د. جاسم خلف الياس : قراءة في نص (بائع الخرافات) للشاعر سلمان داود محمد (ملف/14)

إشارة :
سلمان داود محمّد – وببساطة شديدة جدا ولكن معقّدة – هو “عاهة إبليس” في المشهد الشعري الراهن ؛ العراقي – وحتى العربي لو هيّأ له الأخوة النقّاد “الأعدقاء” فرص الانتشار. وكمحاولة في إشاعة فهم بصمة روحه الشعرية المُميزة الفذّة التي طبعها على خارطة الشعر ، ارتأت أسرة موقع الناقد العراقي الاحتفاء به عبر هذا الملف الذي تدعو الأحبة الكتاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.. تحية لسلمان داود محمد.

(بائع الخرافات)
^^^^^^^^^^^
سلمان داود محمد

إردعيني بمهارة
واقطعي سيولة الضوء عن كؤوس رؤاي ،
فهذا الإطمئنان وغد بملابس فضفاضة
قُدَتْ من حماقات الكسالى ……
لا يلائمني الهدوء
ولا هذه الخدعة المسماة ( فرح ) ..
أنا من مدن لا تنام إلا تحت تصاوير طغاتها والضحايا ،
ومن أناس حطب – مدد – لكل جهنم في الأرض ….
إردعيني بإتقان
ولا تأخذنكِ الرأفة بآياتي المحروسة بالمسك والحجر الكريم
فأنا إمام حاذق
أسدلَ على حدائق الفتيان ليل الفتاوى
وهذه الزهور التي على المقابر
معجزاتي …
……………….

قراءة في نص (بائع الخرافات) للشاعر سلمان داود محمد
د. جاسم خلف الياس

منذ متابعتي لقصائد الشاعر سلمان داود محمد وأنا أتحين فرصة ما للكتابة عنه .. وقد شدّتني تلك المتابعة كثيراً الى تناول تجربته الشعرية، وستكون ان شاء الله في قابل الأيام .
أدرك تماماً أن قصيدة واحدة لا يمكنها أن تعطي انطباعاً دقيقاً عن أي شاعر ولكنها في أقل تقدير ستلقي الضوء على بعض ملامح اشتغاله الشعري وعليه سأستغل هذه الفرصة ساعياً إلى كشف تشكيلها اللساني ، منطلقاً من عد اللغة في مستواها الإبداعي أداة لإخفاء المعنى ، فللغة دهاليزها السحيقة مثلما لها كينونتها واحتمالاتها.
يبقى العنوان في الدراسات النصية موازياً نصياً يسهم في التوغل في أعماق النص بشكل فاعل ، وعنوان القصيدة المقروءة (بائع الخرافات) يتكون من تركيب إضافي (خبر) لمبتدأ محذوف جوازاً (أنا بائع الخرافات) والقرينة الدالة على الضمير (أنا) هو الضمير المتصل (ياء المتكلم) بوصف العنوان بنية تواصلية مع المتن ، لا بنية افتقار وعزل عن المتن ، وكل بائع كما هو متعارف عليه يتعامل مع المشتري ضمن عرف اجتماعي واقتصادي متعارف عليه (البيع مقابل النقود) فإذا كان الراوي / الشاعر هو البائع ، والقارئ هو المشتري ، فما هو المطلوب دفعه من قبل المشتري ؟ هل الإنفعال بالقصيدة والجري وراء الشاعر إلى نهاية القصيدة ليقبض ثمنها ؟ وما هو الثمن ؟ أهو الفرح أم الحزن أم الوجع أم المسرات أم مجرد الإطلاع أم ماذا؟ وإذا كانت خرافات فكيف نستطيع القبض عليها بأيدينا ؟أم تراه أراد منا القبض عليها بوعينا ؟ وهل ما كتبه الشاعر يرتفع إلى مستوى الخرافة حقاً؟ أسئلة كثيرة فرضها هذا التأسيس لعالم القصيدة ، وبالتأكيد ستنفرط الأسئلة عن عقدها في كل قراءة لأن سؤال الشعر هو بالأساس سؤال التأويل ، ولأن التأويل لا ضفاف له سندعه إلى هذا الحد فيما يخص العنوان ونحاول الغوص في عمق المتن.
بداية يوجه الراوي خطابه الطلبي إلى (مؤنث) بشكل عام وقد تحقق هذا الخطاب الطلبي من خلال تركيب نحوي تشكل من (فعل الأمر + فاعل مستتر وجوباً + ونون الوقاية + مغعول به) وقد حدد الشاعر / الراوي ( لأن أحدهما يأخذ مكان الآخر) صفة الردع فجاءت بمهارة ، إذن نكتشف أن لدى الشاعر الردع يكون على شكلين (بمهارة ، ودون مهارة) ونترك دون المهارة للقارئ ليضع لها المفردة التي تناسب مرجعياته. وما دام الأمر يحتاج إلى مهارة ما فبالتأكيد لا بد من وجود مكيدة ودهاء يعملان على تحقيق هذه المهارة . ، ولا يدع الشاعر قارئ قصيدته أن يتوقف هنا لأن ما يتبع الشطر الأول سيعزز التشويق ويدفعه لمتابعة القراءة ، ولكن يستمر في التأصل مع خطابه الطلبي (واقطعي سيولة الضوء عن كؤوس رؤاي) وهنا يجسد الشاعر في صورة حسية (الرؤية) ويجعل لها كؤوساً، مقطوعاً عنها الضوء، وكل مكان ينقطع عنه الضوء سيبقى في العتمة بالتأكيد، فلماذا يطلب الشاعر لرؤاه العتمة؟ هل وصل به اليأس الى هذا الحد؟ أم أن الواقع أصبح أشبه بالخرافة ولم يعد الشاعر يعيشه بشكل طبيعي؟ أم أن هذا الواقع القاسي هو الذي دفعه الى هذا التشاؤم وحبس رؤيته في الظلام؟ وهذا ما دعاه إلى تشبيه الإطمئنان بالوغد وهو في ملابسه الفضفاضة التي قدت من حماقات نوع من البشر أطلق عليهم صفة الكسالى (فهذا الإطمئنان وغد بملابس فضفاضة / قُدَتْ من حماقات الكسالى …)
وهذه الصورة شبه الكركيتورية تشكل سخرية مرة من هذا الإطمئنان المفقود وما التشكيل البصري الذي شكله الشاعر بنقط متتالية أفقياً ما هو إلا فراغ تركه؛ ليدع القارئ وشأنه في ملء الفراغ. فإذا فقد الإنسان الإطمئنان فإن تحصيل حاصل سوف لن يلائمه لا الهدوء ولا الفرح :
(لا يلائمني الهدوء / ولا هذه الخدعة المسماة ( فرح ) ..) وإنما سيبقى يعيش القلق والحزن بكل تفاصيلهما ومعطياتهما المعيشية . وهنا لا يتوقف الشاعر وإنما بإنفعال شعري طاغ تخرج صرخته قوية ممزوجة بالألم والمرارة وهو يصف نفسه :
(أنا من مدن لا تنام إلا تحت تصاوير طغاتها والضحايا / ومن أناس حطب – مدد – لكل جهنم في الأرض…)
ولو أردنا الرجوع الى المضمرات النسقية، وكشف الأنماط المضمرة التي يفعلها الحس الجمعي لتوصلنا إلى كم هو طغاة هؤلاء الحكام الذين توالوا على الحكم ليس المعاصر فحسب وإنما منذ زمن طويل والحكام يمارسون الطغيان وما الشعب/ الناس إلا ضحاياهم ، إلى حد إن هذه المدن أصبحت تعاف النوم ( ويقصد الشاعر ناس هذه المدن) وحين ينتهي المشهد الشعري بهذه القسوة يكمل الشاعر قصيدته بـ (لازمة قبلية) عملت على اعطاء ايقاع خاص للقصيدة فضلاً عن توكيد التركيب النحوي (أردعيني) من خلال تكراره :
(إردعيني بإتقان)
ومثلما لم يكتف الشاعر بالردع الأول بمهارة ليكمل الخطاب الطلبي ، كذلك لا يكتفي الشاعر بالردع الموصوف بالإتقان ، وانما يكمل خطابه بـ (لا الناهية) التي دخلت على فعل مضارع متصل بنون التوكيد الثقيلة وسيكون مبني على الفتح في محل جزم :
(ولا تأخذنكِ الرأفة بآياتي المحروسة بالمسك والحجر الكريم)
وهذا النهي يشكل طلباً مضمراً وهو اثبات القسوة على الآيات المحروسة والحجر الكريم ، ودلالة هذا الفعل ليست بخافية على أحد وهي تشكل احدى اشكاليات ممارسة الطغيان بجعل المقدس الديني قناعاً للبراءة من جرائم الحكام .
وما دام الأمر كذلك سينصب الشاعر نفسه إماماً حاذقاً ، يسدل على حدائق الفتيان ليل الفتاوى :
(فأنا إمام حاذق / أسدلَ على حدائق الفتيان ليل الفتاوى)
ليقفل قصيدته باقفال شعري حاذق حقاً بوصف الزهور بالمعجزات ، ولكن أية زهور هذه التي ستعزز عنوان القصيدة ( بائع الخرافات) :
(وهذه الزهور التي على المقابر / معجزاتي …)
ربما أراد الشاعر أن يقول (بائع الزهور) وما هذه الزهور إلا التفاصيل المؤلمة بكل ما فيها من ألم وقسوة وجور وظلم …الخ ، لذا فهي تشكل خرافات مدن لا تنام إلا تحت تصاوير طغاتها .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *