بمناسبة مرور عام على رحيله: سيرة في نقوش ذاكرة الكتابة :
النصراوي وخدوش الصورة / أرتحالات في متون النص
عباس خلف علي (ملف/4)

سيرة في نقوش ذاكرة الكتابة :
النصراوي وخدوش الصورة / أرتحالات في متون النص
عباس خلف علي
الحلم والذاكرة
على مدى ثلاثة عقود مسكونة برحيق الكتابة هي عمر كل ما قرأ أحدنا للآخر و حصيلة ما يسميها صومعة براعم الأفكار التي تغذيها هواجس ذلك العشق الصوفي الذي يرتشف من نخب الروح اخضراره وزهده ، ..تلك الصومعة لا مكان ثابت لها فهي تتشكل خلاف نظام الأبنية وهندستها ومعمارها ، فهي توجد في أي مكان يتسع لهذيان رسائل النفس وتداولها فلا يختلف رصيف الشارع عن مظلة جدار عار في يوم عاصف أو إلى جانب شجرة باسقة يتساقط منها الورق الخريفي هروبا من خجل اصفراره أو بين ضجيج المقهى المسعور بأخبار السياسة والرياضة ولا يبالي بما نمارسه من طقوس التعميد ،كل ذلك وما نقوم به من تبديل وتغير في هيكلية الصومعة من داخلها وخارجها ولا يلتفت له أحد ، نعتقد في ذلك سر مبتغانا أن لا يمسنا ضر التشويش وبلاهة التلصص عما يعترض منوال حاجاتنا ، نفترش ذخيرتنا التي هي زاد ما نتقاسمه من رغيف الكلمات العابق برائحة مكائن الطباعة وندون أحاسيسنا المغمسة بنكهة اريجها من عناوين مثل البرقيل وكتاب الهامش و مدونة ألواح الرؤيا وجمرات التدوين ولوسيفر وطيف المنطقة المقدسة وتوقيع الأثر وهو يضيف مدينة الزعفران وكور بابل ومن اعترافات ذاكرة البيدق وعدسة الرؤيا وفرصة لإعادة النظر ثم يسألني ماذا فعلت ب عربة هولاكو ، فنقلت له ضجري من إيقاع حياتي الصاخب بهؤلاء الأبطال الذين يتناسلون في خضم موجات النزوح التي لا تستوعبها أمكنة النصوص ولا أزمنتها والمدينة غاطسة في وحل تاريخ الأضداد ، يهز رأسه بلا تعليق ، ينتظر ربما قد أضيف شيئا جديدا ولكن أنا الآخر يتلبسني الشك بما قلت ، تطلق المخيلة مبخرتها وتسرح في البعيد تاركة بيننا ذلك الوجوم الذي تتخطفه النظرات ، من منا لا يدركه ؟ فلا أظن أنها كانت سهلة لي أن أقول مثلا أن من الممكن تغير الوعي الديني من خلال النصوص الأدبية ، الوعي أختيار بحاجة إلى رغبة في التحول الفكري وصعبة عليه أن يهمل ما أقصده ولا هي فسحة تنضوي تحت تقاليد المقروءات الاعتيادية بل حتى لحظات التأمل تخضع لمجموعة استدلالات متباينة ومتشابكة وأحيانا مؤتلفة لا تقنع إلا بالمزيد من الأحتكاك الذي يولد الحجاجي والخوض في جدليته .. لحظة تجلي هي بالأحرى ، قد تطول أو تقصر فأنها مشغولة بأمتداد الخواطر وتشكيل الملامح من عالم منسوج بأفكار كتاباتنا ، يا ترى هل هي أفكار تصلح أن تكون معادلة للذات المنتجة أو إنها مجرد إرهاصات تدعي إنها قابلة للحياة ، قلت له : جردتك اليوتوبيا في كتاب الهامش من الواقع وأبطال النص كافكويين دمويين يغورون بمستنقع الإكراهات وإني أرى أن الهروب نحو الأسطورة والخرافة ذريعة لكشف واقع متوحش ، غرائبية ما يحصل في واقع النص إنه حَولَ الآدمية إلى مسخ ، لا ينفع معها دور الحكماء في تقويض لعبة الخرافة والأسطورة المتفشية والعصية على الزوال وسطوتها باءت تهدد فرص النجاة من فريسة الذعر العشوائي .
هل كنت تعتقد أن مفعول الكتابة يمكن أن يؤثر في خارجها وأنت تدرك أن أيكو يقول أن الكتابة هي كشف الزيف وسجل غير ملفق للتاريخ ، يعني أنك تؤرخ لحقبة شابها الكذب والرياء واستولى عليها الغش والتشويه للحقائق ، فأنت تصف وعي القراءة في المدونة أي قراءة الواقع وملابساته الشيطانية ونسبت كل ما فيه من شخوص وأحداث للمتعاليات الميتافيزيقية الأقرب للبديهية في تشكيل التماهي والتداعي الحر من أجل خلخلة أنظمة الروي ، بدليل أن سجل المصائر وكتاب الهامش كلاهما يقوم بدور الراوي وكلاهما (مستوفز) أي غير مطمئن لهذه الأنظمة كما لم تسلم الكتابة التي عولت عليها أن تكون هي الصلاة رغم سمها القاتل فنلاحظ انهيار بصرياثا وجمرات التدوين وسابع ايام الخلق ومدينة الزعفران وجوائز السنة الكبيسة في طوفان تيعو ولوسيفر ومايسقط من لسان عزرائيل ولم تسلم أوفاق الهمايوني المشحونة بشجون الأسى من جحيم الأنفاس المفجوعة ، فلا تفسير للكتابة سوى إنها كمين يرصد المفارق في جنبات الواقع المحذور فتبقى عين الراصد تكافح الضلال والمتاهة وتقلل من أضرارها ولكن يبقى الأهم هو أدامتها من الأخطار المحدقة بها لتستمر بالمقاومة أطول فترة ممكنة على البقاء ، وهكذا أرى المعنى مخاض تعيشه أبطالك في سلسلة التأويل الذي يدور في أفلاك القراءة ، فالنص لديك يقهر المعنى الواحد المعجمي وينفلت من تكوينه في العبارة إلى الذهن ولا يسعى أن يكون مرجعية ساكنة وقارة وهذا باعتقادي ما يدفعك للقول : وإذا ما أردت أن تكون تلميذ معرفة ما عليك إلا أن تدخل الكتابة عند مطلع الفجر ، وبهذا تصبح الكتابة لحظة كشف لبؤر الحقيقة المحتدمة بنزعاتها الشهوانية وليس خلاصا من أتون إرهاصاتها المقيتة بأمراضها وعللها ، فهي قد تأتي ببديهية مدلولات الفحص السريري الذي يسبق نتائج الوصفة ، الكتابة كما يقول بارت كينونة تتحرى زيفها وحقيقتها في وجود لا يقين فيه … أحس بردود الفعل المكبوتة في داخله و لا يجيب عن ما قرأت في المخطوطة لا يبرر ولا يدافع يتركني فريسة لنظرات كاهن غنوصي يحب أن يدلف في صمته كالعادة يراهن على إبطال مفعول الغرور والنشوة والنزوة مقابل اللذة ومتعة الكتابة المحضة وهذا مكمن الانشغال وربما يكون هو الفخ الذي يتربص صداقتنا في هذه العقود الثلاث ، لا تستريح هواجس النفس ، تشتبك دورتها بين النقائض ، قاموسها وناموسها يتماهى مع الأشياء ، الغريب أن البوصلة لا تغير اتجاهها مهما تبدلت ألوانها وأحجامها ، ولكن قد تتعرض للأشتباه في قراءتها ، نجلس في الحافات ونقرأ نثار ما تأتي به الأفكار ، كل المؤلفين يدركون حجم لعبة الوجود والعدم ومهما قيل أو يقال في كتبهم تبقى قيمتها تجسد شذرات من السرديات الكبرى التي تمتحن الصانع في بضاعته ، اختبار يطارد فتنة مجهولة في عالم ينبض بالغليان والفوران ويشتبك فيه الظاهر والباطن على تفسير طبيعة ما نرى ، فما المبرر أن يخلق الالتباس أو الشك في مقدرات شئنا أم أبينا هي تتنفس في أذهاننا حيرة لا تنقطع عن صلتنا بها وصلتها عن بعضنا ، شعور يخامرنا في لحظة التجلي …الأفكار غريبة لا تصمد طويلا أمام لعبة اليقين النافرة من أية حقيقة مشكوك بأمرها ، وهنا نحس بالغربة في طبيعة الرؤية المنضوية تحت رغبات اندفاعنا لفك طلاسمها ، نستعيد صدى السحرة ( هؤلاء المؤلفون الذين أصابونا بلوثة الحيرة ) وكانت تنبعث كنكهة التبغ الكوبي لا تنطفي الجمرة في ذلك النسغ المشحون بالحوار ، الحوار مع السحرة هو شيء لا يعني سوى ركوب أهوال لا توصف بسهولة وتكذيبها لا يعني أنك ألغيت الخرافة فما دمنا لا ننتهي منها فما عسانا أن نفعل ؟
وجدان الكتابة :
تحملني المناقشة مع (محمد علي) أن أقول فيه : إنه غنوصي الوجدان في الكتابة كما أنه غنوصي الإطلاع في القراءة وهذا ليس استنتاج لي بقدر ما هو فنوغرافية (تتبع ) لكينونة تشربت بالحرمان والعوز والضنك المدقع وفقد الأب والأخ ومواجهة مرض الأم المزمن وانقطاع الموارد تماما إلا من بعض الفتات الذي كان يحصل عليه بالكاد بواسطة النشر أو ما كان يجنيه من مهنة درج عليها أغلب المثقفين أثناء سنين العجاف في بيع الكتب ، وهو امتهان قسري لا طائل منه ولا يكفي بكل الأحوال أن يفي بالغرض ولا يقاوم صدأ المعيشة ..
ما تبقى من النهار يهبه للأم المسكينة المقعدة ، فريسة المرض ، آفة تتجول في جسدها النحيف وتفتك به بلا رحمة ، يذوب رويدا رويدا بهدوء وسكينة ، تمتد على السرير ولا تقوى على الحراك ، بعضها يتخلى عن بعضه وتردد : لا حول ولا قوة إلا بالله ، بخفوت لا يكاد أن يسمع ، يتلاشى في فضاء الغرفة التي تضيق بأنفاسها ، يقول عنها : إنها ثكلى بهذا العالم ، تعيش مخاض اصفرار وجوهنا واهتزاز تقلبات أمزجتنا ، نحسها تفهم ماعلينا وتكتم لواعجها ، لا تضحك ولا تبكي ، صارمة وحادة مع نفسها ولا يمكن رؤية تلك الموجات القاسية سحنتها على الوجه ، تخفي غضبها وامتعاضها عما ندركه يخرج من ذروة الأحاسيس التي تجمعنا بعد أن يدلفنا الصمت ، عصامية لا تريد من أحد أن ينظر لها بشفقة ويولول على عوزها وشقائها ، تؤمن بأن الحياة رسالة ومواجهة لا انهزام وضعف وخيبة ، ترفض أن تفكر أنها عالة على أحد ، لقد كانت وقبل أن يهدها المرض اللعين تدير ظهرها عن هذه الخدوش وتستعين بما تبقى لديها من إصرار ، فلا شيء يمنعها من ركوب الموجة ، واجتياز نقطة الصفر ، وهكذا صارت الليالي لا يخفت عنها صوت ترترة ماكنة الخياطة عن أسماعنا حتى الربع الأخير من الليل ، سهر مشوب بالإرهاق والأرق لمواجهة إهمال الأب وعدم المبالاة وفتح كوة للأمل الذي يترقبه الأبناء ، رزاق عاد لكلية الإدارة والاقتصاد وأنا حزمت حقائبي لكلية الزراعة في الموصل ، ولكن يبقى الشيء الأهم ، أنك مهما تتأمل في ما مضى لا يدعك الحاضر أن تنسى مادام كل شيء يضيق بالحال ولا تقوى على النجاة منه بالهين ، سنين عجاف لا تعطي ما تريد ولا يهجرك وباؤها ، المواجهة مستمرة و الاشتباك في أوج احتدامه ينازلك مادام فيك رمق ينبض ، يبدو من هذه السنن برزت التحديات ليس في وجه الأبناء وحدهم بقدر ما يحاك أضعافه في وجه هذه الأم ، تنظيم سري محظور يمد خيوطه داخل البيت ، الحرب العراقية الإيرانية الطاحنة دقت أجراسها في كل مفاصل الحياة ، موت الأب ، استدعاء المواليد للجيش أخذ يتسع ويتمدد بلمح البصر وأصبح كل من عليها يلبس الكاكي ، لا مفر من الانحناء للعاصفة ، وخضنا أنا وأخي مع الخائضين للعبة الموت ، سلمني بعض الحاجيات ذات مساء شتوي قارص وخرج ، كنت أراه يعدو من الزقاق كمن يفر ظل القمر عن حلكة السواد ، يا الهي هل هي الحرب أم قيامة الحياة ، تغاضيت حرج السؤال من الأم ودلفت غرفة رزاق ، كانت تتلصص بنظراتها المنكسرة شجوني وحسرتي لونهما يعتصر فيه الخوف والقلق من المجهول ، يتعرى أمامها بلا قناع يخفيه عنها ..سمعتها تقول : فعلها ؟ ولم تمض فترة طويلة حتى تأكد خبر فقدان رزاق بظروف غامضة .
ثم تقاذفتنا الريح بعد زلزال البيت ، طُلب منا التخلية ، لا تنفع المماطلة مع المالك الشرعي للعقار أمام هذه التخلية ، البيت صحيح خارج التاريخ ومدار فلكه ، لاشيء فيه يصلح للسكن ، كل غرفه لا حصانة فيها من أي طارئ ، لا شيء يهمني سوى غرفة رزاق ، بينما الأم كانت تقول في سرها ألي أين يستمر منوال ضنك الحال وتردي الأوضاع وانقطاع السبل ، وقبل أن تفرغ البيت الآيل للسقوط رأيت دموعها تنهمر بحرقة كأنها تواسيني بهذا الجزع أو تفوقه عندما أخبرتني بأن رزاق قد يأتي ولا يجد من يضمه إلى صدره . .
كانت عيناي تراقب أثناء زياراتي له في أول الحصار ذلك السرير الذي تتلوى فوقه تلك الأم ، أو بالأحرى تشعر أنها تتلوى ، حرارة المرض تنبعث بصمت فتتحسس صورته كأنها تنبعث منك ، لا تجلس إلا أثناء ممارسة طقوسها الدينية تلبيها وبعد الانتهاء منها تعود إلى للتسبيح بخرز زرقاء اللون تنتظم بشاهود كأنه البيدق وأحيانا تتم هذه الشعيرة وهي ملقية على السرير تخفي كدمات الوجه بحجابها الخفيف البني ، الغرفة وسط البيت لها نافذة مطلة على ممر الباب الرئيسي ، عالم الأم ملغز بالإشارات ، فعندما تشير بإصبعها بحركة بوهيمية يفهم إنها تحتاج إلى …….؟ وإذا كانت هناك حركة تهتتز لها المسبحة يعرف إنها بحاجة إلى طعام وإذا كانت تشكو من شيء فإنها تتمرد على الحركات بما فيها الطقوس الأثيرة بالنسبة لها ..الأبواب كلها مشرعة ، الشبابيك مهشمة الزجاج والريح تهب من خلاله كيفما تشاء ، لم يكن البشر وحده في هذا المكان يستاء على ما يبدو فلربما قد يضر هذا التهشيم قوافل الفئران التي تهرب أسرع من البرق حين تسمع المواء القادم من الخارج بوضوح لأنها تتنبأ مباغتها في أية لحظة تلك القطط ذات النظرات الحادة والشرهة ، كما أن الباب الخارجي للبيت نادرا ما يستخدم ، ثمة فجوة أو شرخ بين الباب والجدار فأحد أطرافه مثبت بشعرة معاوية كما يقال ، كل ثقلها يتكئ عليه مما أدى إلى ميلانه بينما الجهة الأخرى مفتوحة أو منفصلة تماما عن الجدار مما ترك مساحة سائبة ، تعويض مباشر عن علامة ودالة الباب وهذا لا يتطلب من الضيف سوى الأذن بالدخول بعد أن يجتاز عربات الباعة المتجولين ونهيق الحمير ونباح الكلاب المسعورة ونقيق الضفادع التي تتكدس في برك آسنة يغطيها القصب والبردي المنتشرة تفرعاتها وسط المستنقعات في أطراف الحي ، هذا البيت يقول عنه محمد بالكاد استطعنا الحصول عليه بعد أمر التخلية الذي بلغنا به من قبل مالك العقار القديم ..قلت له وهو ما يذكرني بشهادة الياس الخوري عن زيارته لمحمد زفزاف في المغرب حيث تفاجأ بشقته المتواضعة أن يعيش فيها أنسان بلا أبواب وتكثر من حوله السلاحف ، فيجيبه بضحكته البريئة ، لا يهم كل ذلك ، المهم أني أعيش زمني وكفى ، فهل أنت تعيش زمنك يا محمد ، رد باقتضاب ، هذا إن كان لي زمن يا عباس ، أنا أعيش معطف غوغول ، فقلت له وهل تعني أنك مرثية أكاكي ذلك النساخ الذي لاتتعب أصابعه من نسخ الأوراق ومع ذلك كل الذي يحصل عليه لا يكفي شراء معطف آخر فكان كلما يتمزق منه شيء أو أنفتق يعالج رتقه وترقيعه وحتى وصل الأمر لا ينفع معه الترقيع فقرر اختصار وجبات الأكل كي يتكمن من شراء المعطف ولكن المشكلة أنه مات بسبب الحلم الذي تحقق بشراء المعطف ، وأعتقد هو ذات المعطف الذي خرجت منه “الخبر الحافي لشكري ” و “مائة عام من العزلة لماركيز ” و” نزل المساكين لبنجلون ” و ” حيوات متجاورة لبرادة ” و” أطفال منتصف الليل لرشدي ” و ” باب الشمس لخوري” و ” سيرة الوجع لتاج السر ” هي نسخة مكررة لذات الأنين الذي مازال يستمد نشوته من دقات قلوبنا ليستعين بهذا النبض على ترويضنا ، تحت سرير الأم يضع مجموعة من الكارتون المنضود بالكتب لا يمكن أن يعد أو يحصي ومن مختلف الأحجام ، فبادرته على الفور ، كيف تنجيها من الرطوبة والفئران ، رد ساخرا ، وهو يناولني قدح الشاي : لاشيء عندي اسند به هذا السرير المتهالك غير هذه الأمانة ..الأمانة..؟ توقعت أنه يستودع أمه بشكل يوتوبي بين جنبات هؤلاء المؤلفين ليسعفوها بأحلامهم وتعيش هواء الطموح وتهدأ من الأنين ..بينما هو له حكاية أخرى تختلف تماما عما كنت أظن .
رزاق ترك لي ذخيرة من الكتب ، فتح عيناي على ما كنت أجهله ، حبه لنظريات ماركس (الأشكنازي) في الاقتصاد وعلم الاجتماع وتطوير الحركات الاشتراكية التي كان يؤمن بحتميتها في إزالة الطبقية من المجتمع ، جعله مدمن على القراءة وشراء الكتب ، فبين غيابه الثقيل على نفسي وملامحه التي لا تبرح مخيلتي صرت مجبولا على مسامرة هذه الكتب ، تولستوي آناكارنينا ، موت أيفان أيليتش ، البعث ، الحاج مراد ، الحرب والسلام ، ماالفن ، وجورج لوكاش في كتابه ، الرواية التاريخية ، تحطيم العقل ترجمة الياس مرقس ، غوته وعصره ترجمة بديع نظمي ، بلزاك والواقعية الفرنسية ترجمة محمد علي اليوسفي ، التاريخ والوعي الطبقي ترجمة حنا الشاعر ، وديوستوفسكي في المقامر ، الشياطين ، الأبله ، الأخوة كارامازوف ، الليالي البيضاء ، الجريمة والعقاب ، الإنسان والصرصار ، المساكين ، بيت الموتى ، ومكسيم غوركي في ، اعتراف ، الساقطون ، مولد إنسان ، الحضيض ، الأم ، طفولتي ، وكتب لينين ، الدولة والثورة ، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية ، موضوعات نيسان ، وبينهن كتاب استالين المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، وكتب في الفلسفة أبرزها ، سارتر في ، الوجود والعدم ، الذباب ، الغثيان ، ما الأدب ، ونيتشه في ، هكذا تكلم زراديشت ، هذا الإنسان ، غسق الأوثان ، أنساني مفرط بإنسانيته ، وكتب بنتراند راسل الذي عرفه العالم بنشاطه ضد تورط الولايات المتحدة في فيتنام ، تاريخ الفلسفة الغربية ، حكمة الغرب ، وكتب متفرقة مثل ، جمهورية أفلاطون ، العالم أرادة وفكرة لأرتور شوبنهاور ، مباديء الفلسفة لديكارت ، أسطورة سيزيف للبير كامو ، الأمير لنيكو لو ميكافيلي ، اليوتوبيا لتوماس مور ، الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار ، الوجود والزمان لمارتن هايدغر ، اعترافات القديس أوغسطين وكتب أخرى لمحمد برادة وهربت ماركوز ومارتن هيدجر ومحمد بندور وجابر عصفور ومحمود أمين العالم هذه الخبطة من الكتب وغيرها سحرتني وجذبتني وصيرتني جزءا لا يتجزأ من عاشق ولهٍ لنكهتها الزكية وعطرها الفواح ، ورأيت يوما بعد يوم أني متأثر بما أقرأ ، حياتي كلها تحولت إلى أشارات تضج في مخيلتي ، وترسم طريقي بلا أرادة ، إلى درجة شعرت معها أني أشبه أكاكي غوغول أو ميشكين في رواية الأبلة لديوستوفسكي أوبيريسيفال ذلك الذي ينشطر على نفسه في رواية الأمواج لفرجينا وولف وأخذت أفكر بطريقة أفول الاصنام عند نيتشة ، فتراودك الحقيقة مضببة لأن واقعها مصلوب تحت مضاربات الحيلة والغش والنفاق ، الذي يطمح للفضيلة عليه أن يتخلى عن الامتيازات ، بينما نرى الفضائل المزيفة كما البهلوان على الحبل ،فلا يقين مع فضائح تحريف العقل وأنغمس مع تحليل سيمون دي بوفوار لجيل ما بعد الحرب من المثقفين مثل سارتر والبركامو وهي تنسج من هذا التحليل لوحة جدارية للعالم الفكري المتذبذب ، واتوقف عند ايماضات كلود سيمون في رواية طريق فلاندرا ترجمة باسيل قوزي تلك التي ينتحل فيها كلود سيمون على القارئ ليكون هو ذلك الكاتب المختل عقليا ، مدمن على الكحول يتصور نفسه انه على وشك ان يحوز جائزة نوبل بأسلوب يندفع إلى الرومانسية يكاد التاريخ فيها يتدفق جارفا في طريقه كل شيء فنتحسس عنفه الروائي يعصف بخيالاتنا وعواطفنا وأتأمل طروحات الرواية الجديدة من أمثال آلان روب غرييه وناتالي ساروت وصموئيل بيكت وميشيل بيتور وجان جينيه وكلود سيمون وأتفق تماما مع مقولة عبدالملك مرتاض ، كتابة هذه الجماعة الفرنسية أشتهرت بجنوحها الشديد إلى الضبابية المفرطة وهذا النوع من الكتابة الروائية أمسى معروفا في مصطلحات النقد العالمي المعاصر بتيار الرواية الجديدة وفي العالم العربي نجد روائيين كثرا هجروا تقنيات الكتابة الروائية الكلاسيكية وأقبلوا يكتبون هذا الشكل الجديد من الأدب الروائي .
ثم يطلق آهة من صدره أحسها كنتف غيوم سوداء فتائلها محتقنة بالانفعال (ثم يكظم الوجع ويتطلع في أحضان الكتب التي نضدت بين جدران الكراتين ، وبنبرة خافته كالهمس تتموج العبارة من شفتيه ) أحس عينا رزاق تلاحقني وأنا أتجول في عوالم مقتنياته من الكتب ، هاجسي الوحيد إنه لِما يبعد هذا الرحيق عني ولم يدعوني لوليمة الاحتفال بطعم القراءة ولا يحدثني عنها أو يحثني عليها ، ما هذا السر الذي يغلف حياة هذا الكائن الذي تعيش معه في بيت واحد وترتبط معه في بطاقة التموين وتجهل عنه الباقي ؟ يحيرني سكونه المغلف بالصمت وكتمان انشغاله ، بئرا عميقا لا يمكن أن تلج ارتدادات ظلمته ولا يمكن أن تصيغ السمع لقرقعة القاع الفائرة بأعماقه ، كان مغلقا مع أصداء الأصوات ولا يدعني أتعرف على هذا الملكوت الذي تسبح فيه تلك الأرواح قبل رحيله ، جعلني مع هذه التركة وحيدا كما كان هو يفعل ، ثم يبادرني بالسؤال ، لا أعتقد أنك لا تعرفه ، ويهمل الإجابة ولا ينتظرها ولا يقف عند هذا البعد النفسي للواعج التي تتناهشه ولا يتغاضى عن إصغائي وهو يفضفض ما بداخله المكتظ بتلك الأصوات المشحونة بنزعة الاشتباه والاشتياق ، فهذه الأمانة لا ادري ان كنت جديرا بحملها أو أني لا أليق حسن مراعاتها ، وفي كلا الحالتين أعيش غواية الأضداد واردد مع محمد بن عبدالجبار النفري الذي مات في مصر 354 ه و ظل مجهولا عنا لغاية ما أدركه المستشرق (آرثر أربري ) عام 1934 ليلقي الضوء على فلسفة أقواله وغربته النفسية وأسفاره المتعددة في الأمصار ، كلما تضيق بي وساوسها تجذبني قوة خفية مخاطباتها ، فأجبت ضاحكا : لاتبتأس صاحبي فأنت تخرج من معطف رزاق ، فأجابني بلا مبالاة وهل تظن ؟
هو دائم الانشغال بترتيب حاجيات الأم ، ولا يتردد في سرعة الاستجابة .
أحيان ، تتعرض الأحاديث الجانبية بيننا إلى البتر وفقدان الصلاحية من العودة إليها ، يعزز هذا الخلل ويملئه بضيافة أقداح الشاي ، قلت له هذه الأقداح الخزفية تذكرني بحوض الطين الذي تضيف له المواد الملينة ومن أجل ذلك تضطر للنزول في داخله كي لا يجف وتحويله بعد ذلك إلى ألواح زجاجية مزخرفة التي يكتب عليها الآيات وهي كثيرا ما تستخدم في واجهة الأضرحة والمقامات والمساجد والجوامع والحسينيات ومن هذه القطع الفخارية رصدت شخوص روايتك جمرات التدوين ، فهل يمكن أن نصفها محاكاة لما قرأت لتستخلص منه شوائب معاناة الحوض أو هو قراءة شخصية لرؤية الواقع ، فلقد تفجر عبر هذا النص مخاض مشتبك يتلابس فيه الذاتي والنفسي والاجتماعي مع الروحي والخيالي واليوتوبي ، وتحتشد فيه كل المكونات لخلق أسطورة تستلهم من هذا المزيج رؤيتها التاريخية بإيقاعات سردية متفاوتة .
جمرات معمل الدبس ولهيب البخار الدبق يلفح في الوجه كالتدوين
حدثني في أحد الأماسي عن مقالي المنشور في جريدة العرب اللندنية العدد 6336 / 14 / 2 / 2002 تحت عنوان جمرات التدوين ..التداخل في مستويات السرد ..بدأت من الشخصية وأشرت لقلقها وتجاوزت العناصر التي انبثقت منها والتي شكلت عمق الصراع بين الثنائيات المتنافرة ، الوجود والعدم والخير والشر والقوة والضعف والظاهر والباطن وهي تشكل مولدات الإبصار في الكوامن ، قلت أن اهتمامي بالشخصية لا يعني التمركز في بنيتها وإنما هي نقطة التوصيل التي تتيح لي قراءة دلالتها ، فالحيلة السردية التي انبثقت عنها فكرة الخطاب هي القاسم المشترك لفحوى الثيمة التي تفجرت عنها لعبة الغياب والحضور وإن الغياب الصامت لم يعد متلاشيا ومعزولا فها هو يتجلى بصوته وحاضرا بقيمته المثلى وهو نمط من التعاقدية التي أشار لها بيرس في المرآة العاكسة ، الشخصية مهما كانت وظيفتها تحمل المرآة وعلى من يتابعها أن لا ينظر لها بقدر النظر في تلك المرآة التي تحملها ، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم المعادلة بين القناع والإقناع في عملية الاستقبال والتشخيص والإبصار في كوامن النص بوصفها دالة ومعنية في تدرج الوظائف وفحص خواصها ، فالشخصية ضمن منظورات الراوي الضمني التي تطرق لها بشكل مكثف كولن ولسن على أنها أشبة بإيقاع الذي يبث عبر موجات المورس (نظام الشفرة ) فالمستقبل الوحيد الذي يفهمها ويترجم حقيقتها هو شخص واحد يدير هذه العملية بكتمان، علينا أن نكتشف تلك الطبيعة بمقومات حركتها أن كانت فاعلة تتمكن من أنقاذ المؤلف وأن كانت غير مقنعة حولت الخطاب بأجمعه إلى بهتان وتزوير وضعضعت نظم الروي ، فجمرات التدوين شأنها شأن الروايات التي كتبت بتصور ذهني مسبق أي أنها ولدت من مخاض قراءات سابقة عليها ، وهي باعتقادي لا ينطبق عليها مفهوم عبدالله الغذامي بأنها رواية من إنتاج ذاتها ، أي أنها تسعى على ضوء القراءات السابقة أن تدخل منافسا للروايات المشكلة عن المتصور الذهني لسبب بسيط جدا ، كل التجارب العالمية تحمل هذا التصور وانفردت خصوصيتها في التعبير عن ذاتها ، ولا نجد حرجا في هذا النوع من الكتابة لأنه سوف يتضمن زمن النص ولا يتجاوز روحية المكان ، وهذا ما جعل – جمرات التدوين – تتمتع بهذه الخصوصية ، لاعتماد ثيمتها الكلية ، من عتبة النص إلى الشخصيات وحتى موضوعها الأساس مرتبط بنوازع شخصية ذاتية بغض النظر أن كانت تدار برغبة المؤلف أو المؤلف الضمني ـ ثمة موجهات خارجية لامناص من تأثيرها في مجرى الحدث – بمعنى أن صورة الطين وحجم المعاناة وتأثيرها هي الإطار الكلي لإستراتيجية الكتابة ، فأننا نرى في شخصيتي كريم وحسن اللذان يعملان في معمل طابوق وهما ينصهران في الزمن الماضي فلاش باك حيث الحرب وآلام الأسر والترقب والخوف من الموت المؤجل ، فلا نرى فيهما غير ذات مسحوقة ومنهكة تعيد دورة مأساتها ولم تنتهي ، مشقة وتعب وإرهاق وتعسف واضطهاد ، فلا نجاة من الحرب وإن انتهت ، وهو ما أراد تحقيقه النص ، فالمعروف عن حوض الطين يحتاج إلى شخصين ماهرين ينزلان في داخله عاريي الأقدام ويتحركان عكس دوران الحوض حتى لا يجف اللبن ، هما بكل تأكيد حسن وكريم لما يتمتعان بخبرة في هذه الحركة وأثناء ما يبدأن العمل الشاق والمضني داخل الطين اللازب يسرد كل منهما حكايته للآخر ، فهنا الزمن أخذ منحى أخر وليس هو زمن الحوض ، أمتص الحاضر بكل شوائبه وأنفتح على آكام الماضي ، هروب شائك من واقع مزري إلى الذاكرة المسلوبة ، وفي كلتا الحالتين تجد القتامة والسوداوية هي من يحدد طبيعة مصائر الشخصية ، فزمن الحرب يمكن أن يكون امتدادا لزمن الطين فلا غرابة أن لا تغيب صور الذاكرة عن الحاضر مازال هذا الحاضر ملوثاً بعاهات الماضي، وبهذا التشابك بين الأزمنة يتخذ التكنيك تقنية فنية يتجاوز من خلالها ذلك التداخل بأسلوب ” التداعي الحر ” ومن هنا نكتشف أن الراوي الضمني الذي يعيد تسلسل الأحداث يجذبنا بالنقاش حوله وليس بأبعاد وخطط المؤلف ، فإذا كان المؤلف هو من يعبر عن مأساة – جمرات التدوين – كخطاب كلي للحكاية فأنه يشكك ويضلل بدور الراوي الضمني .
أن آليات الراوي مخترقة في النص أصلا ، هذا (ألاختراق) عبارة عن تداخل أو اشتباك بين أزمنة الروي ولا يمكن تحديده بموضوعة قارة من دون الرجوع إلى معارف تحيلها إلينا مقولات الشخصيات فهنا علينا أن نقف عند هذا اللون من الإدعاء ونقر صراحة أن المؤلف كان متواريا وغائبا .
الأحداث تحولت إلى سجل يخضع لصالح الشخصيات ، اثنان أحياء هما كما ذكرنا كريم وحسن واثنان أموات قتل احدهما الآخر بالرصاص هما رياض والأشهب الرصين والنص يروى الوقائع على لسان حسن وكريم ، وبهذا تمحورت الأحداث حول الشخصيات وتركتهم يخوضون في ذواتهم ويكتبوها كوثيقة من الرقيم أو كرسالة فُخِرت حروفها بالجمر كي تتصلب ولا تمحى ، أن مفهوم الكتاب في غاية التأليف ، الصمود ، ومقاومة زمن الكتابة واستدراجه إلى زمن القراءة أي يتعدى فعل الآنية والمرحلية وتحريرها من عقدة التبادل والتماثل المنسوخة بين النص و الواقع .
شخصيات بلا يقين :
النصوص لا تعطي ما تريد بقدر ما تأخذ منك ما تريد ، معادلة لا يمكن استيعابها بسهولة ، فهي لم تعد ذات طبيعة لفظية لنقل الرسالة فلقد أصبحت ظاهرة سيميائية تستند للعلامة المتمظهرة في فعل المتواصل – الألفاظ المشكلة للغة – إذ أن الألفاظ في التركيب ينشأ عنها علاقات تتميز بقابليتها للتحول الدلالي وهنا يأتي الاهتمام بالجملة التي لها القدرة على تغذية التحليل وتتمتع بنظرة كونية بوصفها ذات حمولة معرفية ترتبط بما يسميه شارلز موريس بخصائص الأشياء التي تعبر عن الأفكار المضمرة ضمن السياق ، هذه الأفكار ليس بالضرورة أن تجدها واضحة ومكشوفة ، فعل القراءة أحيانا يتجاوز طبيعتها النسقية المحافظة على نظامها التقليدي ، بالخوض مع المعنى والمعنى كما يقول دي سوسير لايوجد إلا بالاختلاف وهو المبدأ الذي اعتنت به الدلالية وأخذت منه الكثير في تطوير الدراسات البنيوية كما هو الحال مع غريماس عندما راجع أعمال بروب في الحكاية أو ما اسماه بالمنهج البروبي القائم على الثنائية الدلالية فأن غريماس شدد على نقطة أساسية وهي تشبه المثل الصيني المعروف ” لا تعطيني السمك وعلمني اصطياده ” إن النصوص لا يمكن فهمها من دون الرجوع إلى السياق الذي نشأت فيه ودراسته بشكل ميداني وأما المفاهيم فهي تجربة في الوصول إلى المعارف التي تساعدنا في الكشف عن تلك المزايا .
في نصوص محمد لا أثر للنسقية فيها ، الأفعال لديه تتماهى على السطوح وتتظاهر بإيحاءاتها ، هذا التظاهر يحمل خلطة من البؤر التي يستند عليها الروي منها الأسطوري والخرافي والغيبي والافتراضي فضلا عن تشكلات أبنية معرفية وثقافية تغلف هذه البؤر لغرض استنطاقها ومحاكاتها ، وبهذا يتحول الخطاب السردي إلى جهاز مفاهيمي كما يقول فوكو : عابر للزمن لايستهلك بالآنية والحالات الطارئة ويصبح كل شيء في النص وسيلة للتفكير والتعرية أي أن له قابلية مرنة للتأويل من جهة والغوص في الأنساق المضمرة من جهة أخرى أو ما يسمى بالمسكوت عنه .
فأغلب الشخصيات في أعمال محمد الروائية ولدت من ثيمة الحرب والحصار المدمر ثم أعقبها الغزو الأمريكي الذي نسف فيها أخلاقيات الحرب بالجهل والهمجية والطيش والتلذذ بصور البشاعة ، فإذن هذه الشخصيات جاءت رافضة وحجاجية أحيانا وتهكمية آحايين أخرى ، وهي تمثيل للكوميديا السوداء ( جنون ، عنصرية ، شوفينية ، إرهاب ) هيمنة الأكراهات وإفراط سطوتها بحد ذاته يشكل خطاب ذهني ومرجع حقيقي للذاكرة ، ففي نصوصه البرقيل وكتاب الهامش ومدونة ألواح الرؤيا ولوسيفر لم يجر التبادل بينها وبين الواقع على قاعدة الفعل ورد الفعل وإنما تحولت إلى حاضنة للمهمش والمقموع والمستلب والمعزول ، أسير الغربة النفسية وانتهاكات تأثيرها وجسامة مفعول ذلك على واقع الشخصية في النص إذ نجد المعادلة متناقضة ، هي ترينا المشهد من خارج النص وليس من داخله، يعني النص يسبح في فضاء من الشكوك تتقاسمه اللايقينات المتذبذبة ، عالم ضاج بالأكاذيب والتزييف اللامعقول ، لا حقيقة فيه دالة على الصواب ، المكر ومكائده يتلبس شيطان الواقع ويتغلغل بأقنعة مختلفة مفاصل الحيوات ، فهو تيعو ، خينو ، تيمو ، أومو ، طائر الزو ( كتاب الهامش ) خمط ، تبال ، أريش – كيكال ، نركال ، موكيل ، لابارتو ، الجالا ، ليلو ، لا باستو ، اكيخازو ، ( البرقيل ) لو سفير ، ديوس أوسيوس ويهوة ( لوسيفر ) حامل ضياء الرب ، وهي تسميات سومرية وأسطورية للشيطان استعارها المؤلف للتدليل على مراوغة الحقيقة وهي تمثل فعل وغاية وعلة كما يقول دريدا ، مفهوم ينطوي على قابلية النص على الانتقالات بين الواقع والخرافة والاسطورة والغيب وهو ما يمكن تعريفه بالتداعي الحر بين المعاني وتعددها والكشف عن المتعارضات وعدم تسويتها داخل النص لكي يمنح دوالا كشفية عن تلك المعاني وإن كانت غير حقيقة ولكنها تبقى مفتاحا للوصول للغاية وليس حسم مفعولها وهكذا تبقى عجرفة المسميات التالية : اليطغانات والصهريج ، الوحوش الضارية ، رؤوس مدببة ، كائنات بشرية في هرج ومرج ، رؤوس القرابين المذبوحة ، طاغية وقاهرة بما تعكسه من تهيؤات وتصورات حذرة ومتوجسة ، فالشخوص ترزح تحت وطأت هذا العالم المسكون بفزاعة مرعبة يستولي عليها الخوف المبطن من مجهول قاتم آتي لا محال ، فهي واقعة في صراع دائم يهدد كينونتها ووجودها ، مأزق بين فعل الرغبة في البقاء وإغواء الوجود أو يعيش حالة ( الفصام ) كما يسميه أيكو أي لا تميز في حالة الاضطراب ( عواطف ، سلوك ، تفكير ) قيمة فاضلة ، فهذه النماذج لا تأخذنا للجدية كما يقول نيتشة وإنما ترينا حجم أفعالها كيف تتحقق في واقع مستلب ومجرد من حريته .
البنية الحجاجية :
أكسبته القراءات الحديثة متعة خالصة في تحليل النص ، وأخذ ينشغل بنظام الرموز والعلامات والاقتباسات ويحسب أن لها علاقة وثيقة بشؤون الكاتب ، لا تعزله كما تدعي مقولة البنويين ” فمجرد ما ينتهي النص يصبح ملكا لغيره يفسره انطلاقا من بنيته الداخلية ” رغم اعترافها بتعدد القراءات وتباينها واختلافها ، بينما المنطق الجديد لا يعني في نظره أن يدرس بشكل مستقل ولا يمكن فهم العلاقات بعد تفكيك بنيتها من دون ربطها بالتاريخ و المجتمع ونفسية الذات المنتجة وإن هذا يعد خروجا عن تقاليد البنيوية التي تعزل النص تماما عن المؤلف وتهتم بشؤون النص عما هو خارجه ، منتبها في هذا الطرح للخلاف بين ما كتبه مؤسس مدرسة جنيف دي سوسير في مفهوم النسق الذي لا يمكن معرفته من دون وجود دال ومدلول وألغي الفكرة القائلة التحكم الخارج في الداخل ( النص ) وبين اختلاف الشكلانية والظاهراتية التي لا تستبعد التاريخ والذات والمجتمع واهم ما أثير في هذا الجانب أطروحات بارت ودريدا فبارت في موت المؤلف يزعم بأنه لا يشكل أكثر من ناسخ والنص هو الكينونة .
وكلمة نص تعني النسيج وهذا النسيج يكمن خلفه المعنى الذي يولده المتلقي وبهذا يصبح النص عند بارت متحررا من قيود المؤلف إلى فضاء التلقي وافق تعدد المعاني بينما دريدا مشتت أصنام المركز محررا الهامش من قيوده ، نجده في صيدلية أفلاطون ت كاظم جهاد يكشف تصوره بفلسفة الكتابة عن ذلك الأب / الملك / الآلهة الخائف المرعوب وهو أبو الكلام وأبو اللوغس يمثل أصل القيمة أي لا تكون قيمة للكتابة إلا بقدر ما يأخذ بها الملك حسب رأي سقراط وابن ضائع عجزه عجز يتيم وبالقدر ذاته عجز قاتل أبيه ، فالكتابة في هذه الصيدلية هو عيادة للكتاب والكتاب لكي يشخص فيها ( الداء والدواء والعلاج ) فنجد أن الفارماكون / الكتابة عند انتقالها إلى جسد المكتوب لا تريد أن تكون أبنا لأحد وإنما يحيلنا إلى (أثر ) وعليها أن تتجرد من أي أبوية تلاحقها وتكتب ذاتها فقط ، وهو ما أسماه بقالب الدمغة ، يخرج من أصله الأفلاطوني المرتبط بقناعة الملك / الأب / الإله عبر حوارية المخترع للعقار / الكتابة نصف الإلهة تووت مع الآلهة الملك تاموس الذي لا يخفي أمتعاضة من الكتابة بوصفها ضد النسيان ويخشاها ، لتأخذ عند دريدا مسألة الاختلاف والمغايرة في تشكيك الأصل ، أي أنه يقيم التناظر والتعادل بين النص الأفلاطوني الذي يمثل طغيان الأب بوصفه أبو اللوغس وانصياع الابن وتمثله لرغبة أبيه في تحقيق مطامحه ومقاصده ، فأن هذه العلاقة لا تفصح عن معناها الحقيقي في الكتابة تبقى مشوبة ، ولابد من إدانة هذه العلاقة ، فإذا كانت الكتابة فارماكون سما وعلاجا كما دار بين نصف الإله تووت والملك الإله تاموس فأن دريدا يقترح أن تكون الكتابة أصلا بلا أب وان يبقى الحضور لها حضور شبحي وطيفي ينبثق من باطن النص كوثيقة أو دمغة هو ذات الأب الغائبة .
هذا التصور الفلسفي للكتابة تبناه محمد كأثر غائب يبحث فيه المتلقي للعثور عليه ، كما أشار إلى ذلك في كتابه – طيف المنطقة المقدسة / حفريات نقد ما بعد الحداثة – وتوسع في حيثياته في كتابه الثاني – توقيع الأثر / استحضار طيف المنطقة المقدسة – إذ تتحول الكتابة عند محمد إلى وشم صامت في الظاهر مدسوس ومراوغ وماكر في الخفاء ويمكن أن يكون جزءً من عملية هدم ونقيض بالنسبة للقارئ لكي يتجنب سم الكتابة ، في إشارة لهذا الكتاب قلت في العدد الأول من مجلة الرقيم 2013 مثلما لم تتبرأ الأسئلة المؤسسة لطبيعة الخوض في صراع المجاهيل وبعدياتها في عالم الكتابة كذلك ينقل الكتاب الحاوي لمضامين هذا الطيف شكل هذه الأسئلة عبر منافذ تواجدها في النصوص السابقة تلك النصوص التي تروي قيمة حضور المعرفة إزاء ما بلغت إليه الكتابة فلا يمكن الإفلات من أسرار ما يكتب في الحواشي (الهوامش ) إنها من دون شك تدخلنا في فضاء الصنعة ، ذلك الفضاء الذي يتسع إلى قابلية إظهار المكنون القابع في قيعان لا تستدل عليها إلا بمعناها ولا يمكن ان تظهر إلا بمنسوب لا يخلو من إدراك كنهه انها نصوص تروي فعلها الإيهامي والاستيهامي .
التجربة والتخيل :
ومن هذا افهم تركيبة النصوص فهي غير مستقرة ودائمة التشكيك فلو أخذنا شخصية شهاب النحات في نص- البرقيل – كمثال ( الفوضى منتشرة في جميع الزوايا ، قطع أحجار صغيرة ، بقايا زجاج ، أواني فخارية مهشمة ، خلطات أصباغ جاهزة لطلاء السيراميك مبعثرة ، قطع فنية لم تكتمل ، قطع أواني بلاستك تيبس في قعرها كتل من معجون الألوان ) هذه الإشارة الموصوفة تبدو للمرء عادية وممكن أن تحصل في مشغل أي فنان مطيع لعبثية المكان ولا يهمه ترتيب الأشياء وتنظيمها فكل ما آلت إليه حيثيات هذه المتنافرات لا تنم على الاستقرار والهدوء والسكينة ولا يمكن أن يكون في منأى عن السؤال والحيرة التي يسكن فيهما هذا الكائن ، وفي رواية “كتاب الهامش” أول ما تواجهك عبارة تنم عن اثر الكتابة ودورها في الخلود ..كيف للعبارة أن تنسخ ذاتها في رمال النص وإذا ماكان نص العبارة يبدأ من ذاكرة مثقوبة كيف يمكن للهامش أن يعلن عن نفسه في تفاصيل المعنى ، فهذا الهامش المقموع والمعزول تكمن فيه براهين التاريخ المزيف ، الهامش لسان يباري الحادث بما يؤرخ ، فالهامش يكتب ويروي ويعلن عن تذمره وسخطه ” هامش أعترض المتن وخرج من منتصف الصفحة ودوّن ما يأتي : (جاوز ، يتجاوز ، متجاوزون .. وتجاوز الحدود هو نوع من التعصب المعرفي في الكشف عن مدلول متعالٍ ، ذلك الذي دافع عنه توماس الأكويني ، أو الذي دافع عنه هتلر )” إذن لا فرق بينهما ، أينما تذهب تجد المدلول نفسه ، ثابتا لا يتزحزح في متنه ، لكن الهامش يعلن تمرده ، مخترقاً الأفق .. كاشفاً عن مشهد أكثر إقتراباً من الأفق أو الوفق ، كيف تصير الأوفاق طلاسم تخبئ في داخلها شفراتها الغامضة ..؟ مَنْ يفتح إذن الطلسم والهشيم مبعثراً في الطرقات ..؟ وفي رواية “مدونة ألواح الرؤيا “يركز النص على اهمية الوثيقة فالصهريج هو الفضاء الكوني للمدونة وبعدها الافتراضي الذي تنبثق منه أحداث واقعة الصهريج هذه الواقعة بالأصل هي مخطوطة لصوفي من المدينة اسمه صفي الدين اشير له في النص بأنه رحالة وولي جليل (سبحانه الواحد الأحد القادر على فتح القبور وباعث الأرواح نعم ايها السادة الكرام عند أول ممر وفي منطقة دهليز الحمالين شوهد شيخنا الهمام ابراهيم اليعقوبي …وكان هذا في اليوم التاسع من الشهر الصهريجي الثالث ) وقد قلت في تظهير الكتاب إن أهم ما تجلت به أحداث هذه الرواية تخطت الحقيقة وزعزعت منطق الواقع المزيف ، الواقع الذي لا يحتمل أن نراه أكثر من بهتان لا يقين فيه .
وهكذا يتسرب النص لدى محمد بتمثلاته من التجربة الذاتية المشحونة بالرفض والتذمر والانفعال إلى أفق يحايث الافتراض ويتشكل على غراره ومن نسيجه مقولات لها القدرة على أن تعيد الاعتبار للزمن الغائب كشاهد على حقيقة شابها التزوير والتحريف والتصحيف .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *