حنون مجيد: قيادة الأعمى،طواف في ما يشبه الحلم

“الى روح صديقي الأغلى احنون مجيدلراحل الجميل حسني الناشئ”

لا أعرف كيف قادني حلمي هذا ، الى هذا الرجل الأعمى الذي عرفت فيما بعد، إنه صديقي الذي مات منذ سنين لأقوده الى الأرض ،وهو على مبعدة اربعة أو خمسة طوابق عني .
البناء المرتفع الذي يشخص فوقه أشبه بهيكل قائم في العراء ، يجوب بين جنباته الفراغ ، وهو وحيد يتلمس بحذر شائك مواضع قدميه على طريق جانبي ضيّق يحفّ، كالطوق ، بالبناية من خارجها ولا سبيل له الى غيره لكي يهبط الأرض .
هو في الأعلى وأنا في الاسفل ، أنظر اليه بتوتر مشوب بقلق شديد وأناديه موجهاً إياه الى حيث ينبغي له أن يتحرك إلى الأمام ، أو ينعطف باتجاه اليمين او الشمال.
في نقطة كاد يهوي منها وهو في سبيله المتعثر الى الارض ، هتفت به عالياً ؛ قف، فتوقف كالحجر . لكنه حين استدار نحوي ، أو الى النقطة التي انطلق منها الصوت ، صوتي ، أرهف سمعه مجدداً أو أعلن عن ذلك ليسمع من جديد نصائح جاءته ، لا يدري مَن هتف بها اليه من الا رض . قلت امامك حجر ، عليك أن تتفاداه ، فإن ملت الى اليمين وثمة لا سور يحميك أو يمنعك هويت ، وإن ملت بكامل ثقلك الى اليسار حيث الجدار الذي يحاذيك فقد يحصل العكس إذ ربما تضطرب على رد فعل غير محسوب وتهوي كذلك ، إ رفع قدمك اليسرى عالياً وبصورة مناسبة ، رفعت صوتي ثانية ثم علقت ، ولا تتحرك حتى تتثبت من موقعها ، وتشبث ما أمكنك بالجدار ، عندئذ حرك اليمنى .. الحجر الذي امامك عال بعض الشيء ، ووضعه في هذا الطريق عبث غير طريف . حرك جسدك بتؤده ولا تمل نحو اليمين .. إياك وناحية اليمين ، كذلك لا تبالغ بالميلان نحو اليسار .. إنك في المركز الاّن ، وكن يقظاً في كل خطوة تخطوها .
بالرغم من تحذيراتي ، لم يقدّر إرتفاع الحجر فأصطدمت قدمه اليسرى به ومال الى اليمين ، بيد انه تدارك ذلك سريعاً وسحب قدمه ثم رفعها بنسبة أعلى وحين تقدم خطوة كرر التجربة مع القدم الأخرى .
خطا قليلاً يقيّد الحذر والخوف قدميه .. لم يكن قريباً لأعرف مقدار إنكسار نفسه أو سعادته حال وقف الحجر الثقيل أمامه واجتازه من بعد .
على اي حال أصبح جسده الآن راسخاً ؛ يده اليسرى تتشبث بالجدار واليمنى تطوح في الفضاء متناغمة مع حركة جسده الدائبة نحو الأرض.
تساءلت عن سر وجوده هناك ولماذا لم يختر السلم الداخلي الذي لا بد من وجوده في مكان ما ، ولو كنت قريباً منه ، أو أعرف موقع السلم ، فكرت ، لدللته عليه.
أعترض طريقه هذه المرة ثلاث فتيات صغيرات لا يكاد يبين منهن سوى اطياف اجسادهن يلعبن عاريات على هذا الطوق الحر الذي يلتف على جسد البناية لغرض غير معلوم .
الفتيات الصغيرات يلعبن جالسات على ارض الطوق غير عابئات برجل قادم نحوهن في سير وئيد . أهتف به ان ينتبه ، فأي عثرة بواحدة منهن تودي بحياته ، وهو يستمع اليّ ويؤشر بيده أن إني أسمع واتتبع الارشادات ، حين وقف وبدأ يتسمع الى لغو الفتيات وصخبههن وتابع سيره بعد ان صحت بهن أن تنحين عن طريق الرجل ، وكادت إحداهن تهوي حين ترنحت قليلا قبل أن تستيقظ على خطورة طيشها ، وكانت تلاحق دمية أو شيئاً من هذا القبيل ألقت به اليها صديقتها .
هتفت ثانياً ..مل نحو الشمال بذكاء ولا تحتك بالجدار .. سر على مهلك ؛ فالفتيات العاريات اختفيّن .. وفعلاً اختفت الفتيات بل لم يعد لهن من أثر في القصر .
نقلت نظري لحظة في الأرجاء الواسعة والمترامية للقصر .. الفيت جماعات منفردة من الناس يجوبون المكان ويتوغلون في الغرف والدهاليز والمجازات الكثيرة بحثاً عن اشياء أجهلها ، وفي الحقيقة فقد كانوا يروحون ويجيئون من دون أن تتحدد غاياتهم لرجل له وضع مثل وضعي ، بل لعّل الغريب في الامر ؛ أنّ القصر هذا ، الواقع في مكان ليس بالبعيد عني وليس بالممنوع عليّ ، وما كنت احسّ بهذا ايضاً ، كان ابعد الاماكن عن مراودة نفسي .. لم يلفت نظري الخراب الواقع عليه ، ولا هذه الجماعات التي تجول فيه ، إنما كل ما شد نظري اليه هو وضع الرجل الغريب ، وكيف حلّ هناك دون سواه ، والطريقة التي عليّ ان اتبعها لأنقذه من هاوية ، هو لو تركته ، مشرف عليها .
إن رجلاً أعمى هو امانة بيد الرجل المبصر ، هكذا ارى ولذلك فأن دوري هنا سيكون جميلاً لو هبطت به الأرض بسلام ، فعساه ان يشكرني شكراً أجمل ،ويهنئني على امانتي وحسن سريرتي تجاه الناس ، وهي الفضيلة الوحيدة التي ظلت ملازمة إياي منذ طفولتي البعيدة منذ ما يقرب الستين عاماً ، اذا حددنا الطفولة بمرحلة وعيها الفضائل والأخلاق ، بل ربما سأمسك بيده واعبر به الشارع الى تلك الكازينو القائمة وسط مرج تضرب عليها الشمس من جوانبها فتحيلها الى قطعة فضة تعوم في اخضرار عارم ربما سأسمع منه حديثاً جميلاً ، شكوى ما اعترافاً بحب مضى ، كشفاً لحالة عماه ، ثم سر طريقه الى أعلى القصر وعودته منه . ولكي أكون دقيقاً فأنا أحب الحديث مع مثل هؤلاء ، وتعجبني قدراتهم العجيبة على حفظ الاصوات ومعرفة أشخاصها ، وكم كنت حريصاً على أن يكون لي أصدقاء كثر منهم . وغالباً ما كنت افكر أن هذا يشكل امتيازاً من امتيازات الرفقة الخالصة وبراءة النفس فضلاً على ما يؤكده من نكران ذات تقوم على تقديم العون وغير ذلك من اغراءات أخر تلون صورتك في بصائر هؤلاء .
إحذر .. توخ الدقة في الحركة ، وانعطف انعطافة مرنة فالقصر دائري الشكل وإياك أن تنسى ذلك ، إنك تهبط بصورة سليمة ، سليمة جداً ، ومع ذلك فأني أشعر ان الهبوط لمن في مثل حالك ، لهو أصعب من الصعود ، فقد يأخذ بك ثقل جسدك المنحدر الى ميلان مخطر ، ينبغي عليك ان تنتبه دائماً اليه .. هل تراك تسمعني جيداً .. توقف الآن ولا تمضٍ قدماً فأمامك عثرة جديدة .. إعطِ جسدك ناحية الشمال بصورة متوازنة وقدّم قدمك اليسرى كما فعلت في المرة السابقة ، وإياك والخطأ فالحافة قريبة منك هنا ، عندئذ حينما تستقر ارفع قدمك اليمنى .. نعم .. هكذا. انت الآن في وضع سليم ليس لك مثله أي وضع من قبل .. حسناً فعلت .. أوه .. إنّ على الانسان ألاّ يطمئن كثيراً ما دام هو على قيد الحياة ..
مفارقة ، اليس كذلك ؟. لو تسمعني جيداً لضحكت أو لقلت شيئاً طريفاً ، فأنا أعرف أنّ أمثالك ينطوون على اشياء مثيرة ،ليس أقلها حذلقة اللسان وصراحة الجنان والتحرر من المحذور في بعض المزاح الخفيف .. نعم ، تستطيع أن تجلس الآن .. أن تولي ظهرك الجدار وتأخذ أنفاساً عميقة وتجعل من هذه العثرة التي هي عبارة عن دكة كونكريتية بين ساقيك اذ تمدهما فلا تأخذك هذه الريح .. انت تدرك أكثر مني وانت في علاك ، شدة الريح التي بدأت تهب الآن ، والانسان فوق أخفّ منه تحت .. انت تعرف .. وكل شيء في الحياة كما يبدو يخضع لجاذبية ما ، وهو منطق مطلق ، وان لا تحدده معادلة واحدة ، وبصورة ما فإن الانسان المعلق في الاعلى أجمل منه في الأسفل ، ولا أقول أرفع ، ويثير المتعة والخيال ، وإنك لو أفردت ذراعيك وخلفك السماء المبهجة لكنت نسراً مجيداً ، وإنني ان كنت اراك كذلك ، فقد تراني من قمتك، لو فتح الله عليك بنعمة البصر ، اصغر من طفل يدبّ على الأرض .
أراك نهضت .. إذاً أيّ مقدام أنت لتواجه العاصفة ؟ سر .. ليس عليك الاّ ان تقتحم مصيرك بشجاعتك ، وإلاّ فمن يضمن هدوء العاصفة ، ومَن يعاهد مَن على استتباب الانواء ؟ ولو كنت معك أنا الذي أقودك لربما كنت ، وأنا ارى عمق الهاوية ، أضعف منك او لسقطت .
رفع يده ، ولوح بها تحية لي ، يده اليمنى التي بدت لعيني مثل جنح طائر علق بشبكة صياد.
الريح قوية ، تضرب جسده وتحاول أن تنتزع عنه ملابسه لكنه يتقدم ، وها هو يتجاوز الطابق الأعلى في التفاف مستمر ، وأنا أحاكيه في الالتفاف مثله ، حركة بحركة منقلاً نظري معه ومعي ، للأعلى تارة وللأسفل اخرى حريصاً على ان لا أغفل عنه .
وبالرغم من العوائق الكثيرة التي وجدتها في طريقي مثل كتل أحجار ضخمة تساقطت من اعالي طوابق القصروتناثرت على الطريق الملتفة حوله ، وأسلاك شائكة مرمية كتلاً هنا وممتدة على هيئة موانع هناك ، فلقد واصلت الزحف معه في حمية بالغة ، مقدّراً صعوبة طريقه التي هي غير صعوبة طريقي . لقد ارتهنت الى هذا الرجل إرتهاناً مصيرياً ، وكنت افكر ؛ هذا الرجل الذي هو كالسائر على حبل كلاهما على زلل بسيط معرّض للموت ، ماذا أفعل لو سقط ؛ لو زلت به قدم وهوى ، هل استطيع أن أتلقفه كما تتلقف الكرة ، هل يمكنني ان أحميه بوسيلة ما ؟
عند بداية الطابق التالي صار صوتي جلياً لا يحتاج الى جهد كبير ليسمعه ، عندما خاطبته ؛ ها أنك بدأت تميل في سيرك ، هل المّ بك شيء ما ؟
توقف ، وبدا عليه أنه جعل يستمع ملياً لأصداء صوتي ، كما لو أنه يسمعه أول مرة . أعطى وجهه ناحيتي غير مبال بالخطر المحدق به .. صحت عالياً ؛ إنتبه ،إنك تكاد تطير، عد الى الوراء وليكن ظهرك الى الجدار واسمع ؛ ها أنت دخلت مرحلة جديدة قطعت فيها طابقاً كاملاً في دوران كنت معك فيه ، فلا تغامر ، تعلق بموقعك واذا شعرت بالراحة وصفاء الرأس استمر .. قال ؛ إنني اسمع صوتك جيداً الآن ، قلت ؛ مالذي جاء بك الى هذا المكان ؟ قال ؛ أتسألني وأنت المبصر ؟ قلت ؛ حسن .. لك ما تريد أن تقول ، ولكن أمرك غريب .
قال أي غرابة في الامر ، قلت ؛ ان تكون وحدك هنا ، فوق هذا القصر وفي مثل هذه الايام ، قال ، جئت أطوف . تطوف حول ماذا سألت ، ردّ ؛ أطوف حول حلمك ، بل لعلي جئت أطوف فيه ، لذا سأغير موازين الاحلام ، وأمنح حلمك طاقة على تفاصيل أكثر ، إنّ صوتك قريب مني بل يثيرني . قلت ؛ تقدم قليلاً ، لكي أتبين وجهك .. ملامحك هي الاخرى قريبة مني ولكنها مختلطة بظلال لا تشف عنها سريعاً ، إمهلني لحظات وسأعرفك // وأنا كذلك . لك صوت غنائي رخيم هل جربت الغناء من قبل ؟ // لصديق لي له هيئتك نفسها صوت جميل كان يغنيني به ليل نهار ، وكنت اطرب له ويشيع السعادة في نفسي فعساه أن يكون انت ، أو فعساك ان تكون هو ، لا فرق .// وعسى ان تكون هو صديقي ذاك الذي كان يردد الاغاني معي ويحب صوتي بجنون فأتمادى في الغناء له ، له وحده في الشوارع والساحات والأزقة ، صديقي ذاك صديق جميل وأنا احبه حباً عظيماً // وأنا كذلك ، ولو تعرف كيف نشأت صداقتنا وكيف تكوّنت وما هي عليه ملامحها الفريدة والنادرة ، ولو أضحت السمع جيداً لأخبرتك شيئاً عن قصة وفائه لي // تكلم قل شيئا ممتعاً فأنا الآن في استراحة . . تكلم ولا يغب عن ذهنك إنني حر .. حر تماماً// إذاً استمع .. كنا احببنا فتاة هي الاجمل بين فتيات الزقاق .. لقد أغرمنا بها غراماً فاتكاً ، إسمها سميرة ثم إذا كاد أحدنا يموت قبل الآخر ، وكنا شاهدنا فيلماً هندياً اسمه ((سنكـام )) ظهر في فترة بعيدة تحاكي قصته قصة حبنا ، أقسم على التخلي عنها وانقطع عن العلاقة بها وتركها لي .
وأذكر أننا حين خرجنا ذاهلين من الفيلم ذاك ، فقصة مثل قصته لا تصدق ولا تحتمل ، صادفنا صديقاً له مثقفاً إسمه إن تذكرت يوسف حسن أو يوسف حسين ، فأذا سألناه عن غرابة موضوع الفيلم ، قال لا تعجبا فالامم الكبيرة تزخر بمثل هذه المعطيات ، والهند أمة عظيمة .. ان يتخلى صديق لصديقه عن حبيبة مشتركة لأمر يسير .
رفع يديه عالياً .. كاد يحلق في الفضاء ، قال . شيء غريب لعن الله العمى الذي جاءني آخر ايامي ، فهذه قصتنا ، انا حسني الناشيء وصديق أثير على نفسي لعله انت ، كان يدعى بإسمين يعرفه ناس بهذا ويعرفه آخرون بذاك . قلت وقد تاقت روحي للقياه ، اذاً سانتظرك حتى تهبط ، وسأقودك الى تلك الكازينو التي لا يعرف المرء فيها مللاً ما، هناك سوف يستمع كل منا للآخر ويصغي إليه ، اذ سيقص عليه أبلغ قصصه ..
ورددت ثانية ، إن كان ذلك يسرك فلسوف أنتظرك ، وإلاّ فأنت الآن في مأمن ،فلقد هدأت الريح وبدأت تعرف كيف تخطو وكيف تلتفّ ، متى تسير ومتى تتوقف ولربما ان هبطت تفتحت عيناك // حسن انتظر ولا تبرح مكانك .
قال ذلك وجعل يسير هادئاً مطمئناً ، ثم أردف ؛ لو تعرف كم بي من اللهفة لأجلس في كازينو واستمع الى حديث صديق .. لقد غاب عني الأصدقاء للأسف ، ولم تعد لي من علاقة بشيء إسمه أخ أو صديق ، حتى هذا الذي أظنه أنت نسيته هناك وأظنه نسيني هو الآخر ، فكل مشغول بعالمه الخاص ، عدا ما يتعلق ببعض القضايا التي يمكن ان نطلق عليها بالعظيمة التي تدعو الميت لأن يحضر ويجوس في حلم صديقه الحي الذي هو حلمه ، في الوقت عينه ، وهذا ما يحصل الآن بيني وبينك ، الأمر الذي يؤكد أنك أنت صديقي الجميل ذاك صاحب ألاسمين اللذين يجمعان بين كنايتي الحمد والحنان وكانت لي معه حياة حافلة بالمعنى .. الآن يحق لي أن أسرع اليك .
هتفت به بأقصى ما استطيع إطلاقه من صوت ، حذار، حذاريا صديقي حذار .. الآن تمّ لي الكشف ؛ فأنت صديقي الميت حسني الناشيء الذي ما أزال احتفظ بحذائه الاسود الجديد الذي أهدتني إياه زوجك الوفية بعد ان مت . أنا صديقك ، صديقك الخؤون الذي يقودك اللحظة سالماً الى الارض ،بعد أن ترك لك الحبل على الغارب لتموت في السماء .

بغداد 2006

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *