العراقيون والنهر
العراقيون والنهر حكايات لا تنتهي منذ الخليقة الأولى وصراع الإنسان مع الفيضانات ومعتقداتهم بالقوى الخارقة التي تدعو لغضب النهر على الإنسان فتجتاحه لهدم قراه ومزارعه، لذا وضعوا الإله انكي إله الماء لعبادته ونسجت الحكايات بشأن صراع أهل الرافدين وفيضانات أنهارهم. ها هو نوح يبني سفينته وينجو من الغرق أو الفيضان العظيم، وبقيت هذه الفيضانات تهدد أبناء العراق على الرغم من بناء السدود والحواجز لدرء أخطارها.
ارتبط الماء والنهر بعبادات أهل العراق المندائية وبالذاكرة الجمعية ما بين الخوف من النهر وحب الماء بوصفه أساس الحياة.
, الشاعرة نازك الملائكة تتحفنا بقصيدة النهر العاشق فتقول:
أينَ نمضي؟ إنهُ يعدو إلينا
راكضاً عبرَ حقولِ القمحِ لا يلوي خطاه
باسطاً في لمعة الفجرِ ذراعيه إلينا
طافراً، كالريح، نشوانَ يداهُ
سوفَ تلقانا وتطويَ رعبَنا أنى مشينا
إنه يعدو ويعدو
وهو يجتازُ بلا صوت قرانا
ماؤه البني يجتاح ولا يلويهِ سدٌ
إنه يتبعنا لهفانَ أن يطويَ صِبــانــا
في ذراعيهِ ويسقينا الحنـــانـــا
ارتبطت عادات أهل العراق ومفاهيمهم الدينية بالماء. تُسيس النسوة نذورهن وأمانيهن بشموع مضاءة توضع على كرب النخيل بالماء، ويجلسن يتأملن هذا المنظر الرائع ليلاً مع الاعتقاد أن خضر الياس الذي يسكن الشطوط سيحقق أحلامهن،

أما من تقع دارها على الشط فهي في قمة السعادة فقالوا:
مسعدة وبيتج على الشط منين ما ملتي تغرفين
الأخرى تعتقد أن الشط قد فرق ما بينها وبين حبيبها الذي يسكن الجانب الغربي من بغداد الكرخ وعندما يفيض النهر ويصبح العبور خطراً بعد أن يجرف التيار الجسر الخشبي المربوط بحبال تدعو على النهر فتقول باغنية تراثية:
عسنك هلا ويوبة ياشط عسنك
تحرمني شوف هواي ياشط عسنك
أما الأخرى فتمثل القهر عندها بشط كبير فتقول:
شط الهضيمة وصل حده
ومنين إلي يعاوني ويسده
حيلي كوّي والبين هده
أما الأخرى فتتغزل أن ابنها شجاع يستطيع عبور نهر ديالى سباحة، حين كان نهر ديالى ضمن المعتقدات لا يوازيه نهر فتقول:
جاني عابر ديالى ومشله الشالة
سكران ومجتفينه
ومن كذيلته مجتفينة
الولد الذي يترك شعره ليطول وتنسدل قذاله (كذلته)على وجهه من الدلال الزائد لا تقص إلى ما قبل الدخول للكُتاب أو المدرسة.
وقد نسجت الحكايات والأساطير وارتبطت بالقوى الغيبية أيام العهد العثماني، فكانت المرأة العراقية تحمل عشاء ابنها الغريق المفضل لتنادي عليه باسمه وقت الغروب اعتقادا منها أن أمواج النهر ستحمل ابنها وتطفو جثته وتجلبه إليها من أجل دفنه .
كنت اعتقد أن هذه العادات قد انتهت، وحل محلها التفسيرات العلمية ووسائل انقاذ الغريق، واخراج الجثث من الماء بآليات أكثر تطوراً فإذا بي اشاهد مشهداً مازال سائداً بالعراق.
أم موصلية ترمي رغيف الخبز بالنهر من أجل أن تطفوا الجثث التي مازالت مفقودة بقاع المياه، وتتلو الصلوات من أجل ذلك.
امهاتنا اللواتي يلفهن الحزن على ابنائهن من الحريق والغرق والحروب والفيضانات لا يجدن ما يتوسلن به غير معتقداتهن التي يحملنها مع ملابسهن السوداء التي تأبى أن تغادرهن.
نيران العبيدي
كندا
24 آذار 2019