إشارة :
طبع القاص والروائي “جابر خليفة جابر” بصمته الأسلوبية المميزة على خارطة السرد العراقي عبر فهم عميق لسرّ الحداثة المنبثقة من عمق التراب العراقي (تراب البصرة تحديداً). يذكرنا جهد جابر أو مشروعه بما قاله الراحل الكبير “عبد الرحمن منيف” في رسالة إلى المبدع “شاكر خصباك”: “النجف وحدها تضع مائة رواية أهم وأخطر من ” مائة عام من العزلة”. واعتزازا بتجربة جابر السردية المتفرّدة تبدأ أسرة موقع الناقد العراقي ملفها عنه وتدعو الكتّاب والقرّاء إلى إغنائه بالمقالات والصور والوثائق.
“حَمَام الأندلس”
قراءة انطباعية في “مخيم المواركة” للعراقي جابر خليفة جابر
بقلم: د. سوسان جرجس
“مخيم المواركة” رواية العراقي جابر خليفة جابر، كاتب قادم من مدرجات علم “التاريخ” ليزيل الغبار عن حقائق أراد بعضهم تشويهها، وحرص بعضهم الآخر على التخفيف من حدّة ألم عصف بأصحابها، أما الروائي عاشق الأندلس فقد أراد كسر صورة نمطية ألصقت بالـ”أنا” وسعت إلى طمس “إثم الآخر”.
وأما أنا، القارئ الباحث عن سطوة الحرف على نفسي، أخاطب عنوان الرواية بشرود واستفهام، أدرك جيدا أنني في قراءاتي وكتاباتي وتحليلاتي لست إلا نتاجاً لنمط ثقافي، لواقع اجتماعي، لزمان ومكان وهوية… ومن عنق هويتي يسحبني “مخيم المواركة، عنوانٌ يقيّدني بين دفّتَي “مخيم” ويحيلني نحو فلسطين والفلسطينيين، ذلك الشعب الذي تمّ اغتصاب أرضه وفرض عليه التشتت ثم الانفصال ضمن مخيمات اللجوء… فهل هذا هو حال مخيم المواركة؟ كيف؟ متى؟ ولماذا؟
منذ الصفحة الأولى للرواية تطالعك مشكلة الهوية بأكثر جزئياتها تعقيدا ألا وهي العقيدة الدينية، وإذا كان غي روشيه في كتابه “التغيير الاجتماعي” le changement social قد اعتبر أن الهوية الدينية هي الأكثر مقاومة للتغيير، فإن الروائي يعرض لحقيقة مفادها أن تغيير الانتماء الديني للفرد إن حصل، فلا بد أن يكون بالقراءة والفهم والقناعة والإيمان (وهذا هو حال د. أحمد رودميرو الشخصية التي تعطي للرواية ملامحها)، وأما إرغام الناس على تغيير معتقداتها الدينية، فمن شأنه ،حسبما يبين الروائي، أن يجعل أصحابها أكثر تمسكاً بها، ذلك إنّ الدين (كما أي عقيدة يؤمن بها الإنسان) هو في هذه الحال هوية وجودية مقابل هوية قاتلة (هوية الموريسكيين/ المسلمون الذين بقوا في أسبانيا تحت الحكم “المسيحي” ليكونوا أمام خيارين: اعتناق المسيحية أو ترك إسبانيا، مقابل هوية القشتاليين/ المسيحيون الذين معهم سقطت الأندلس وفرضت محاكم التفتيش بكل ما فيها من إرهاب ورفض للآخر)، فضلاً عن ذلك فإن محاولات استلاب الهوية (الدينية ضمناً) ينتج عنه ردّ فعل معاكس يدفع بأصحابها على حد قول جولي بيتيت إلى الاحتفاء بالاختلاف عن الآخر أو “الغيرية” otherness كاستراتيجية للبقاء في ظل ظروف قاسية ومحبطة.
مما لا شكّ فيه أنّ الكاتب كما القارئ، يكتب ويقرأ بعين تمّ تشكيل نسق تصوراتها عبر شبكة انتماءات يستحيل إنكارها، وهذا ما دفع بالروائي إلى تقديم صورة بهية تصوفية للإسلام والمسلمين بما لا ينفصل عن البيئة الحاضنة، الأندلس، التي كانت مرتعاً خصباً للتحاور والتبادل الثقافي بين المسلمين والمسيحيين واليهود، ما جعل منها منطقة حضارية بفنها وعمرانها وأزيائها وألعابها ومبتكراتها، وفي هذا السياق يذكر الروائي الموشحات الأندلسية وأهميتها الروحانية في جذب الناس للإسلام (ص5)، الحمامات وأهميتها في المعاش اليومي للمسلمين (على مدار صفحات الرواية)، المايوركا وصناعتها (ص19- 20)… إلخ.
تشظي المكان في “مخيم المواركة”.
يقول أولمان: ”إن أكثر الأشياء تحديداً ووضوحاً قد يكون له جوانب أو وجوه عدة، غير أن وجهاً أو جانباً واحداً فقط هو الذي يناسب متكلماً بعينه أو موقفاً بالذات”… فأيّ وجه ذاك الذي يلائم “مخيم” المواركة؟
تخبرنا الرواية بأن المخيم يُقام في إسبانيا لكن سياقه مرتبط بالأندلس وسقوطها، قصصه تحكي معاناة شعب (مسلم) سكن المنطقة أربعة قرون، ثمّ تعرّض للاضطهاد والشتات مع ما يرتبط بهذه الكلمة من ألم واغتصاب واقتلاع وتهديد للهوية، إن المخيم كما بيّنه الروائي في (ص10) هو على المستوى الظاهري أشبه بمخيم كشافي تجري فيه اجتماعات أو احتفالات قصصية تروي حكايات المواركة بجمل مكثفة يتمّ التوسع فيها ضمن آفاق الخيال المنتمي إلى واقع كان معاشا، أما على الصعيد الرمزي فليس المخيم سوى ذاكرة جماعية يعاد تجسيدها في المكان لتروي حكايات اللامكان المتشظي بفعل رفض “الآخر”، إنّ مخيم المواركة قد يشكّل على حد تعبير ميشال أجييه Michel Agier شكلاً اجتماعياً مكانياً socio- spatial فريداً من ناحية تركيبته التي تريد محاكاة ملاذات إنسانية جرّدت من أيّ معنى، إلى درجة اعتبارها بمنزلة “لا مكان” Non places.
وفي هذا السياق نقرأ في (ص9): “ثمان أو تسع مرات غيّرنا مكان المخيم وكان تعبنا لذيذاً، وقد أدركنا متأخرين أنّ الدكتور رودميرو أراد لتنقلاتنا أن تحاكي حالات الطرد المختلفة، وللاقتراب أكثر من مشهد البحر، عبرنا بالقوارب نهر شنيل ونهر حيدرة وعمل الجميع بالمجاذيف، صدقني لقد تمّ القاء اثنين منّا في الماء وهم في دهشة وغضب، لكن المخيم كله أدرك السر لهذا، قدر الكثير من المواركة ان يلقوا في البحر”، ويتابع الروائي توصيفه للمخيم في (ص10) فيقول “المخيم بشكله وتنقلاته وطريقة توزيع الخيام القريبة الى الفوضى والتشتت أريد لها أن تحاكي عمليات الطرد الوحشية التي تعرّض لها شعب كامل بمختلف انتماءاته وأطيافه”.
إنّ توصيف المخيم مقرونٌ بقصصِ العذابات والتهجير التي عانى منها الموريسكيون تعيد إلى أذهاننا صورة معاناة الشعب الفلسطيني عقب اغتصاب اليهود لأرضهم، ويحيلنا أسلوب الروائي نحو روايات غسان كنفاني لا سيما روايته “أرض البرتقال الحزين” التي تعتبر من أول وأبرز الأعمال التي غاصت في قلب المخيمات واخترقت قلوب وعقول الفلسطينيين المنكوبين ورسمت أحاسيسهم وانفعالاتهم التي كتبتها دماء ذويهم.
الإرهاب لا دين له:
صورة نمطية لا بل مؤامرة يتمّ الترويج لها إعلامياً وسياسياً ألا هي فكرة التماهي بين الإرهاب والإسلام، تماماً كما التماهي بين الإرهاب والمقاومة… لن ندخل الآن في الكلام عن أجندة خارجية تريد السيطرة على مقدرات الشعوب واستعمار الأرض، فالنطاق لا يتسع هنا للإسهاب في مثل هذه المقدمة، لكن ما نريد قوله هو إن جابر خليفة جابر بروايته التي بين أيدينا أراد، متوكئاً على التاريخ والأدب والتحليل الاجتماعي، أن يدحض هذه الفرضية المجحفة ليبيّن أن أسوأ أنواع الإرهاب والجرائم كانت على يد شعوب يفترض أنها آمنت بالمسيحية (القشتاليين)، وعوضاً عن انتهاج المحبة والسلام التي دعا إليهما السيد المسيح فقد قام القشتاليون بتهجير المسلمين من الأندلس ورموا بهم أحياء في البحار وتفننوا بقتلهم وتعذيبهم وذبح أطفالهم وسرقة ممتلكاتهم وسبي نسائهم واغتصابهم، وهكذا نقرأ على سبيل المثال في (ص92): ” كما اتهموهم بأنهم يمارسون الشعوذة والتنجيم بتطلعهم للنجوم، ثم جرجروهم وكانوا مقيدين، وقد شوهت الكدمات وجوههم، كووا جباهم واحداً بعد الآخر بحديدة متجمرة، ووشموا عليها علامة الصليب، وكانت صيحات الاستحسان الهستيرية تدوي، كان منظر الصغار مفزعاً يفطر القلب” وفي (ص111) نقرأ عن قرارات القشتاليين عقب إخماد الثورة الأندلسية الكبرى عام 1571 “فمن يصطاد امرأة من نساء الموريسكيين المتمردين فهي ملكه، حتى الصغيرات منهن، وكذاك الأطفال، أما الرجال ، فكل من يأتي برأس موريسكي فله 20 دوقة ذهبية..”.
يبيّن جابر إذاً أنّ الإرهاب لا دين له، أوَ ليست جرائم القشتاليين (المسيحيين) في الأندلس هي نفسها جرائم الداعشيين (المسلمين) في سوريا والعراق؟ ولتقديم الدليل على عدم ارتباط هذه الجرائم بالناس كمنتمين لدين معين (المسيحية في الرواية) بل بنزعة استعمارية عدوانية قائمة على رفض الاختلاف، يحرص الروائي على إيراد بعض الحقائق كتلك التي تكشفها العبارات التالية، إذ يقول في (ص92) “وقد اكد اهل القرية ان العديد من المسيحيين الحاضرين بكوا، وكانوا يمسحون دموعهم لئلا يراهم احد”، ثم يتحدث في (ص94) عن قصة هرب بدر (ماركوس) زوج قمرين من محاكم التفتيش واختبائه لدى صديقه النصراني (صديق الطفولة) ليبين في عرضه للتفاصيل ما يحمل دلالات انتصار الانتماء الوطني على الانتماء الديني، ليس غريباً على الروائي هذا التوصيف التاريخي الدقيق وهو الداعي المؤمن منذ بداية الرواية حتى نهايتها بأهمية التنوع الثقافي الذي يسهم في التطور الحضاري للبلد وفي إغناء ثقافته، حيث يقول في (ص7) متمثلاً شخصية د. أحمد رودميرو أنه “…يدعو الى مجتمع متسامح متعدد الالوان والثقافات التي تتلاقى معا لرسم اللوحة الاروع لفنان اسبانيا العظيم، وهو الشعب الاسباني – كما يقول – بكل اطيافه وثقافاته المتلاقحة عبر التاريخ”، إنّ هذه الدعوة لقبول مبدأ الاختلاف في تشكيل النسيج الاجتماعي لبناء بلد متحضر هي ما يحرص الروائي على استرجاع صداه في الصفحات الأخيرة للرواية، مؤكداً أن الله واحد وجوهر الدين واحد، وأنّ العلاقة بين الأديان تكاملية لا تنافسية وإنكارية، وقد كان هذا تأويلي لما ورد في (ص118) ” ولدت الكاتدرائية الاكبر في العالم الكاثوليكي، كاتدرائية اشبيلية، او كاتدرائية سيفيا، ولدت من رحم مسجد، عناق وامومة، هكذا نقرؤها نحن في خيمة مدريد، ولنا ان نهمس بها في اذن المدينة العاصمة، مدريد.. ثمة مسجد في اسطنبول، المسجد الاعظم، انجبته كنيسة ايضا، كنيسة ايا صوفيا، بعضنا انجب بعضا، وكلنا للسماء..”.
وإذا كان الروائي يحلم بذلك التآخي والتعايش بين الأديان والثقافات، فإنّ ذلك لم يحُل دون تفعيل حسّ الشك والتساؤل البحثي التاريخي لديه، إذ رأيناه يلمّح أكثر من مرة إلى الاعتذار الذي قدمه خوان كارلوس، ملك إسبانيا لليهود عن عمليات الطرد التي لحقتهم بعد سقوط الأندلس، وذلك في محاولة من الحكومة الإسبانية للتصالح مع ماضيها، في حين تمّ تجاهل المسلمين من أصول موريسكية على الرغم مما ألحق بأجدادهم من جرائم وإبادات وتعذيب وتنكيل يتنافى مع حق الإنسان في الحياة.
وفي النهاية أقول: لقد حاول الروائي المؤرخ أن يلقي الضوء على حقبة تاريخية معينة من تاريخ الأندلس والإسلام، لكنه ألقى بي كقارئة في عاصفة من التساؤلات حول توسع الأمم، والفتوحات، والاستعمار والانتداب!! أليست كلها مصطلحات لمسمى واحد وهو اغتصاب حق “الآخر”؟ هل يحقّ لأيٍّ كان أن يكون ميكافيلي في “تبرير” وسائله الاستعمارية؟ أين يتوقف حق الدفاع واسترداد المسلوب؟ متى يمكن التحدث عن تلاقح ثقافات؟ ومتى نتحدث عن غزو واستباحة؟
قراءة مميزة أعجبتني بغوصها في ثنايا النص الروائي وتقصيها لإشاراته ودلالاته وأرى أنها قراءة جادة ومجتهدة وجاءت بجديد بعضه لم التفت إليه؛ تحياتي واعتزازي بالدكتورة الباحثة والأديبة سوسان جرجس ومودتي