القصة القصيرة بين التجنيس والتجريب
تمثيلًا واصطلاحًا
أ.د. نادية هناوي
لم يكن الاهتمام بكتابة القصة القصيرة في بلادنا العربية مجرد مغامرة أو مجاراة كتابية؛ وإنما هو إبداع نبع لمواجهة واقع يغصُّ بالمآسي، في محاولة لعكس أوجاع الفرد العربي المتأزم نفسيًا وحياتيًا. وهكذا شاعت القصة القصيرة في العراق بشكل لافت للنظر في مفتتح القرن العشرين على يد عطاء أمين ومحمود أحمد السيد وغيرهما، متأثرة بالسرد القديم ولاسيما سرد المقامات ومتماشية مع قصص الرؤيا، لتكون القصة القصيرة العراقية هي المتقدمة عربيًا بقصاصين بعضهم كان واقعيا وبعضهم الآخر كان مجربًا لأشكال جديدة حتى على المستوى العالمي، ناهلًا من مناهل الفكر المختلفة.
ولم تكن القصة القصيرة في بلدان عربية أخرى بأقل مما كانت عليه القصة في العراق، ففي مصر مثلا حفلت القصة القصيرة بالاهتمام، لكن الرواية فاقتها في التعبير عن متطلبات الحياة المصرية وتحدياتها اليومية. أما في المغرب فإن القصة القصيرة وجدت لها رواجًا أساسه انسجامها مع متطلبات الكاتب المغربي ومجتمعه، ثم تأثرها بالقص الفرنسي.
وما بين التماشي مع متطلبات الواقع الموضوعي المعيش وتمثل الوعي الفني بالقصة القصيرة ظهر كتّاب مغاربة مرموقون، كما أشار إلى ذلك د. أحمد المديني، مؤكدًا أن القصة القصيرة المغربية أتت اولا في المحك مع المقالة القصصية، ولصيقة بما سماه الوسواس التاريخي أي سرد تاريخ تمجيدي خال من الطبيعة السردية الفنية، ثم احتل هذا الفن فيما بعد الصدارة لتماشيه مع” طبيعة الشروط الموضوعية التي تؤهل لولادة نوع أدبي وبطبيعة هذا النوع نفسه وتحديداته كما يمكن أن نجدها متبلورة بشكل مدقق عند ادغار الان بو وعند اخنباوم من الشكلانيين الروس” الأدب المغربي الحديث، احمد المديني، الموسوعة الصغيرة 136 ، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1983، ص35 ـ36 فظهر قصاصون مغاربة مهمون مثل محمد زفزاف ومبارك ربيع.
والمهم في ما طرحه د. المديني هو إشارته إلى ما سماه المنفى في اللغة الفرنسية الذي يدل على تغاير إشكالي أدى إلى تبلور الوضعية الاجتماعية التي تحتفل بالنماذج المأزومة، هذا فضلا عن تأشيره إلى جيلين من الكتاب المغاربة: الجيل الأول شرع يكتب أدبه المغربي بالفرنسية والجيل اللاحق ردم القطيعة بأن توصل إلى الأنواع الأدبية الحديثة متأثرا بالفرانكفونية ومسألة العجائبية والاساطير جنبا إلى جنب التأثر بالتراث السردي العربي “وذلك تحت ضغط ما يسمى بعملية المثاقفة أي التداخل والتشابك بين ثقافة الاخر وثقافة المغزو لغويا وتاريخيا وسياسيا” (الكتاب، ص 116 )
وعموما، فإن الاعتراف بنوع أدبي ما متوقف على مدى التماشي مع الفعل الاجتماعي الذي ينبغي أن ينسكب فيه انسكابا، أما ابتداع شكل وإعطاؤه صفة النوع من دون أن يكون هناك داعٍ اجتماعي له؛ فإنه نوع من الغواية التي توقع في شرك التلفيق النقدي.
وواحدة من آفات النقد الأدبي عندنا أن مسألة النوع شكلا ومضمونا لا تأخذ عند بعض النقاد إلا اهتماما سطحيا، فلا يفرقون بين مبنى الكتابة ومعناها، ويعدون الاشتغال على المضامين هو اشتغال على الأشكال. ومن ثم يعطون للقصاصين شرعية ابتداعهم لتسميات لأعمالهم السردية، ليكون النقاد والكتّاب واقعين في الخلط سائرين في دروب الغلط وهم يزعمون أن في ذلك التكامل والتمام.
ولقد تنبه القاص يوسف الشاروني في كتابه( القصة تطورًا وتمردًا) إلى أن الالتفات عند كتّاب القصة المصريين ظل موجهًا نحو المضامين وليس التطور الفني في الأشكال. وكأن القصة لون من ألوان المقالات التي تتضمن معلومات وأفكارًا. ولهذا لم يلتفتوا إلى الشكل الذي لا سبيل له لان يبزغ بمفرده عنوة؛ وإنما هو يظهر بناء على موجبات موضوعية ومقتضيات فنية.
ولئن كانت القصة القصيرة فن اللحظة التي هي في سرعة انقضائها شعرية وفي امتدادها سردية، فإن الباب سيظل رحبًا للتداخل فيها بلا حدود تحد التجريب الفني الذي به تصبح القصة القصيرة في محتواها أكثر الفنون وصفًا بالميوعة والسيلان واللانتظام والهجانة.
وكان د. عبد الرحيم الكردي في كتابه( قراءة النص) 2013 قد وقف عند قضية تهجين النوع الأدبي في القصة القصيرة، متخذًا من (مرج الكحل) لمنير عتيبة 2005 مثالًا على ذلك، محتارًا هل يجنّس هذا العمل رواية لوجود السارد وتكامل العالم أم يعده قصة قصيرة لاحتوائه على مجموعة من الوحدات القصصية القصيرة التي كتبت في أوقات مختلفة ؟!
ولقد وجد الكردي أن عتيبة عرف كيف يخرج من هذا المأزق بأن أطلق على عمله اسم( متوالية قصصية) مع أن” شكل المتواليات القصصية من الأشكال المعروفة في مجال المجموعات القصصية القصيرة التقليدية” (الكتاب اعلاه ص216ـ217)
لكن التوالي في القصة القصيرة هو اشتغال فني وتقانة بنائية ومن ثم يصبح الأدعاء بأن التوالي نوع قصصي قائم بذاته هو تلفيق اجناسي على مستوى النقد وابتكار كتابي على مستوى الابداع. وللقاص كل الحق في أن يجعل قصصه محط تجريب كتابي وتطويع ابتكاري خاص به تمردًا او شطحًا أو شططًا، لكن ليس للناقد الحق في أن يقر بما يبتكره القصاص من تسميات لاعماله القصصية؛ إلا إذا وافق ما يمتلكه من أدوات وتماشى مع ما لديه من نظريات تمرس عليها بجهاز اصطلاحي ومفهوماتي معين، ناهيك عن كون الابتكار في كتابة قصصية معينة قد يكون جماعيًا أو فرديًا، ولقد تحرى الناقد الدكتور الكردي بجهازه النقدي صحة التجنيس بالمتوالية القصصية، فوجد الآتي:
1) أن (مرج الكحل) هو أكثر من مجرد متواليات، والسبب أنَّ كل قصة تقرأ بصورة مستقلة لا يجمعها الا البطل او السارد ومن ثم لا حبكة فيها موحدة.
2) أن القصص عبارة عن شرائح مفككة ثلاثية التشكيل فهي تارة تشبه الحلقات وتارة ثانية تشبه الشرائح التي تنتقل مرنة هنا وهناك وتارة ثالثة هي لوحات من الرسوم المتحركة لا فارق فيها بين البشر وسائر الأشياء.
3) أن (مرج الكحل) مزيج مهجن من الأسطورة والخرافة والحكاية الشعبية التي تمتزج مع بعضها لتفرز شكلًا مهجنًا غير منتمٍ.
4) تفكك روابط( مرج الكحل) السببية مع طغيان الطابع الغنائي والشخصيات فيها ضعيفة ومقهورة ومستلمة لقوى ميتافيزيقية وهذا ما يجعل علاقة الإنسان باللوحات علاقة عجز، بعكس الإنسان في الرواية الواقعية التقليدية الذي يسعى إلى أن يقهر الطبيعة.
5) أن( مرج الكحل) تلائم القارئ المعاصر الملول الذي لا يستهويه العمق ولا يصبر على الإطالة.
وبهذه المؤاخذات يصبح تسمية ( المتوالية القصصية) مجرد ابتداع شخصي اهوائي لا تتوفر له المشروعية المناسبة، وبسبب ذلك صارت( مرج الكحل) لا هي بالرواية ولا هي بالقصة قصيرة. واذا كان الدكتور الكردي لا يرى في ذلك التهجين نذيرا بانتهاء فكرة النوع الادبي جملة وانما هو ميلاد أنواع جديدة سوف تخرج من تحت الرماد( الكتاب، ص229) فاننا لا نرى في هذا الابتكار هجانة وانما هو تداخل اجناسي فرضته طبيعة التطورات الحياتية والمعرفية وهذا ما يفتح باب التجريب واسعا امام القصاصين، لكنه في الجانب الاخر يلغي نظرية الانواع جملة وتفصيلا ويحل محلها نظرية التداخل الاجناسي.
والذي نبغي تأكيده هنا مرة أخرى أن الكاتب إذا ما داخل بين الأنواع ومازج بين الحدود والمديات، فليس له الحق أن يفرض على النقد تجريبه ويوجب على النقاد أن يسايروه في تسمياته؛ وإنما الأمر مرهون بالجهاز الاصطلاحي والمفهوماتي للنقد ليختبر المسميات، كي يقول بصحتها أو بطلانها. وهذا ما يتطلب ثقافة مصطلحية ينبغي أن يتمتع بها الناقد، عارفا أبعادها ونزعتها ومنها تزامن التسمية وأن تقوم على التنظيم والتجريد والخصوصية والاحتواء والشمول والتعميم. وهذا ما يمنح الكلمة التي نريد لها أن تكون اصطلاحا القدرة النظرية في الإحالة الموضوعية على دلالة معرفية لا كمعيار وتوصيف وإنما كتسمية وتعريف.
ولا يتأتى للمصطلح الاستقرار إلا إذا جمع أجزاء الفعل واستوعب تفاصيله. وليس ميسورا ابتداع مصطلحات بطريقة فردية وتعميمها من جانب واحد، بسبب تعقد مجال البحث الذي ينبغي أن يقوم به الجماعة من ذوي الاختصاص.
ولكي لا يكون المصطلح المستجلب هجينًا؛ فإن للترجمة أهمية في جعل المصطلحات مقننة ودقيقة. وهذا ما ينبغي أن تقوم به مؤسسات ترجمة متخصصة، لكي يكون ابتداع مصطلح ما؛ قائما على قصدية علمية بعيدًا عن العفوية أو الرغبوية، وبالشكل الذي يجعل واضع المصطلح مدركًا لخلفياته المعرفية وعالما بأجوائه الفكرية ومدياته النظرية.
نشر المقال في جريدة المدى 19 اذار 2019