هشام القيسي : تشعير الخطاب اليومي في بنية النسيج الشعري 
وقت من رمل انموذجا (ملف/3)

هشام القيسي

تشعير الخطاب اليومي في بنية النسيج الشعري  

وقت من رمل انموذجا 

 

من عنونة كتابه الشعري ( وقت من رمل ) واسقاطاته نلمح في مخيال الشاعر غزاي درع الطائي ، سواء في رصده أو تحولاته ،استنكاه واستنطاق لمناخ تترشح منه كتابة تؤثر الفرادة في التعبير والحميمية في الإرسال ، وما تمور به تجسيدا وتتابعا لكشوفات سابقة توازي الإتلاف وتشهر الإختلاف عبر مشروع شعري مغاير منذ مفتتح السبعينات إرتكز على مبنى عازف متجاوز لتقنيات أطبقت على الشعرية وحدت من مواءمتها في المواكبة الحياتية ، وإذا كان الشاعر قد تفرد من بين أقرانه فلأنه أدرك منذ وقت مبكر لزومية ما يلزم في الكتابة الشعرية واستحقاقاتها الموجبة : 

( أيها الشعراء 

 هزوا الشعر 

 فإنه بحاجة إلى رعدة شديدة 

 وهزوا اللغة 

 فإنها بحاجة إلى ولادة جديدة 

 وهزوا الأوزان والقوافي 

 فإنها بحاجة إلى الأوطان لا المنافي )) ( 1 )

فقراءة الشاعر للمشهد الشعري باتت تنطلق من ترادفية تستنكه انتاجية تراود ذهنية ونفسية المتلقي كقارئ مستقبل يحرص على تماه مع النسيج الشعري وتعالق في مستوياته ووحداته البارقة ، من هنا نخلص إلى أن الشاعر في مناخه الشعري كخارطة يؤسس عليها قد أفلح في التناغم بقصديات الإحساس والمحاورة والإدهاش : 

(( عراقيون 

   قبل مضيفنا لم يعرف الضيف 

   وقبل أكفنا لم تعرف الكف 

   وكل العز في الدنيا 

   على هاماتنا وقف ، 

   عراقيون 

  كل الخيريين على سرايا أرضنا نصف 

   ونحن لوحدنا نصف )) ( 2 )) 

ولهذا كانت لغته بارقة مواجهة لعناصر رصانة النص وتوهجها ما جعل نسيجه الشعري ينفذ دون جواز بتأمل وزهو يمنح صوره مستويات من الأسفار المفتوحة وبمديات توليدية تنهل من اشتغالات الداخل بأحلامه وحرائقه .

ان استثمار الموضوع بمساراته وتوتراته وصفحاته عبر ذات شاعرة كاشفة قد أحالت المحسوسات إلى تعبيرات ناطقة وصارخة بصيغ اشتغالية ماسكة لشفرة الواقع المعاش ، فالذاكرة والاستلاب والانكسار وتراجيديا المكان قد اتسعت بدينامية الذات / الموضوع من خلال فضاء يحاور ويتفاعل في الضد وتشكيلاته ولهذا نجد أن امتدادات النزف بضجيجه وصراخه ينتظم تحت أيقونة إدانة الفزع والتسلط وفجائعه الميكانيكية بوعي مسترسل في الدلالات وبحساسية وتقاطع تامين : 

( أيها السادة 

  بعد أن أشبعتم أرض العراق 

  طرحا 

  وضربا 

 ها جئتم لتشبعوها قسمة ، 

  لم ينفعكم الطرح 

  ولم ينفعكم الضرب 

  ولم تنفعكم القسمة )) ( 3 ) 

 وفي فضاءات قصائده تترشح انسيابيات شعرية تومض وتشع مناخات تعبيرية وفق مسالك تراجيدية شفافة ملاصقة لإشتعالات الداخل ومساءلة لأحوال وأهوال ألقت بضلالها عبر سياق تمثل وتمثيل ، ولذلك فان إنشغالاته في مثل هذه المساحات ساهمت في ترسيخ بنية سردية عمقت علاقة حميمية متوازية دالة على مرجعياته وموجهاته المرئية واللامرئية ومن زوايا تقابل ومحادثة ، وبذلك أفلح الشاعر في تحقيق نسيج مائز في تقديمه وتوريده عبر ابحارات وإضاءات وكشف ممغنط : 

(( أسلم عليك يا ولدي 

  وأقرأ سورة الفاتحة 

  ثم بدلوين من ماء 

  دلو من ديالى 

 ودلو من خريسان 

 أغسل مرمر قبرك يامعد 

 وبدلو ثالث من ماء نهر العكر 

 أغسل الشاهدة 

 الشاهدة التي تقول : 

 هذا قبر معد غزاي درع الطائي … )) ( 4 ) 

                     و 

(( قصيرا كان عمرك 

وطويلا كان بكائي .. )) ( 5 ) 

ويقينا فان مثل هذه الامدوحات باتت رثائية وغنائية كل بيت عراقي طالته أهوال الاحتلال وقطعان رعاة البقر ومرتزقته .

