يضع القاص والكاتب المسرحي والناقد حسب الله يحيى ، قارىء مجموعته الجديدة ” حكايات من بلاد ما بين النارين ” في مواجهة أحداث مستلـّة من الواقع الحي ، ينكأ التوغل في مفاصلها جراحا ً تنز دما ً ومواجع . فهو يعزف على أوتار الألم العراقي من خلال تجسيد معاناة شخوصه وهم في مواجهة ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية قاهرة ، قد تفضي إلى نتائج أخلاقية خطيرة . ومجموعته هذه إنما هي ” قصص ومسرحيات وسيناريوهات عراقية كتبت بدموع ودماء ووجع شخصياتها ، وفي أزمنة ساخنة متلاحقة ، لا يشغلها انتماء محدد ولا لون خاص ، وإنما يعنيها الإنسان بوصفه عقلا ً ووجدانا وحسّا ً. ولأنها تنتمي إلى الزمان والمكان فقد ولدت من جدلية الماء والنار ، حذرة ً تعيش فوبيا عالم مأساوي بين نارين .. لكاتب قُدّ من الألم اسمه حسب الله يحيى ” كما جاء على الغلاف الأخير للمجموعة . إن العقل والوجدان والحس، ونضيف إليها الضمير الإنساني أيضا َ، تواجه احتمالات التشويه والتخريب وهي تحت وطأة أشكال من الفوبيا يعج بها الواقع الاجتماعي ، تتجسد في المجموعة على هذا النحو أو ذاك ، وتضع الإنسان تحت طائلة مصير مجهول أحيانا ً .
إن ّ عنوان المجموعة يكشف حقا ً عن انتماء النصوص إلى الزمان والمكان اللذين ترتبط بهما . إنه يكشف عن هوية المكان من خلال عبارة ” بلاد ما بين النارين ” التي تنطوي على تحريف واضح ومقصود لتسمية ” بلاد ما بين النهرين ” ( التسمية القديمة للعراق ). أما عبارة ” بين النارين ” فتشي ــ بموحيات دلالتها الرمزية ــ بحجم المعاناة التي عاشها انسان هذه البلاد ، المسكون بالحزن ، وهو يكتوي بشواظ نارين : نار الحرب ونار الظلم معا ً . ويفصح الزمان عن نفسه لنكتشف من خلال سيرورة الأحداث وطبيعتها ، انه يغطي أربعة عقود من تاريخ العراق الحديث ، وهي عقود ملتهبة حافلة بالمآسي ، شهد الموت المجاني حضورا ً كاسحا ً خلالها ، وكانت ضفاف حياة العراقيين خلالها تتآكل يوما ً بعد يوم .
تقع هذه المجموعة التي صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة مؤخرا ً ، في 488 صفحة ، بغلاف موح ٍ صمّمه الفنان الشاب نهار حسب الله . وهي تنقسم إلى قسمين يضم الأول ، وهو ما سنتوقف عند جوانب منه في هذه القراءة ، أربعا ً وثلاثين نصا ً قصصيا ً ونصا ً روائيا ً قصيرا ً واحدا ً ، في حين يضم القسم الثاني سيناريوهات ومسرحيات للكبار وأخرى للصغار ، بمعنى ان الكاتب قد أراد لمجموعته أن تكون جامعة ، شاملة ، ربما على غرار الأعمال الكاملة . غير اننا نميل إلى الاعتقاد بأنه كان من الأفضل أن تنشطر المجموعة إلى مجموعتين تنفرد الأولى بالنصوص القصصية والنص الروائي القصير ، وتنفرد الثانية بالسيناريوهات والمسرحيات . وربما كان إحساسه بأن هذه المجموعة هي آخر مجموعة تصدر له ــ كما قال لنا ــ هو الذي دفعه لأن يفعل ذلك .
إن ّ في ميسور المرء أن يتتبع خطا ً مأساويا ً ينتظم النصوص القصصية ، يمتد من قصة ” البراعة في احتمال الأذى ” إلى قصة ” الشمس هناك .. الظلام هنا ” مرورا ً بالنصوص الأخرى ، حيث لا يُسمع على امتداد القصص رنين ضحكة صافية ونابعة من القلب ولا تُرى امارات فرح أو سعادة طاغية على وجه من الوجوه . فالفرح غائب والسعادة غائبة ، وتلقي كآبة الحزن ظلالها القاتمة على كل شيىء تقريبا ً . وتشي عناوين القصص بالخيبة والإحباط فهي منتزعة من نسيج المعاناة الانسانية ، ويكاد المرء يشم رائحة الموت في ثنايا عدد من هذه القصص ، وفي طريقة تشكيل عناوينها ما يؤكد ذلك : عناوين مثل ” المنايا ” و ” الموت بين الأشواك والأزهار ” و ” وللشاي مذاق الموت ” و ” موت وسعه المدى ” و ” إعدام حلم ” و ” الرغبة والموت “.
يستهل القاص (حكاياته ) بالقصة التي تحمل عنوان ” البراعة في احتمال الأذى ” ، وهي إعادة سرد لحدث يعرف بـحدث “قطار الموت ” حيث تم في العام 1963 حشر مئات الضباط العراقيين اليساريين في العربات الحديدية المخصصة لنقل البضائع ، في القطار الصاعد إلى السماوة ، وأحكِم غلق أبوابها عليهم لسد منافذ الهواء عنهم ، على أمل أن يصبحوا جثثا ً هامدة قبل وصول القطار إلى محطة السماوة . ويبدو واضحا ً ان هذه القصة ، شأنها شأن قصص أخرى في المجموعة ، تؤدي وظيفة توثيقية ، فجاء حدثها منظورا ً إليه بعيني شاهد من الخارج وغابت فرصة التوغل في أعماق الشخصيات لاستجلاء أحاسيسها وهي في مواجهة احتمال الموت اختناقا ً ، ذلك لأن القاص اعتمد اختيار سارد من الخارج فجاء الروي محايدا ً تقريبا ً . وربما كان في كثرة عدد المحشورين في العربات وصعوبة اختيار بطل متميز من بينهم يمكن التوغل في داخله ، ما جعل القاص يتردد في اختيار سارد من الداخل ( مع ان في وجود عدد من الأطباء في العربات أسهموا في إنقاذ الضباط ، ما كان يمكن أن يوفر له فرصة اختيار سارد من الداخل . ) ليس هناك من يحمل سمات بطل متفرد فالبطولة حماعية من وجهة نظر القاص على ما يبدو . غير ان شخصية سائق القطار ربما كانت توفر للقاص فرصة رصد إرهاصاته من الداخل وتتبع مشاعره وهو يُقدم على عمل ينطوي على مغامرة كبيرة قد يدفع رأسه ثمنا ً لها . سوى ان هذه الشخصية كانت من خارج المنغلق الماساوي في العربات وبالتالي فإنه لا يعرف ما يحدث هناك وليس في ميسوره أن يقدم صورا ً صادقة عن الواقع المأسوي داخل العربات .
وتكاد قصة ” المنايا ” تكون امتدادا ً نوعيا ً لسابقتها: امتدادا ً في زمانها ومكانها وطبيعة المهمة التوثيقية التي تنهض بها ، غير انها تختلف عنها في كونها تتوافر على بطل متفرد ، لكنه ظل دون فعل واضح ونهض القاص نفسه بمهمة الحديث عنه من خلال عيني سارد خارجي . تعيد هذه القصة إلى الأذهان حكاية صلاح الدين أحمد ، الضابط الذي كان مسجونا ً في ” نقرة السلمان ” بعد أن كُتب له أن يبقى حيّا ً من رحلة قطار الموت ، وظلت الرغبة في الخلاص تلح عليه حتى أفلح في الهرب ، لكنه ضل الطريق عبر الصحراء فنهشت الضواري جسده .
وتشترك قصة ” موت وسعه المدى ” في المنحى التوثيقي الذي اعتمده القاص قي عدد من نصوصه . فهي تتحدث عن شخصية حسن سريع ، نائب العريف الذي قاد انتفاضة 3 تموز العسكرية في معسكر الرشيد في العام 1963 ولم يضعف وهو في مواجهة الموت .
وتنطوي بعض القصص على محاولة استلهام جوانب من التراث العربي ببعده التاريخي ، تجسد في نصوص مثل ” أمهات الحروب ” و” السيف والوردة ” ، لكنه استلهام يقترب من حدود الماضي ويتوقف عندها .
إن أبطال حسب الله يحيى مسكونون بمشاعر الخيبة والإحباط ، وهي مشاعر ناشئة عن التباسات الواقع الراهن . ففي النص الذي يحمل عنوان ” مهنة الأذى ” ، يعاني خريج الجامعة أحمد من البطالة فيجد نفسه مضطرا ً للعمل سائق سيارة أجرة في سيارة أبيه التي أتعبها الزمن وأتعبت هي صاحبها من قبل . لكن القاص يفتح أمام بطله كوة صغيرة ينفذ من خلالها بصيص ضوء أمل . وتكاد تنفرد هذه القصة ، ومعها قصة ” خيال وصدأ ” من بين قصص المجموعة بهذا النزر اليسير من التفاؤل .
وفي أحزان السيد نون ” ثمة زوج وزوجته استبدت بهما الشيخوخة واجتازا ممر الحياة المتعرج بكل ما تنطوي عليه هذه الحياة من محن وآلام ، اجترحت الزوجة خلال هذه الحياة مأثرة ً للوفاء وكانت ” تعد لزوجها أرغفة الخبز بدموع شابة لم تكن لتجف .. وتلحق به من جدار إلى منفى إلى مرض إلى انكسارات وخيبات وأحزان ثقيلة ” (ص 38 ) . لم تتخل عنه ولم يتخل عنها هو بعد أن فقدت بصرها ” أمسك بيدها وراحا يخطوان بخطوات وئيدة فيما الليل يلاحقهما ويريد أن يمسك بهما فينفلتان إلى قلب البيت ” ( ص 39 ) .
أما بطل ” ألم ” فهو محاصر بالمواجع ، يبحث عن سبيل للخلاص من محنته لكن المدى يضيق أمامه . إنه ممتحن في كونه سياسيا ً اعترف في لحظة ضعف على أصحابه فيشعر بالضعة والانكسار وهو يرى أحد رفاقه يتعرض إلى تعذيب وحشي دون أن يضعف . صورتان متناقضتان داخل مشهد واحد تتجسد في إحداهما مهانة الضعف وفي الأخرى كبرياء الصمود .
وفي قصة ” أنقاض ” نجد أنفسنا في مواجهة أنقاض بشرية . ففي هذه القصة تتجلى ملامح المحنة الأخلاقية لأستاذ جامعي يُجبر على المشاركة في إعدام صديق له ” اليوم ألزموني بالمشاركة في تنفيذالإعدام .. إعدام صديق حميم.. لم يكن بمقدوري أن أرفض ” ( ص 65 ) في إيماءة إلى الاستهانة بكرامة الانسان ومصادرة حريته . وتندرج قصة ” للشاي مذاق الموت ” ضمن هذا الإطار فهي تشير إلى محنة المرء في مواجهة جبروت سلطة غاشمة وتجريد المرء من حقه في الدفاع عن نفسه . أما في ” الموت بين الأشواك والأزهار ” فتتجسد مأساة فتاة ترغم على الزواج من أجل إنقاذ عمها الذي ألصقت به تهمة خطيرة فوجدت نفسها مجبرة على القبول برجل ” مر جسده على عشرات النساء وتعفن فمه من الخمرة والسجاير والكذب ” ( ص 81 ) . إن النـَفـّس الاحتجاجي يبدو واضحا في أغلب ما كتبه القاص من قصص . ويشم المرء رأئحة السخرية المرّة من عنوان قصة ” الحروب الجميلة ” الذي ينطوي على مفارقة واضحة تعكس التضاد بين مفردتي ” الحروب ” و ” الجميلة ” ، إذ ليست هناك حروب جميلة على الإطلاق . فالحرب لا تأتي إلا بصور الدم والدخان والحرائق والرعب ورائحة الموت الثقيلة ، وكلها صور تنضح قبحا ً وبشاعة . شخصية القصة الرئيسية ( أبو حرب ) ــ ولنلاحظ دلالة الاسم ــ عسكري صارم مولع بالحرب ويتسم بالقسوة وقد مات الحس الانساني فيه إلى الحد الذي جعله يدفع ابن جاره (وهوأصم ) إلى الخطوط الأمامية في جبهة القتال ليلقى مصرعه هناك . لكن القاص لم يدع أبا حرب يهنأ أو يمر دون عقاب . فقد قُتل ابنه حرب هو الآخرفي إشارة إلى الرغبة في موت الحرب نفسها ، الحرب التي قال عنها القاص في قصة أخرى ” كل شيء يضيع فيها ، يحترق ، يختنق ويمزق ويتلاشى ويذوب في النيران والدخان والمطر الطيني ، المطر الأسود والأوحال وضجة الأصوات وصخب المكان وعفن البارود وشواء الأجساد ” ( ص 169 ) .
حين نخرج من عالم قصصه المأساوي الوخم ، ندخل عالم نص روايته القصيرة التي تحمل عنوان ” نافذة سوداء مطرزة بالأزهار ” وهو النص الوحيد الذي يندرج في خانة الرواية القصيرة . تقع الرواية في ثمان وستين صفحة تتوزع على أحد عشر مقطعا ً يحمل كل منها رقما ً مع انها جميعا ً تلتحم في نسيج البنية السردية للرواية ، وتختلف عن النصوص الأخرى في كون المتخيل يجد له حضورا ً فيها وكان قد غاب تقريبا ً في النصوص القصصية . يتدفق صوت الراوي متحدثا ً بلسان الضمير الأول ( ضمير المتكلم ) عن محنته : محنة طالب جامعي ( في كلية الفنون الجميلة على وجه التحديد ) وموظف في الوقت نفسه ، يستبد به الضجر .إنه لا يستطيع أن يشغل نفسه بشيء فهو لايجد رغبة في أن يكتب شيئا ً أو يقرأ كتابا ً أو يشاهد التلفزيون أو يستمع إلى المذياع ، وسط إحساس بأنه مقطوع عما حوله ” جلست على كرسي راح يئن من تعب ومن شيخوخة ومن عجز عن احتمال جسدي المرهق وأنفاسي المحبوسة في صدري ” ( ص270 ) حتى ليبدو كأنه يعاني من الشيخوخة هو ايضا ً وليس الكرسي وحده ، مع انه ما يزال في مطلع شبابه . يجعل القاص بطله يستحضر أباه الراحل عبر صورته المعلقة على الجدار ، ويستنطقه ، فيسيّر حوارا ً بين الأثنين ، وهو حوار يتسم ببعد فلسفي ويكشف الفارق بين مثالية الأب ووافعية الإبن، وكأنما أراد بهذا الاستنطاق الكشف عن الصراع بين جيلين لكل منهما قيمه ومصادر ايمانه، ويظل البعد الفلسفي يتغلغل في مفاصل الرواية . لقد ترك له أبوه مكتبنه ووصاياه وجزءا ً من مذكراته في كتاب أصابه العفن دون غيره من الكتب . ولعل في هذه الإشارة ما يشي بتمرد البطل على أبيه : تمرد جيل الأبناء على جيل الآباء . لكن البطل ما يلبث أن يتراجع عن منطق التمرد على سلطة الأب” علمتني أمي أن أقدس تراب أبي .. فضلا ً عن كل ما عرفته وتلمسته وكسبته من روح أبي . كانت روح ابي تقودني ليس الى السماء فحسب بل إلى كل ما هو أثير ودقيق وحكيم ” ( ص 280 ) . ويبدو البطل عبثي النزعة ” أنا كائن مطلق في الفراغ لا أشغل مكانا ً ولا ينشغل بي المكان ” و ” كنت أحس ان كلمة إنسان لا تليق بي ” ( ص 278 ) و ” الآخر الذي هو أنا يضيق صدره حتى يعاف نفسه ويطلق زفراته حسرة ً وندما ً ، على عمر تمضي سنواته دون أن يحقق فيه المرء ابسط أمنياته في العيش مطمئنا ً على قوته وأمنه وحريته ” ( ص 283 ) . لقد قادته ظروفه القاسية فضلا ً عن قلقه ، إلى أن ينتقل من عمل إلى آخر ، فقد عمل عتالا ً، محاسبا ً لدى تاجر ، سائقا ً عموميا ً ، مصححا ً طباعيا ً ، صباغا ً للدور ، عامل بناء ، مسؤولا ً لنادٍ سينمائي ومسؤولا ً إداريا ً في مصنع ثم محررا ً في جريدة يومية ، ولم يحقق نجاحا ً في هذا الخليط العجيب ، غير المتجانس ، من الأعمال . وفي هذا ما يكشف عن انه شخصية قلقة ، غير مستقرة ، تعاني من خلل في بنائها النفسي يتجلى في ازدواجية يعترف بها هو نفسه .
إن هذه الرواية تنحو منحى سيَريا ً في بعض جوانبها ويخيّل إلينا انها توثق جوانب من سيرة القاص نفسه من خللال شخصية البطل التي يعمد إلى تقمصها ليسرد من خلالها جوانب من سيرته الحياتية وتجربته في الكتابة . إنه يفصح عن عدم رضاه من هذه المسيرة وإدانته لها عبر حواره أحادي الجانب مع صورة أبيه ( ثمة ما يشير إلى أن أباه يبسط سطوته حتى على أحلامه ” ابي أين أنت أما زلت تحني رأسك .. خزيا ً وعارا ً من الإبن الذي لم تعده ليكون هكذا ليقترف جريمة الكتابة لإعداد جيل زائف لخوض معترك الحياة والعمل مع الناس من مواقع تربوية وقيادية ” ( ص 302 ) لكن هذه الشخصية القلقة ، المتوترة ، ما تلبث ان تسترد وعيها وتنتزع نفسها من وهدة الضجر لتستقيم على النسق الذي تريده لنفسها .
إن حسب الله يحيى قاص مهموم بالواقع ، يؤمن بالوظيفة الاجتماعية للإبداع وتشغله مهمة التعبير عن أفكاره وتوصيل هذه الأفكار باي شكل من الأشكال ، ولا يتردد في اعتماد المباشرة من أجل ذلك . لكن هذا لا يعني انه لا يولي اهتماما ً للشكل . إنه يوليه اهتماما ً ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله يطغى على المضمون !
* جريدة ” الأديب ” ــ العدد 175 ــ السنة الخامسة ــ 10 ايلول ( سبتمبر) 2008
ناطق خلوصي: “حكايات من بلاد ما بين النارين”: العزف على أوتار الألم العراقي
تعليقات الفيسبوك