د. نادية هناوي : جينفر سميث و (دورة القصة القصيرة الأمريكية)

جينفر سميث و (دورة القصة القصيرة الأمريكية)
د. نادية هناوي

ذهبتْ الباحثة الأمريكية جينفر سميث J. Smith Jinnefer في بحثها الموسوم( قصةٌ واحدةٌ، أصواتٌ متعددةٌ، اشكاليات الوحدة في دورة القصة القصيرة) وهي اطروحتها للدكتوراه من جامعة انديانا عام 2011، الى دراسة تاريخ النوع القصصي الذي سمّته( دورة القصة القصيرة) مستعيضة به عن تسميات أخر من قبيل( متوالية القصة القصيرة / رواية القصة / الرواية المركبة) وقصدتْ به مجموعة من القصص المترابطة والمنفصلة في آن واحد، وتتبعته منذ القرن التاسع عشر وصولًا الى التطورات التي طرأتْ عليه في الوقت الحاضر، واجدة أن دورة القصة القصيرة هي أكثر الأنواع تطورًا في تاريخ الأدب الأمريكي. والسبب مائعية هذا النوع وانقسامه المعتاد بين أشكال متباينة، كتلك القصص التي كتبتها كارولين ماتيلدا وسارة اورني جيويت وغيرهما من الكتّاب الذين توصف قصصهم بالاقليمية تأثرا بالحداثويين أمثال شيروود اندرسون ووليم فوكنر، وما بعد الحداثيين مثل لويس ايردريتش وجوليا ألفاريز، وكذلك الكتّاب الذين تقع كتاباتهم خارج هذه التصنيفات.
ولأن تاريخ كتابة هذه القصص طويل وهو الأكثر نفوذًا في الأدب الأمريكي، لذلك تتخلخل الأرضية التي يريد أن يستقر عليها هذا النوع المنبني على أساس اتساق الموضوع والثيمة والاسلوب في شكل دورة. ولهذا السبب تظهر الدورات القصصية تارة وتختفي أخرى، معبرة عن المخاوف المرافقة لكتابة هذا النوع من القص سواء في مرحلة الحداثة أو ما بعدها من ناحية علاقة القصة القصيرة بالنص أو علاقتها بالقارئ.
وتعلل جينفر سمث كتابة القصة القصيرة في شكل دورة تعليلًا ثقافيًا يجعلها ذات خصوصية في السرد الأمريكي، فالوحدة التي يفتقدها المجتمع الامريكي هي الوحدة التي تبحث عنها القصة القصيرة نفسها، والهوية البشرية المؤقتة والطارئة هي تمامًا النوع الذي يريد أنْ يتقولب في هيأة او صيغة لكنه يظل مشتظيا غير ثابت ذاتًا ومكانًا وزمانًا وذاكرةً جماعيةً، حيث لا انتساب أو استقرار أو انتماء.
ولئن كان الثبات هو أهم سمات النوع الأدبي، تصبح دورة القصة القصيرة محاولة لا واعية في صنع كون متخيل مشحون بالرغبة الدائمة في التوحد واللملمة والتقوقع الذي يحقق طمأنينة مؤقتة في ظل واقع معيش يفتقد إليها.
وهذا ما جرّب الكتّاب الأمريكان مرارًا وتكرارًا الكتابةَ فيه منذ القرن التاسع عشر، باحثين عن نموذج كتابيّ ينعطف بهم جماليا نحو الوحدة المفتقدة في الواقع، مكثفين وجهات نظرهم التي تحقق لهم اتساعًا في الإحساس بالمكان، كما تحررَهم من اغلال الزمان الروتينية، وتقاوم الركود لا سيما في اربعينيات القرن العشرين بوصفها حقبة انتقالية في الحداثة الامريكية .
والذي يقرأ الفصول الأربعة التي حوتها اطروحة جينفر سمث سيتوصل الى حقيقة مفادها أنّ ما سمته( دورة القصة القصيرة) يواجه تحديات واشكاليات من ناحية التموقع الحداثوي للدورة والتفريع المستمر لاشكال كتابية معاصرة، لها قرابة بها من ناحية الكتابة في الزمن المتخيل الاستعاري بعيدًا عن ما هو معقول. وتنتهي سمث في خاتمة اطروحتها الى أن أهم التحديات التي تواجه ( دورة القصة القصيرة) وهي المنهج ، والتلقي ، والنشر.
وبهذا تصل جينفر الى الطريق نفسها التي وصلها قبلها نقاد آخرون مثل روبرت لوشر وروبرت شولتز وفورست انجرام. وبعد سبع سنوات تأتي جينفر لتطرح كتابًا يحمل عنوان (دورة القصة القصيرة الأمريكية American short story cycle The) 2018 وهو من منشورات جامعة ايندبيرغ، وفيه تحاول أن تعزز ما كانت قد اجترحته في أطروحتها عن( دورة القصة القصيرة ) محاولة اختبار أدواتها في انجاز التيقن من وحدة دورة القصة القصيرة واستقراريتها وتماسكها كنوع أدبي، مما لم تستطع إثباته في اطروحتها، التي كان من نتائجها أن التظير لدورة القصة القصيرة يحتاج الى إعادة تقييم للمكانة التي يحتلها في تاريخ الادب الامريكي من ناحية التأثيرات والمخاوف والأساليب في تفككها ووجود الثغرات واللامركزية.
فهل ستنجح في مشروعها هذا وهي تحاول اثبات علاقة دورة القصة القصيرة بالبناء الدينامي للهويات الاثنية والعرقية والاقليمية ؟
( see: ONE STORY, MANY VOICES: PROBLEMS OF UNITY IN THE SHORT-STORY CYCLE Jennifer J. Smith , Indiana University, April 2011 ,P 212. )
لم يكن أمر إثبات الاستقرارية في دورة القصة القصيرة بوصفها نوعًا ادبيًا بالأمر الهين على سميث، لأنها تجاوزت التراكم النظري الذي تمخض عن دراسات ما بعد الحداثة حول الاجناس وانفتاحها. وهذا ما جعل محاولتها تصب في باب الاجتهاد الشخصي متحدية نفسها في القول بان دورة القصة القصيرة نوع أدبي ينماز بالثبات والاستقرار.
والذي يقرأ الكتاب سيلمس أنَّ الباحثة لم تقدم شيئًا جديدًا عما كانت قد قدّمته في أطروحتها فالفصل الأول من الكتاب يخوض في التموقع لدورة القصة القصيرة (Locating the Short Story Cycle ) هو نفسه فصل أطروحتها الأول ( Locating the Modernist Short-Story Cycle ) والفصل الثاني( The Persistence of Place ) عُني بجزءٍ مما عُني به الفصلُ الثاني من الأطروحة وهو دراسة استمرارية دورة القصة القصيرة من ناحية التناسل والتفريع المستمر لأشكال كتابية معاصرة. وكذلك الحال في الفصل الثالث ( الكتابة في الزمن المتخيل الاستعاري) الذي يقارب الفصل الثالث من الاطروحة( Writing Time in Metaphors )
وغيرتْ قليلًا في الفصل الرابع الذي جاء بعنوان تتبع الاشكال الجديدة الذي قارب جزءًا من الفصل الثاني في الاطروحة. وبدا الفصلان الخامس بعنوان( مقاومة الهوية) Resisting Identity والفصل السادس بعنوان( النوع الذري) Atomic Genre (الذي كان والاس مارتن وآخرون قد سبقوها القول فيه) جديدين بعض الشيء وهما يطوعان منهج النقد الثقافي، معززين ما جاء في المقدمة عن ( تشكيل الهويات المؤقتة) forming provisional identity
وقد غابت عن هذين الفصلين مسألة البحث في الثبات الشكلي للنوع القصصي ( دورة القصة القصيرة) وصار البحثُ منصبًا حول التشظي والانتماء والهوية.
وعلى الرغم من أن الباحثة عدتْ النوفيلا نوعًا دوريًا يقوم على التكرار، فإنها اقرت بأن التفكك قد يوصلها الى اللانوع unclassified . ومن المقالات التي تحيل عليها جينفر مقالة( شاعرية القصة القصيرة الدورية) لكيندي 1988 وفيها تنتقد مسألة الوحدة التي سيطرت على النقد الموجه لدورة القصة القصيرة على أساس أنّ التماسك يصنعه القدر وليس نية المؤلف، كما تحيل على لوشر Luscher الذي قاربَ شكل التوالي بشكل السوناتا.
وقد خالفته ماغي دان وان موريس اللتان ذهبتا الى أن النوع الدوري هو رواية وليس قصة قصيرة. وعدت جينفر عدم اليقين في كتابة القصة القصيرة، تبعة مرحلة ثقافية واضطرابات ايديولوجية تجعل الكتابة القصصية القصيرة في شكل دورات تتكرر لكن بلا وحدة ضمن علاقة عضوية متناظرة، تصلح مع المجتمعات المتفاوتة الأُسر والأعراق واللغات والهويات، مؤكدة أنَّ دورة القصة القصيرة هي أقدم أشكال السرد المكتوب، مرجعة أصولها إلى القرن التاسع عشر. لكنها من منتصف القرن العشرين الى اليوم صارت تتمظهر في شكل غير متجانس، تشوبه جماليات التشرذم والانفصال والتكرار والتهجين والذاتية.
وتنتهي إلى وصف عملها بأنه(Code ) أو شفرة لرؤية إبداعية بازاء اتجاه جديد في النوع، يقوم على الدورية. وأنّ القول بالنوع غالبًا ما يتملص من قدرتنا على إمكانية جعله شموليًا، وتقول جينفر في الختام: ( نحن نريد أناسًا يقولون قصصهم وما بعد ذلك ليس مهمًا هذه هي رؤيتنا)
ولأن القصة القصيرة نوع ذري؛ فإنها سواء سميت فسيفساء أو هجينا أو رواية في قصص أو قصصا في رواية، فإنها كلها تحمل بصمة دورة القصة القصيرة، وقد جمعها كتاب واحد، كانعكاس للواقع والهجرة ونقد نستولوجي وتجريب حداثوي.
ويبقى طرحها اجتهادًا شخصيًا يحتمل القبول والرفض، علمًا أنها لم تتبنَ البحث في أحقية القول بالنوع الادبي مما جاء في طروحات تودوروف او لوشر او ماي وغيرهم.
وكان والاس مارتن قد رأى أن التعامل مع السرد يقع في ثلاث مجموعات: 1) متوالية من الاحداث 2) خطاب ينتجه سارد 3) نتاج اصطناعي ينظمه قراؤهُ ويمنحونه معنى(كتابه نظريات السرد الحديثة بترجمة حياة جاسم محمد، ص106) مؤكدا أن التنويعات السردية التي نشأت عن قصة مثل ساندريلا تعدها بربارا هيرنشتاين سميث (متواليات سردية) وقد قامت بتحليلها بنيويا كنوع ذري فيه القصة هي النواة التي تعبر عنه البنية الشجرية.
وهذا ما تأثرت به جينفر مؤكدة دورة القصة القصيرة هي دورة الامة الامريكية التي عززت الاحساس بالحاجة الى أدب محلي هو بمثابة مشروع فني أساسه الزمن والدائرية باتجاه الحداثة مما عبرتْ عنه قصص همنغواي ووليم فوكنر وجين تومر وجون شتاينبك واندرسون. وبالشكل الذي يجعل دورة القصة القصيرة تقع بين الرواية والقصة القصيرة المجموعة، جامعة بين الاستقلالية والاتصالية في النوع، لكن مشكلة وجهة النظر الموحدة تظل قائمة .
وتنقل عن ساندرا زاجرك تسمية هذا التوجه في القص باسم (سرديات المجتمع 1988 ) التي تقدم استجابات المجتمع الثقافية والاجتماعية والديمغرافية والصناعية وانتشار التعددية المدمرة للاكتفاء وسلاسل التاريخ الخاصة العرقية والاخلاقية والعلاقات الجندرية والمعايير الجنسية وعوامل اخرى تتشكل منها .
(( See: American short story cycle, Jennifer Smith, Endberg University Press , Introduction, p10- 12 The
هكذا تعكس دورة القصة القصيرة في الأدب الامريكي ازدواجية السرد بالمجتمع، والارتباط بين المكان الجغرافي والتاريخ والحداثة.
وجدير بالذكر هنا أنَّ المجتمعات في الأغلب لديها هذا التنوعُ في الهويات والأعراق والألوان. وهو ما ينعكس في آدابها في أشكال وصيغ فنية مختلفة، بيد أنّ تلك المجتمعات لا تعاني عقدة كتلك التي يعانيها الأمريكان الذين يحاولون مداراة شعورهم بالتشظي والتبعثر من خلال إظهار أنفسهم مخالفين للعالم لا في الكتابة السردية؛ وإنما في المجالات كلها بما فيها كرة القدم التي يخصّونها بأنها أمريكية. وهذا نوع من الشعور بالنقص كونهم أمة حديثة وليست عريقة، متسترين على تشظيهم بالتميز الزائف والوحدة السوبرمانية. ولعل رفضهم المهاجرين الجدد واحدٌ من دلائل هذا الشعور، متناسين أنهم كانوا مهاجرين دخلاء وليسوا أصلاء.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| فراس حج محمد : تخليد الأصدقاء في الكتابة أمر بالغ الأهمية.

كم بدت لي هذه المسألة مُهمّة، الكتابة عن الأصدقاء، هكذا فعلتُ- على سبيل المثال- في …

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| رنا يتيم : إشكاليّة المثقّف والحداثة .

بطيئة كانت عجلة التاريخ فيما يتّصل بالابتكارات، والتحديثات. ثم كانت الثورة الصناعية، بمآزره فكريّة فلسفيّة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *