامش
(1) الرس : ابتداء الشيء ورس الحب اوله ” المنجد في اللغة والاعلام ”
الرسيس بدء الشيء ورست الجرادة – رسا ورسيسا – ادخلت ذنبها في الارض لتبيض ” المجمع الوسيط ”
(2) إنطلقت محاولتنا هذه من بعض قصص البصرة آواخر القرن العشرين 1- 2-3 وبعض قصص المشهد الجديد للقصة العراقية ” الصادر عن دار الامد ، ونصوص غيرها تنبت اساليب جديدة في الكتابة القصصية منها بعض مما كتب تحت مظلة ” تضاد ”
• فضلا على المدون تتناقل الذاكرة الشعبية هذا التراث قصا شفاهيا وامثالا وحكما وغيرها لاحظ الامثال التالية.
• ا- ” ماكو وراء عبادان قرية ” مثل يفيد عدم وجود مراقبة وترجع اصوله الى قصة ” الغربة الغربية ” لشهاب الدين السهرودي الذي عاش في القرن السادس الهجري وعبادان في هذه القصة هي القرية التي تقع قبل الا اين ” أي لا مكان بعدها ولا اين ”
ب – ” ماكو عجاب يهب الا من ارض بابل ” وهو من الامثال الشعبية المستقاة من الموروث الديني والشعبي اليهودي المتداول الان في ” إسرائيل ” وقد ورد مثل مقارب في المعنى( من الشمال تاتي الضائقة ) ورد ضمن عرض سميح القاسم لرواية عاموس كينان المعنونة ( في الطريق الى عين حارود ) والمنشورة في مجلة الكرمل العدد ( 13 )
جـ – الكثير من الإسرائيليات