الزمن والمهافيف…*
بقلم: سهيلة داود سلمان
التيار الكهربائي امين في مواعيده … في السادسة مساء سكتت الاجهزة الكهربائية وعم الصمت وساد البيت جو من الكآبة ما لبث ان انتشر في كل مكان مع ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة، الحرارة التي لا بد انها اليوم تعدت الخمسين رغم انها رسميا لن تتجاوز الـ 48 في اي حال من الاحوال . احدهم اكد لي ان هناك قانونا لتعطيل العمل اذا ما ارتفعت الحرارة في الصيف الى اكثر من معدلها، بيد اني لا اعتقد بهذا واظن السبب يعود الى الرأفة باعصابنا، اسرعت نحو الاجهزة الكهربائية اطفئها لئلا يحدث عطب فيها اذا ما عاد التيار الكهربائي بأقوى مما هو عليه، كما يفعل كل الناس في كل البيوت خوفا على اجهزتهم التي لن يستطيعوا تعويضها او تحمل اجور تصليحها، فكم من جهاز تبريد حصل فيه عطب كلف الالاف وكم ثلاجة احترق مولدها.. ولان مصائب قوم عند قوم فوائد، فقد انفتحت ابواب رزق واسعة امام مصلحي هذه الاجهزة واستحدثت محلات جديدة للتصليح يمارس فيها المهنة من هب ودب .
راحت ابنتي تحرك الهواء امام وجهها بطرف ثوبها البيتي وهي تتأفف وتتذمر، فتذكرت المهافيف التي اشتريتها اليوم وكنت قد نسيتها تماما، فخرجت الى السيارة فتحت بابها وتناولت المهافيف، سئلت وسط الانشراح الذي بدا على الوجوه ، (من اين اتيت بها) فبدأت احدثهم عن (السبلت) و(الوندو) و.. (الزمن) .
كنت عائدة من عيادة مريض من اصدقائي ، يرقد في جناح للكسور في مستشفى شهير، اقود السيارة وانا اشعر بالندم لذهابي لا بسبب الحر اذ ان جهاز تبريد سيارتي بدوره عاطل، ولكن بسبب ما رأيت ، حيث اصابني المشهد بالغم والاكتئاب، كانت الردهة واسعة ومروحة كهربائية في وسط السقف تئن وتهتز وهي تدور ببطء ولا يكاد هواؤها يصل الى كل المرضى، كان زوج صديقتي يرقد شاحبا متأففا يتلوى وساقه مبنية بالجبس من الركبة حتى القدم ومعلقة، وكانت ابنتاه تتناوبان في الترويح عنه بمهفة يدوية.. كنت قد حملت معي باقة من الزهور الصيفية اليانعة وضعتها عند قدميه، صديقتي التفتت نحو ابنتها وقالت:
– ليتك تذهبين الى غرفة الممرضات لتطلبي مزهرية او كأسا او اي شيء لوضع الزهور .
رأيت جهاز تبريد يبرز من احد الجدران.. سألت مستغربة لماذا لم يفتحوه؟!! قالت صديقتي وهي تعبس:
– انه عاطل
اجبت:
– كيف ؟ الا تطلبون تصليحه؟!
هزت صديقتي رأسها وقالت:
– طلبنا .. يقولون لا وجود في ميزانية المستشفى لمثل هذه المصاريف
في هذه الاثناء ارتفع صوت زوجها وهو يطلب ان تعينه على تغيير وضعه، تمنيت له الشفاء ولصديقتي وابنتيها الصبر وخرجت .
كان الوقت ظهرا والحر على اشده وانا اجتاز شارع 14 رمضان في طريق عودتي الى البيت ، وعند اشتعال الضوء الاخضر وتوقف المركبات في الاشارة الضوئية هجم اولاد صغار عليّ، يمدون بضاعتهم من النافذة، كل يتوسل اليّ ان اشتري منه شيئا.. علب كبريت، حلوى مكشوفة، مناديل ورقية.. ومن الجهة الاخرى تقدمت فتاة شقراء مشعثة الشعر متسخة الوجه وبدأت تمسح زجاج السيارة الامامي بخرقة في يدها.. زاد اكتئابي وانا اتذكر الايام الخوالي حينما تطرق ابواب البيوت مجاميع من الموظفين وبأيديهم اوراقا يسألون ويسجلون ان كان هناك اطفال قد بلغوا السن التي يجب فيها ان يلتحقوا بالمدارس.. كان التعليم الزاميا وويل للاهل ان حجبوا اطفالهم عن الدراسة.. اين نحن من تلك الايام؟! هل اصبحت من مخلفات التاريخ؟! واين حقوق الانسان التي يُتشدق بها هناك؟!
وفجأة ظهر امامي: رجل في اواسط العمر، حاسر الرأس، محروق البشرة، يرفع بيديه الاثنتين معا مجموعة من المهافيف جاعلا من مقابضها ضبة رافعا اياها على رأسه مخترقا بها صفوف السيارات دون ان يتطلع الى اصحابها مضيفا الى نفسه هيبة وكأنه جندي في ساحة الوغى، وفي مشيته هذه وبين الفينة والفينة يصيح بصوت واه:
– سبلت.. سبلت.. برد نفسك بلا ضجيج
ولاني سمعت من الاصدقاء والمعارف ان المهافيف التي كانت تستعمل قديما قبل حلول الكهرباء والتي انقرضت وباتت تحمل صفة الفولكلور ، عادت هذه الايام لتفرض نفسها بقوة الحر وباستبداد الحصار، هذه المهافيف يطلق عليها الباعة هذه الايام اسم (السبلت) الذي هو جهاز التبريد الاغلى ثمنا والاجود نوعا، الاقل جودةمنه (الوندو) الذي يضعونه في الاكثر على النوافذ .
ناديت بصوت عال وكان قد ابتعد مخترقا صفوف السيارات المتوقفة:
– ابو المهافيف!
عاد متوجها نحوي وجهه المليء بالتجاعيد محفورة في خطوط منتظمة توحي بالنبل، سألته ممازحة:
– ماذا معك؟؟ (سبلت ام وندو)؟
ضحك ضحكة مبتورة وهو يقول:
آه.. زمن
– أهي ماركة جديدة؟
سألته مستفهمة، بيد اني ادركت ما يعنيه.. ولوهلة خلته كان موظفا حين كانت الوظيفة لها هيبتها، رئيس ملاحظين في ادارة الافراد ربما، مديرا لقسم الارشيف، او مدقق حسابات مخضرما، يشطح بي الخيال دوما.. صحوت على صوته المرتجف:
– رحم الله تموز، قتلنا آب بحره .
– بكم تبيع المهفة؟
قال:
– بعتها بثلاثمائة، لك بربع
والربع كما هو معروف اليوم يعني ربع الالف، كان من قبل حين يقال (ربع) نعرف انه ربع الدينار، هكذا هو قانون الانحدار الى الاسفل دائما »ورددناكم اسفل سافلين« صدق الله العظيم
***
سألت ابنتي:
– لماذا اربع مهافيف ونحن ثلاثة؟
قلت:
– تحسبا لدخول ضيف علينا والكهرباء مقطوعة .
قالت:
– واذا كانوا ضيوفا لا ضيفا واحدا؟!
قلت:
– حينئذ نتخلى لهم عن مهافيفنا
ضحكت بسخرية وهي تقول »حقيقة كرم حاتمي«
امسك كل منا بمهفته وبدأنا نحركها امام وجوهنا، بعد قليل انتبهت الى ان ايدينا صارت كأنها آلات تتحرك لا اراديا مما جعلني استحضر فلما من افلام ‘(شارلي شابلن) القديمة الصامتة، ثم تذكرت ما قالته لي »نهاية« الفتاة الريفية الطيبة التي تأتيني مرة كل اسبوع لتساعدي في تنظيف البيت »نهاية« سمتها امها عند ولادتها بهذا الاسم علها تنهي بها انجاب الاناث اذ كانت السادسة بين اخواتها، قالت نهاية انهم يبللون المهافيف بالماء فتمنحهم هواء عليلا ينعشهم، ذهبت الى الحمام وفتحت الحنفية وبللت المهفة حتى شعرت انها ثقلت ولما عدت بها كان الماء يقطر منها ويبلل الارض، ، وحين حركتها امام وجهي امطرتني بما تحمل، وهذا ما نبهني الى جهلي وغبائي اذ لم تقل لي نهاية ان عليّ ان انفضها قبل الاستعمال، ولا ادري كيف جاءت جدتي في تلك اللحظات وحضرت امامي، صدق من قال ان الاموات حاضرون وفي الاوقات المناسبة يفرضون انفسهم، كانت رحمها الله تحب الجلوس في صباحات الصيف في باحة الدار وهي تتطلع نحو الحديقة ولا تدخل الا بعد ان تلوحها الشمس ويسخن الهواء، كانت تكره هواء المروحة السقفيةتقول انه يجعل مفاصلها تتيبس وكانت تجلس والمهفة بيدها تحركها ذات اليمين وذات الشمال، وبعد بضع حركات ترخي قبضتها وتبدأ بتحريكها حركات دائرية متناسقة فتدور المهفة حول نفسها باتجاه عقرب الساعة فيتحرك الهواء في كل الاتجاهات ويغمر وجهها وجسدها كله فتتطاير معه ضفيرتاها وطرفا (البويمة) الحريرية وينتشر الهواء حول المكان حتى يغمرنا اذا ما كنا نجلس بقربها، حاولت ان اتذكر تلك الحركة واقلدها فلم افلح وكانت المهفة تتفلت من بين اصابعي .. شعرت بضجر ثقيل يخيم فوق صدري، فرميت المهفة ونهضت معلنة بصوت عال:
– الافضل في مثل هذه الاوقات ولكي نتجاوز الحر وننساه، ان تقتل الوقت بالثرثرة.
وتوجهت نحو الهاتف اطلب صديقتي »نازك« وبدأنا حديثا كالعادة عن الحر والكهرباء وحدثتها عن المهافيف والبائع المسكين، وقالت نازك انها بينما كانت تتصفح كتابا عن (الفن العراقي القديم) لفتت انتباهها صورة لختم اسطواني.. ما ادهشها فيه انه يحمل رسما لرجل جالس يدخن »اركيله« وعلى رأسه يقف رجل خادم، وبيده مهفة يروح بها للرجل الجالس .
قلت: وما المستغرب في هذا؟
قالت: ان المستغرب والذي ادهشها ان المهفة هي عينها المهفة التي تباع هذه الايام، لم يتغير شيء في شكلها رغم ان الختم يعود تاريخه الى اربعة الاف عام .
– اربعة الاف عام من الحر المهلك ولم يطرأ اي تغير او تطور على هذه الصناعة؟ حقا انه امر محير .
قلت هذا مستغربة بدوري، ثم اردفت:
– ثم ان هذا يعني غير ما يدعون من ان جو بلاد الرافدين كان معتدلا قديما .
قالت:
– لو لم يكن كذلك لما اختار الخليفة العباسي عاصمته هنا وكانت امبراطوريته تمتد وتتسع لتشمل جنائن حقيقية.
وبينما نحن في هذا الشأن اذ سمعت ضربات على الباب، اعتذرت لنازك واغلقت التلفون، دخلت اختي متجهمة مدلهمة، ما بك؟ سألتها، قالت:
– جئت اقضي الساعات الحرجة عندكم فالكهرباء مقطوع عندنا .
ثم تنبهت الى المهافيف وهي تجيل البصر الى ما حولها ثم قالت والاحباط باد على وجهها:
– ما هذا؟ قطعت كل هذا الطريق لاتخلص من الحر عندكم واذا بي كمن »يستجير من الرمضاء بالنار«!!؟
*عن صحيفة الدستور