والشاعر كشف عن صميمية وجزالة وثراء في توليد وتوصيف وتعميق ترددات صوره الشعرية وبالتالي أنسجته ومحمولاتها بما يفعل مسارها الدلالي : 

(( يا سيدة التفاحات الأربع 

  يوسف ما باع ولم يركع 

  يوسف ظل على عهد الحب الأول 

  ظل يفتش عن حبك في الصافي 

  والدافئ والأجمل والأروع 

  يوسف ثقة لم تتزعزع )) ( 6 )

ويبقى الشاعر عبر استقصاء همومه ومخاطباته موضوع ارتحال ونزوع يحادث دالاته بما تورد مدلولاته ، فخطابه الشعري الممغنط يحفر صوره الحسية تحت هيمنة مدارات تؤجج المخيال وتنطق بالسؤال ، وما بين سردية وتوال صوري وتعاقب مشهدي يحلق بنا الشاعر نحو فضاءات تتدفق فيها المعاني وما تومئ به ارساليات اللحظة الشعرية ، والنماذج الدالة المتفردة لهذا المنحى هي اشتغالات آسرة وناظرة تبرر وظيفتها كاستجابة سمحة لنداء توطن عميقا في صفاء ذاته : 

(( أيتها الشمس 

  لا تشرقي على كل من أسلوا هذا الدم 

 وكل من رسموا طريق هذا الدم 

 وكل من تعاونوا مع الشيطان 

 على إسالة هذا الدم 

 ويا أيها القمر : 

 أغلق طريق الدم 

 فإنه ألم وسدم وندم )) ( 7 )

                  وكذلك  

(( لا تكترث 

   أنظر إلى ليلى التي كنت مجنونا بها 

   وامسح غبار الحزن عن أحداقها 

   وانظر إلى بغداد وهي تفور 

   بالحكماء والعلماء والأدباء والصناع 

   والشرفاء والحرات 

   لا تنظر إلى سراقها … )) ( 8 ) 

وفيما يخص قصائده القصيرة جدا ، فانها تنساب بتكثيف وبتدفق بارق يتسع لأدائية وتعبيرية لها القدرة على الامضاء والانتقالة السريعة وفق موشور معان تتشظى إلى تكوين جمالي مؤسس لتوالد يضاف إلى توسعة هذا المسار، وعليه شكلت أسفاره وارسالياته رصدا مقننا لإتجاهات مكنونات الذات ووعيها الحاد بمرموزاتها وموصوفاتها بقصدية تومئ إلى لهب متجول في الداخل واقتفاء النص في حلقاته المتتالية والمتعددة لمواجع داهمته وتداهمه وتتسلط عليه ، ومثل هذا الاشتغال الحسي والجمالي يكون بنوافذ مشرعة وموجهة يرنو إليها المتلقي :  

(( كل صباح وأنت للخير مفتاح 

   يا وطني الحبيب 

   يا من ناره عدن )) ( 9 ) 

                        و

(( للذي يتحسر على الحرية 

   أقول له : 

على الأقل لدينا نصب الحرية 

فليكن لديك أمل )) ( 10 ) كـــــــــــــذا ص175 

وتأسيسا على ما تمت الإشارة إليه في هذه القراءة ، يلزمنا القول إلى أن مخيال الشاعر وإسقاطاته وإنفعالاته قد عمقت من طاقة الإيغال والانزياح والتراسل المتطابق مع مخاضات الذات وقدراتها النافذة ، وهذا ما يعني أن مثل هذه الشعرية بل وفي كل صورة من صورها وتوليداتها  تشيرإلى كتابة جادة وفرادة في التجربة الشعرية للشاعر وللذاكرة الشعرية العراقية ، مثلما تخلص محمولاتها إلى شعرية خطاب حياتي وفق معادل يتوافق ويتنامى في الحس وموجهاته بكل عناصره وتكويناته وبناه النصية صفاء وإشراقا .  

 

 

 الهوامش : 

———– 

( 1 )  وقت من رمل ، قصيدة هل احترق الشعر ص73 

( 2 )  كــذا ، قصيدة عراقيون ص88

( 3 )  كــــذا ، قصيدة محاولة لتقسيم ما هو غير قابل للقسمة ص96

( 4 ) كــــذا ، قصيدة هذا الولد .. أبكى البلد ص102 -103  

( 5 ) كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا ، ص 109

( 6 ) كـــذا ، قصيدة مالك بن الريب يموت ثانية ص133  

( 7 ) كـــذا ، قصيدة عشر قصص شعرية ص 156 

( 8 ) كـــذا ، قصيدة لا تكترث ص166

( 9 ) كـــذا ، قصيدة كل صباح وأنت للخير مفتاح يا وطني الحبيب ص174

( 10 )كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذا ، ص175

 
تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

تعليق واحد

  1. غزاي درع الطائي

    شكرا للأديب الكبير الاستاذ هشام محمد القيسي … وشكرا لموقع الناقد العراقي الزاهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *