طلال حسن : عصافير من مخيمات نينوى (قصص للأطفال) (4)

المبدع الكبير الأستاذ طلال حسن

الفجر

منذالفجر ، وقبل أن يصيح المؤذن الله أكبر ، بدأ القتال من جديد ، وراحت القنابل والصواريخ تنهال على ما تبقى من خرائب البيوت القديمة ، التي دمرتها الحرب المستمرة منذ أشهر في الموصل .
وأفقت على رضيعتي ، تبكي إلى جانبي ، وتحت الفراش المجاور ، كان رضيع الايزيدية ، التي اشتراها زوجي وتزوجها ، يصرخ بصوت مرتفع ، يا للعنة ، أهذه حياة ؟
ومددت يديّ ، ورفعت رضيعتي من تحت الفراش ، وألقمتها ثديي ، الذي أوشك أن يجفّ ، فكفت عن البكاء ، وراحت ترضع ، بينما ظلّ رضيع الايزيدية يعوي تحت الفراش .
وتلفتُ حولي ، ترى أين ذهبت هذه الايزيدية اللعينة ، تاركة رضيعها يصرخ هكذا ؟ لابدّ أنه جائع ، جائع جداً ، فأمه لا حليب في ثدييها منذ أن ولدته ، أهذه هي الجنة ، التي وعدتني بها ، يا سعدون ؟
وتراءى لها سعدون ، وهو يتكىء على عربته ، التي يبيع فيها قناني الغاز ، وهو يقول لها : تمهلي ، يا رمزية ، سأجعلك تعيشين معي في الجنة .
ترك سعدون عربة بيع قناني الغاز ، وحمل السلاح ، بعد أن أطلق لحيته ، وارتدى الملابس الأفغانية ، آه سعدون جننتني بلحيتك ، وسلاحك اللماع ، وكأنك عمر الشريف ، لكن .. آه ..
رضيتُ بالقلق ، والقتال ، والمخاطر ، لكن .. أن تأتيني بفتاة ايزيدية شابة ، وشقراء ، بحجة أنها دخلت الاسلام ، وصارت منّا ، هذا ما لن أغفره لك ، يا سعدون ، رغم أنني لا أعرف أين أنت بالضبط .
والأنكى أن يأتيني صديقك حامد ، الذي أرادني قبلك ورفضته ، ويقول لي ، رمزية ، تعالي معي ، سآخذك إلى تلعفر ، لقد قتل سعدون .
وارتفع صراخ رضيع الايزيدية ، ترى أين ولت ؟ لعلها هربت ، هؤلاء الايزيديات يهربن مهما كانت المخاطر ، وبعضهن ينتحرن ، يفضلن الموت على العيش مع رجالنا المقاتلين .
ونظرت إلى الطفل الرضيع ، وهو يصرخ ويتلوى ، مهما يكن فهو ابن سعدون ، ويا له من طفل أشقر جميل ، أشقر ، وشعره مثل الذهب و ..
وسقطت قذيفة في الفناء ، وإنهارت أجزاء أخرى من البيت ، يا إلهي ، قذيفة أخرى وأدفن أنا ورضيعتي وابن سعدون تحت الركام .
ونهضت مسرعة ، ورضيعتي الباكية بين ذراعيّ ، وأسرعت إلى مدخدل الغرفة ، التي تهدم بابها الخشبيّ العتيق ، وكدت أندفع نحو الفناء ، لكني توقفت ، فابن سعدون مازال يصرخ ، وكأنه يستغيث بي ، فعدت إليه ، وحملته بين ذراعيّ مع رضيعتي ، واندفعت مسرعة إلى خارج البيت المهدم .
وفوجئت بمئات الرجال والنساء والأطفل يركضون متعثرين من الرعب ، متجهين نحو مواقع القوات المسلحة ، والرصاص يتطاير من حولهم .
واندسست بينهم ، فلأبتعد عن هذا الجحيم ، وأذهب إلى مخيمات اللاجئين ، وأنتظر هناك ، لعل سعدون يلحق بي في يوم من الأيام و ..
ومن بعيد ، سدد قناص ، أزرق العينين ، ذو لحية شقراء ، بندقيته الحديثة ، لابد أنها واحدة من المرتدات الهاربات ، وضغط على الزناد ..

أم ادميعة

عند الفجر ، والشمس مازالت وراء الأفق ، فززتُ من نومي ، رغم أنني لم أنم إلا في ساعة متأخرة من الليل ، فطفلتي نورة ، التي لم تتجاوز بعد السنة الأولى من عمرها ، كانت مريضة .
ومددت يدي إلى طفلتي ، التي كانت ترقد هامدة إلى جانبي تحت الفراش ، وتحسست وجهها ، يا إلهي ، حرارتها مازالت مرتفعة ، بل يبدو أن الحرارة ارتفعت عن الليلة الماضية .
وعلى الفور ، انبثقت الدموع حارة من عينيّ ، وتراءت لي أمي ، وهي تؤنبني ، كفى بكاء ، أنت ” أم ادميعة ” ، إن حياتنا لا تواجه بالدموع .
وأسرعت إلى الخيمة المجاورة ، التي تقيم فيها ” أم صالح ” والجدة حماتها ، وبادرتهما بصوت منهار باكٍ : الحقاني ، نورة مريضة جداً .
وهمت ” أم صالح ” أن ترافقني إلى خيمتي ، فاعترضتها الجدة ، وقالت : أبقي أنتِ عند صالح ، أنا سأذهب إلى نورة .
وجاءت الجدة معي إلى خيمتي ، وحدقت في نورة ، وتحسست وجهها ، ثم قالت : الطفلة مريضة جداً ، علينا أن نأخذها إلى المستوصف .
وحدقت في وجه الجدة ، التي بدا القاق عليها ، وقلت بصوت تخنقه الدموع : لكن المستوصف مغلق الآن ، الدوام لم يبدأ بعد .
فقالت الجدة بصوت منفعل : تهيئي ، يا ابنتي ، سأذهب إلى الخيمة ، وأرتدي عباءتي ، وأعود إليك بسرعة ، لنأخذها إلى المستوصف .
وانهرت إلى جانب نورة ، وأصغيت إلى أنفاسها ، التي تتردد بصعوبة في صدرها الضامر ، وانبثقت دموعي مرة أخرى ، آه أحمد ، ليتني لم أرك ، وليتك لم تأتِ أنت وعمك وأمك لتخطبوني من أمي ، فأبي مات وأنا طفلة صغيرة دون الخامسة .
يا أحمد ، لقد وثقنا بك ، فأنت شاب مستقيم ، تتردد على الجامع كثيراً ، لكنك لم تكن صادقاً معنا ، فأنت لم تقل لأمي ، ولا لي أنا أيضاً ، بأنك داعشي ، وجاء القتال الجحيم في الموصل ، وقتلت .
وتراءت لي ، بعد انتهاء القتال والخراب ، مراجعاتي للدوائر الرسمية ، لأسجل نورة ، ولتكون لها أوراق ثبوتية ، لكنهم رفضوا تسجيلها ، لأن أباها غائب ، طبعاً لم أقل لهم أن أباها قتلته القوات الحكومية ، وإلا لأخذوني أنا ونورة إلى إحدى مخيمات العزل .
وذات مرة ، لحقني شاب ، كان يقف في الغرفة ، التي أراجع فيها ، وقال لي : أختي ، أنا أعرف زوجكِ ، وإذا عرفوا الحقيقة ، ستعتقلين ، وسيأخذونك إلى إحدى مخيمات العزل .
لكنهم عرفوا ، بعد فترة قصيرة ، لا أدري كيف ، فجاءوا ، وأخذوني من البيت ، وها أنا في المخيم منذ أشهر ، ومعي ابنتي الطفلة نورة .
وجاءت الجدة ، وقد ارتدت العباءة السوداء ، فوق ملابسها السوداء ، وانحت على نورة ، ورأيت عينيها تتسعان ، فنظرت إلى نورة ، وهي ترقد هامدة تحت الفراش ، وقلت : ما الأمر !
فردت الجدة قائلة بصوت منطفىء حزين ، وهي تسحب الغطاء فوق عائشة : ليرحمها الله ، ارتاحت .

اشارة :
هناك مخيمان للعزل ، الأول في حمام العليل ، وفيه ” 500 ” طفل ، ومخيم حسن شام وفيه ” 250 ” طفلاً ، وفي دار الأيتام يوجد ” 65 ” طفلاً .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| احمد ابراهيم الدسوقي : قصة من أدب الخيال العلمى “عماليق جزيرة التاروت” .

ويليام وزوجته مواطنان أوربيان ثريان فى أواسط العمر ، يعيشان فى الربع الأخير من القرن …

| مها عادل العزي : وجبــــــة فطـــــور .

في ليالي قلقه الكثيرة كان يدير وجهه إلي الحائط فيخربش عليه بأظفاره الناعمة الصغيرة كان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *