طلال حسن : عصافير من مخيمات نينوى (قصص للأطفال) (3)

في مخيم الزاب

ذهبت إلى مخيم الزاب ، أريد أن أجري تحقيقاً صحفياً عن أهالي أطفال هذا المخيم ، الذين أخذهم داعش ، أو أختطفوا بطريقة من الطرق .
درست الصحافة والإعلام في الجامعة ، وقرأت الكثير عن صحفيين أعلام ، داخل العراق والوطن العربي ، وكذلك في الخارج .
وقرأت وشاهدت في السينما والتلفزيون ، ما يعانيه الصحفيون والإعلاميون من صعوبات ، ومخاطر قد تعرض حياتهم نفسها للخطر .
وربما لهذا كنت مترددة وخائفة ، عندما دخلتُ مخيماً للاجئين من أهالي الموصل والقرى المحيطة بها ، وإذا نجحت ، ويجب أن أنجح ، فسأزور أحد مخيمات العزل ، التي تضم عوائل داعش وأطفالهم .
وفي المخيم ، التفّ الأطفال حولي ، بنين وبنات ، ومعهم بعض الفتيان والنسوة ، وكانوا يحدقون بأعينهم الغريبة في المصور ، الذي راح يلتقط صوراً لهم .
وهمست للمصور بصوت خافت : توقف قليلاً ، أريد أن أتحدث إلى الأطفال .
وهزّ المصور رأسه ، وأرخى يده بالكامرا ، فالتفت إلى الأطفال ، الذين كانوا حولي ، وقلتُ : أريد أن تحدثوني عن إخوتكم أو أخواتكم أو أقاربكم ، الذين أخذهم داعش ، عندما دخلوا إلى الموصل .
وساد الصمت بين الجميع ، وراح البعض يتبادلون النظر مع البعض الآخر ، وحدقت في فتاة شابة ، رثة الثياب ، كانت عيناها تدمعان ، وقلت لها : تفضلي ، يا عزيزتي ، إذا كان لديكِ ما تقولينه .
فقالت الفتاة الشابة بصوت دامع : أخذوا خطيبي ، كان في السابق يعمل في سلك الشرطة ، وظننت أنهم سيطلقون سراحه قريباً ، فهو بريء ، لكنهم لم يطلقوا سراحه ، ولم أره منذ ذلك الوقت .
وصاحت إمرة غاضبة ، كانت تقف خلفه : ولن تريه ، من يأخذه داعش لا يعود .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : أخذوا زوجي ، وله مني خمسة أطفال ، فذهبت إليهم ، أسأل عنه ، فأعطوني ورقة صعيرة ، وقالوا لي ، لا تعودي ثانية ، لقد أعدم زوجكِ ، وألقي في الخسفة .
ودفع بعض الأطفال ، طفلة في حوالي الخامسة ، حنطية اللون ، ذات عينين بنيتين ، وهم يقولون : هذه البنت ، قطعوا رأس أمها في باب الطوب .
وصاحت الطفلة ، وهي تضرب الأطفال بيديها الغاضبتين : كلا ، أنتم تكذبون ..
واقتربت المرأة مني ، وهمست لي بصوت خافت : أمها رشحت إلى مجلس المحافظة ، فأخذوها من البيت ، وقطعوا رأسها أمام الناس .
وانفلتت الطفلة ، ومضت مبتعدة ، وهي يبكي بحرقة ، فلحقت بها ، وأخذتها بين ذراعيّ ، وقلت لها بصوت متعاطف : تعالي ، يا عزيزتي ، لا تبكي .
ورفعت عينيها البنيتين ، الطافحتين بالدموع ، وقالت بصوت مختنق : إنهم يكذبون دائماً ، ويقولون .. قطعوا رأس ماما ، في باب الطوب .
ومددتُ يدي بمنديل ورقي ، ورحت أمسح دموعها عن خديها ، وقلت لها : لا عليكِ منهم ، إنهم .. إنهم مخطئون .. نعم إنهم مخطئون .
فقالت الطفلة ، وهي تشهق : أعرف أنهم يكذبون ، هل أصدقهم أم أصدق بابا ؟
وسكتت لحظة ، ثم قالت : بابا يقول ، إن ماما ذهبت إلى السماء ، وهي الآن في الجنة .

المدرسة

زارتهمْ ، في المخيم ، ذات يوم ، إحدى الناشطات ، وقدمت للأطفال بعض الحلوى ، فأخذوها ، وراحوا يلتهمونها مسرورين .
ولاحظت الناشطة الشابة ، طفلة في حدود السابعة ، تجلس متكومة على نفسها ، مقطبة حزينة ، في زاوية إحدى الخيام ، فلوحت لها بدمية صغيرة جميلة ، وقالت لها : تعالي ، يا حلوة ، وخذيها .
لم تتحرك الطفلة من مكانها ، ولم تبدي أي اهتمام ، لا بالدمية الجميلة ، ولا بالناشطة الشابة نفسها ، فنظرت الناشطة الشابة إلى أم الطفلة متسائلة ، فمالت عليها الأم ، وقالت بصوت خافت : إنها صامتة هكذا ، ولا تذهب إلى المدرسة ، منذ أن رأت الدواعش يأخذون أباها من بيتنا في الموصل .
واقتربت الناشطة الشابة من الطفلة ، وجلست القرفصاء أمامها ، وحدقت فيها ملياً ، ثم قالت بصوت هادىء : أنت بنت حلوة ، ما اسمكِ ؟
لم ترد الطفلة عليها ، بل لم ترفع رأسها ، وتنظر إليها ، فوضعت الناشطة الشابة الدمية في حضنها ، وقالت : خذيها ، إنها هدية لكِ .
وخرجت الناشطة الشابة من الخيمة ، وأشارت للأم أن تتبعها ، فتبعتها الأم إلى الخارج ، وقالت : أشكركِ على اهتمامكِ بطفلتي .
فقالت الناشطة الشابة : ابنتك ليست طبيعية ، خذيها إلى طبيبة المخيم ، وهي مختصة بالصحة النفسية للأطفال ، الذين مروا بتجارب قاسية .
ومضت الناشطة الشابة مبتعدة ، وهي تقول : لا تنسي ، خذيها غداً إلى الطبيبة .
في الغد ، أخذت الأم طفلتها إلى الطبيبة ، فاستقبلتها مرحبة ، وقالت لها : عرفت بحالة ابنتكِ من الناشطة ، تفضلي اجلسي .
وجلست الأم ، وطفلتها إلى جانبها ، وجلست الطبيبة قبالتهما ، وحدقت في الطفلة مبتسمة ، وقالت لها برقة : ما اسمكِ ، يا حلوة ؟
لم تجب الطفلة ، بل لم تنظر إلى الطبيبة ، فقالت الأم مترددة : اسمها صباح .
ومدت الطبيبة يدها ، وراحت تداعب برقة خدي الطفلة ، وهي تقول : صباح ، اسم جميل ، وسيكون أجمل إذا سمعته منكِ أنت ، يا حلوة .
ومرة أخرى ، لم تتكلم الطفلة ، فقالت الأم : إنها تعاني من كوابيس أحياناً ، أثناء النوم في الليل ، وترى الدواعش يطاردونها .
ونظرت الطبيبة إلى الطفلة ، وقالت : لا تخافي ، يا حلوتي ، أنتِ هنا في أمان ، ولن يستطيع أحد الاقتراب منكِ أو من أمكِ .
وتململت الطفلة ، ثم قالت بصوت متحشرج : أخذوا أبي ، ولم يعد حتى الآن .
ودمعت عينا الأم ، وإن بدا بعض الارتياح عليها ، فقالت الطبيبة : أبوك موجود ، وسيعود إليكِ قريباً ، وهو يريدكِ أن تذهبي إلى مدرسة المخيم .
في اليوم التالي ، استيقظت الطفلة بادية الارتياح ، وتناولت فطورها مع أمها ، ثم حملت حقيبتها ، ومضت مع صديقاتها إلى المدرسة .

فراشة في الجحيم

رغم أن خيمتيهما كانتا متجاورتين ، إلا أنهما كانتا لا تتزاوران ، بل إنهما كانتا متنافرتين ، ويبدو أن إحداهما لا تطيق الأخرى .
وطالما قالت الجدة الحاجة ، لزوجة ابنها حصة : يا ابنتي ، اذهبي وزوريها ، إنها غريبة في أرض غريبة ، ولم يعد لها أحد .
وكانت حصة تردّ قائلة : لا شأن لنا بها ، إنها أجنبية ، ولغتها مكسرة كطبعها ، وأنفها في السماء ، وهي تشعر بأنها أفضل منّا ، دعينا منها .
وتقول الجدة : زوجها في المعتقل .
وبانفعال ترد حصة : وزوجي أنا ، إبنك ، أين هو ؟
وتلوذ الجدة بالصمت ، ويتراءى لها ابنها الشاب ، بلحيته الكثة ، وملابسه الغريبة عليها ، والرشاشة في يده ، نعم ، أين هو الآن ؟ هذا ما لا تعرفه .
واليوم ، ومنذ الصباح الباكر ، سمعت الجدة الجارة الغريبة ، تتصايح في خيمتها ، فنظرت إلى حصة متسائلة ، قلقة ، فأشاحت حصة بوجهها ، وقالت : لا شأن لنا بهذه المجنونة ، همومنا تكفينا وتزيد .
وتحاملت الجدة على نفسها ، وذهبت بخطواواتها الثقيلة البطيئة إلى خيمة الغريبة ، وإذا طفلتها ، التي كانت في حوالي السادسة ، تجلس متكورة على نفسها ، في زاوية الخيمة ، وقد خيم الصمت والكآبة عليها .
واقتربت الجدة من المرأة الغريبة الشقراء ، وقالت لها بصوت هادىء : سمعت صوتك تصيحين ، يا ابنتي ، وظننت أن أحداً يضايقكِ .
ونظرت المرأة الغريبة ، إلى طفلتها بعينين تتقادحان غضباً ، وقالت : هذه البنت ستجنني ، أقول لها ، تعالي وتكلمي معي ، لكنها لا ترد .
واقتربت الجدة منها ، وقالت : يا ابنتي ، صغيرتك مريضة بعض الشيء ، فخذيها إلى مستوصف المخيم ، وسيعالجونها لكِ ، وستشفى .
وبشيء من الانفعال ، قالت المرأة الغريبة : كلا ، ابنتي ليست مريضة ، إنها فقط .. عاشت جحيم المعارك في الموصل ، والآن تعيش جحيم المخيم .
فقالت الجدة بلهجة صبورة : جاءت طبيبة نفسانية ، إلى المستوصف الآن ، فليهدكِ الله ، تعالي نذهب إليها ، ونعرض عليها ابنتك .
ولاذت المرأة الغريبة بالصمت ، فتشجعت الجدة ، وقالت : هيا الوقت مناسب الآن ، هيا نذهب إلى المستوصف ، فقد لا تبقى هذه الطبيبة حتى الغد .
وذهبت الجدة والمرأة الغريبة إلى مستوصف المخيم ، ومعهما ذهبت الطفلة على مضض ، وهي مقطبة حزينة ، وهناك فحصتها الطبيبة جيداً ، ثم نظرت إلى المرأة الغريبة ، وقالت لها : ابنتك مريضة .
وانتاب المرأة الغريبة انفعال غير متوقع ، وقالت متشنجة : كلا ، ابنتي ليست مريضة ، إنها مصدومة بسبب الأوضاع ، التي عاشتها، وستشفى .
فردت الطبيبة الشابة قائلة : ابنتك لن تشفى ، إذا لم تعالج ، من قبل طبيب اخصائي .
وصاحت المرأة الغريبة منفعلة : كلا .. كلا .. أنت لا تعرفين شيئاً في الطب .
لم تغضب الطبيبة الشابة ، بل قالت : أنتِ نفسكِ مريضة ، وتحتاجين إلى علاج نفسي .
ومدت المرأة الغريبة يدها منفعلة ، وأمسكت يد ابنتها ، وسحبتها إلى خارج الخيمة ، وهي تقول : هذا خطئي ، لقد خدعت ، وجئت إلى بلد همجيّ متخلف .
ولاذت الطبيبة الشابة بالصمت ، فقالت الجدة : سامحيها ، يا ابنتي ، فقد جاء بها زوجها وطفلتها من المانيا ، فأسر هو ، ومن يدري لعله قتل ، وجاءوا بها وبابنتها إلى هذا المخيم .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| احمد ابراهيم الدسوقي : قصة من أدب الخيال العلمى “عماليق جزيرة التاروت” .

ويليام وزوجته مواطنان أوربيان ثريان فى أواسط العمر ، يعيشان فى الربع الأخير من القرن …

| مها عادل العزي : وجبــــــة فطـــــور .

في ليالي قلقه الكثيرة كان يدير وجهه إلي الحائط فيخربش عليه بأظفاره الناعمة الصغيرة كان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *