
جرو جدي
قبل أن يأتوا بنا إلى المخيم ، خرج بابا من البيت ، رغم القصف الشديد ، وذهب إلى بيت جدي ، في الحي المجاور ، فقد سمعنا أن صاروخاً وقع على الحيّ في الليلة الماضية .
وسرعان ما عاد بابا ، ومعه هذا الجرو الجميل ، وهو جرو جدي ، الذي كان يحبه كثيراً ، ربما أكثر من حبه لي ، وطالما تمنيت أن أحصل عليه ، بموافقة جدي طبعاً ، وهذا ما لن يحصل .
وأخذت الجرو من أبي ، وضممته إلى صدري ، وقلتُ لأبي : أين جدي ، يا بابا ؟
ونظرت ماما إلى بابا دامعة العينين ، فردّ بابا قائلاً : جدكَ ظلّ في البيت .
وأخذت أداعب الجرو ، الذي كان يحاول الافلات من بين ذراعيّ ، وقلت لبابا : لكن ماما تقول ، إن الصاروخ ربما وقع على بيت جدي .
وارتجّ على ماما ، فقال بابا بصوت حزين : دعك من ماما ، إنها واهمة .
وخشيت أن لا يسمحوا للجرو بدخول المخيم ، فقد أخفيته بين أكوام الملابس ، التي أحضرناها معنا من البيت ، وحاولت فيما بعد ، أن لا يعرف أحد من أطفال المخيم الكثيرون جداً ، بوجود الجرو في خيمتنا ، فقد خفت أن يسرقه أحدهم مني ، والسرقة هنا في المخيم ، كما تقول ماما ، أكثر من السرقة داخل الموصل .
واستيقظتُ اليوم مبكراً ، كأن جدي هزني بيده الشائخة ، وهو يقول لي : بنيّ حسام ، حافظ على جروي ، إنه أمانة عندك ، وعندما تعود إلى الموصل ، اجلبه لي معك ، فهو عزيز عليّ جداً .
ومددتّ يدي ، أبحث عن الجرو ، الذي أنمته إلى جواري ، حين أويت إلى الفراش ، لكني لم أجد له أثراً ، ونهضت من فراشي ، والقلق ينهشني ، وبحثت عنه في كلّ زاوية من زوايا الخيمة ، دون جدوى .
وانتبهت ماما إليّ ، وأنا أدور قلقاً في أرجاء الخيمة ، فتساءلتْ مندهشة : ما الأمر ، يا حسام ؟ عمّ تبحث في هذا الوقت المبكر ؟
فأجبتها ، وأنا مازلت أدور في الخيمة : الجرو ، يا ماما ، جرو جدي ، لقد اختفى ؟
وخرجت من الخيمة ، ورحت أبحث عنه في الجوار ، وبين الخيام القريبة والبعيدة ، دون أن ألتفت إلى ماما وبابا ، وهما يطلبان مني أن أعود إلى الخيمة .
وفي الليل ، أرقدتني ماما إلى جانبها في الفراش ، وراحت تربت على رأسي ، وكأني جروها ، وقلت لها بصوت حزين : ماما ، إنه جرو جدي ، وهو جرو صغير ، وطلب مني أن أحافظ عليه ، وأعيده له عندما نعود إلى بيتنا في الموصل .
وواصلت ماما الربت على رأسي ، وهي تقول : دعك منه ، يا بنيّ ، لابدّ أنه خرج من المخيم ، وذهب إلى جدك ، فهو يحبه جداً .
ونظرت إلى ماما ، وقلت لها : إنه جرو صغير ، يا ماما ، وأخاف أن يضل الطريق إلى الموصل .
فقالت ماما بصوتها الحنون المقنع : لا تخف ، يا بنيّ ، الجراء لا تضل الطريق إلى من تحب ، وسترى حين نعود إلى بيتنا في الموصل ، إنه قد صار كلباً فتياً ، وسيعرفك حالما يراكَ .
بابا
أيقظته حوالي منتصف الليل ، فانقلب مبتعداً عنها ، وهو يدمدم متذمراً ، وهزته بشيء من الرفق ، فقال والنعاس يثقل كلماته : دعيني ، إنني متعب .
ومالت عليه ، وهزته ثانية ، دون أن تلتفت إلى تذمره ، وقالت ، والكلمات تتواثب فرحة بين شفتيها : انهض ، يا خالد ، سامي يتكلم .
ورغم تعبه ، ونعاسه الشديد ، فتح عينيه ، واعتدل في فراشه ، وحدق فيها غير مصدق ، وقال متسائلاً : ماذا ! سامي .. يتكلم !
ابننا سامي الصغير ، في حدود الثانية والنصف من عمره ، وقد بدأ ينطق بعض الكلمات مبكراً ، وأولى ما نطق بصوته الطفولي كلمة : ماما .
لكن سقوط قذيفة هاون ، في فناء بيتنا ، وجرح خالد جرحاً بليغاً ، شلّ يده ، ومقتل هرته الصغيرة المدللة عنده ، جعلته يفقد النطق ، ورغم السادة ، وملاية خجو المباركة ، وحتى الطبيب ، ظلّ سامي على حاله ، ولم ينطق كلمة واحدة ، منذ أن جئنا إلى هذا المخيم ، قبل خمسة أشهر .
ونظر خالد ، على ضوء الفانوس الخافت ، إلى سامي ، وهو يغفو في حضن أمه ، فرفع عينيه إلى الأم ، وقال : لعلك تحلمين ، إنه نائم .
وابتسمت الأم فرحة ، وهي تضم سامي إلى صدرها ، وقالت : كنت نائمة ، حين شعرت بيديه الصغيرتين الحبيبتين ، تتحسسان صدري لابدّ إنه جوعان ، وسمعته يقول بصوت واضح : ماما .
وابتسم خالد فرحاً ، فسامي ولده الأول ، جاءه بعد أكثر من خمس سنوات من الزواج ، فقد ولد لهم في بيتهم القديم في الموصل ، قبل أن يدخل مقاتلو داعش إلى المدينة ، ويستوطنوا ، هم وعوائلهم ، في بعض البيوت ، التي هجرها أهلها خوفاً منهم .
وتململ سامي في حضن أمه ، ونظر إليه خالد ، وقال : انظري ، يبدو أنه سيستيقظ .
وابتسمت الأم ، وقالت : هششش .. دعه نائماً ، يا خالد ، نحن في منتصف الليل .
ورفع سامي رأسه ، عن صدر أمه الدافىء ، ونظر إلى خالد ، فتمتم وهو يحدق فيه : تكلم ، يا سامي ، تكلم يا بنيّ ، هيا .. هيا يا عزيزي .
وقالت الأم بشفتيها ، دون أن تصدر صوتاً : إنه يعرفني فقط .. يعرف من ترضعه .. يعرف ماما .
ولبتسم سامي ، ومدّ يديه إلى خالد ، وقال بصوته الطفولي : بابا ..
ومدّ خالد يديه الفرحتين ، واختطف سامي من بين أحضان أمه ، وراح يقبله ، ويدغدغه ، وهو يقول فرحاً : بابا ، هاهو يقولها للمرة الأولى .
ونظر إلى زوجته ، وسامي مازال بين يديه ، وقال : الأن أنا بابا فعلاً .
جدة عائشة
علمت من أكثر من مصدر ، أنّ أم أبي عائشة ، وزوجته وولديه في مخيم للعزل ، قرب القيارة ، وهو مخيم مخصص لأهالي داعش .
وقد حاولت دخول المخيم ، لكن المسؤولين عنه ، لم يسمحوا لي بالدخول ، قلت لهم ، إنني ايزيدية ، وأعرف هذه العائلة جيداً ، وأريد فقط أن أراهم ، وأتحث بحضوركم معهم ، لكن لا فائدة ، كان ردهم دائماً بالرفض القاطع .
وخلال تنقلي المستمر في مدينة الموصل ، تعرفت على فتاة شابة متعلمة ، تعمل في إحدى منظمات المجتمع المدني ، التي تعنى بأطفال المخيمات ، وبينت لها ما أريده ، فقالت لي : امهليني عدة أيام ، وسأحاول أن نأخذك معنا إلى هذا المخيم ، لعلك تتمكنين من الاتصال بهذه العائلة .
وذات مساء ، اتصات بي الفتاة الشابة ، وقالت لي في الموبايل : تهيئي ، سنذهب غداً إلى المخيم ، الذي تريدينه ، وسنأخذكِ معنا .
وفي اليوم التالي ، استقليت السيارة معهم ، ودخلنا المخيم ، بدون صعوبة ، وسألت بعض النساء عن عائلة أبي عائشة ، وتوقفت فتاة شابة ، وحدقت فيّ ، وتساءلت : ماذا تريدين منهم ؟ أنتِ تبدين ايزيدية .
فقلت لها بصوت هادىء : إنني أعرفهم ، أعرفهم جميعاً ، وبالذات الجدة الطيبة ، وأريد أن أزورهم ، وأطمئن على سلامتهم .
ولاذت الفتاة الشابة بالصمت لحظة ، وقد بدا عليها عدم الارتياح ، ثم أشارت إلى خيمة قريبة ، وقالت : عائلة أبي عائشة هناك ، اذهبي إليهم .
واتجهت مسرعة إلى الخيمة ، التي أشارت إليها الفتاة الشابة ، وعند بابها رأيت عائشة بأعوامه الخمسة ، وما إن لمحتني ، حتى صاحت : ماما ، جاءت سلوى .
وعلى الفور ، خرجت أمها من داخل الخيمة ، وكانت لا ترتاح إليّ عندما كنت عندهم ، رغم أن الجدة الطيبة ، حذرت إبنها أبا عائشة ، من أن يقترب مني ، أو يمسني ، مهما كانت الظروف .
حييتها قائلة : مرحباً أم عائشة .
وردت أم عائشة بمرارة : بخير ، كما ترين .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : أنتِ الآن حرة ، كان عليكِ أن تذهبي إلى أهلكِ .
فنظرت إليها ملياً ، وقلت بمرارة أشدّ من مرارتها : أهلي كلهم قتلوا ، ولم يبق لي منهم أحد لأذهب إليه ، لا في سنجار ، ولا في أي مكان آخر .
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : جئت أسلم عليكم ، وأطمئن على الجدة الحاجة .
ولاذت أم عائشة بالصمت ، وقد دمعت عيناها ، فقلت لها : لقد أولتني اهتماماً كبيراً كأني ابنتها ، ولولاها لربما ما كنت لأبقى على قيد الحياة .
وسكتّ لحظة ، ثم أضفتُ قائلة : جئتُ إلى المخيم مع منظمة خيرية ، وسأقدم لكم كلّ ما أستطيعه ، وخاصة ما تحتاجه الجدة من دواء .
وسكتّ عندما رأيتُ دموعها تسيل على خديها ، رغم ما أعرفه عنها من صلابة ، وقالت بصوت مبلل بالدموع : لقد جئت متأخرة ، يا سلوى .
شهقتُ قائلة : الجدة !
فقالت أم عائشة بمرارة : لقد توفيت ، قبل أن نأتي إلى هذا المخيم .