على مشارف المخيمات
العصافير لم تخلق للأقفاص ..
وكذلك الأطفال لم يخلقوا للمخيمات ..
العصافير والأطفال خلقوا للفضاءات الحرة .. الآمنة .. النظيفة .. ليعيشوا حياتهم .. في سماء صافية خالية من البوم والشواهين والغربان .. والثعالب الذئاب .
لكن هبتْ عواصف سوداء ، على غابة الطفولة ، فحطمت البيوت والأعشاش ، وقتلت أعداداً من الآباء والأمهات ، وعرضت آلاف الأطفال العصافير للتغرب ومخاطر شتى ، فنزحوا إلى المخيمات .
وفي محافظة نينوى ، ومدينة الموصل بالذات ، وخلال تسعة أشهر من القتال المجنون ، بين مسلحي داعش من جهة ، والقوات الحكومية وقوات التحالف من جهة أخرى ، نزح من الموصل أكثر من ” 3 ” ملايين مواطن ، بينهم حوالي المليون من الأطفال ، توزعوا على مخيمات كثر ، أقيمت على عجل في العراء .
ومن تلك المخيمات ، مخيم حمام العليل ، وفيه ” 500 ” طفل ..
ومخيم حسن شام ، وفيه ” 250 ” طفلاً..
ومخيم السلامية..
إضافة إلى وجود ” 65 ” طفلاً في الميتم ..
ومخيم ديبكة ..
ومخيم الزاب..
ومخيم جدعة قرب القيارة ..
ومخيم الحاج علي .. الخ
إن هذه الحرب ، إضافة إلى الحروب الكارثية السابقة ، تركت وتترك آثاراً ، وجروحاً لا يمكن أن تندمل ، مهما مرت عليها الأعوام .
ونأمل ، نحن الذين اكتوينا بنار الحروب السابقة ، أن يتجنب أطفال المستقبل التعرض لأوارها ، وآثارها البشعة ، التي مازال يعيشها حتى اليوم أطفال المخيمات في محافظة نينوى .
العيد
صباح يوم العيد ، ارتديتُ الملابس التي أحبها ، سروال الجنز ، الذي اشترته لي جدتي الراحلة من السراجخان ، وكم ضحكت وهي تراني أرتديه ، وقالت .. آخر زمن ” ، والتيشر الجميل السماوي اللون ، الذي أهداني إياه خالي عاصم ، قبل أن يأخذه ” داعش ” من البيت ، ولم نره بعدها مطلقاً .
وقبلتني ماما متباهية بي ، وقالت فرحة : إلى أين ستذهبين ، يا حبيبتي خولة ؟
أجبتها ، وأعوامي الخمسة تتواثب معي : سأذهب إلى مدينة الألعاب ، يا ماما .
ودمعتْ عينا ماما ، وأخذتني بين ذراحيها الدافئين ، وقالت : ستمر هذه الأيام السوداء ، يا بنيتي ، وسنغادر المخيم ، ونعود إلى مدينتنا .. الموصل ، وسآخذكِ بنفسي إلى مدينة الألعاب .
خرجتُ من الخيمة ، التي حولتها ماما إلى غرفة صغيرة نظيفة دافئة وجميلة ، رغم أغراضها القليلة المتواضعة ، ووقفت ماما بباب الخيمة ، تنظر إليّ بعينين متعبتين دامعتين ، وقالت : اذهبي والعبي مع البنات ، يا عزيزتي ، ولا تتأخري ، سأعد لك الغداء .
وذهبتُ ملوحة لماما ، آه حبيبتي هذه الماما ، ستدخل إلى الخيمة ، وستطبخ في غيابي ما تبقى من الرز ، فهي تعرف إنني أحبّ الرز أكثر من البرغل .
وبدل أن أذهب ، وألعب مع البنات ، وكانت بعضهن يلعبن بين الخيام ، اتجهت إلى طارق ، الذي يكبرني بحوالي السنتين ، وكان يسير بملابسه الجديدة ، التي وزعتها المنظمة قبل عدة أيام ، وأخته الصغيرة تسير إلى جانبه ، وحييته قائلة : مرحباً طارق .
والتفت طارق إليّ ، وقال : أهلاً خولة ، عيدكِ مبارك ، وكل عام وأنت بخير .
وأجبته فرحة : وعيدكَ ، يا طارق .
وسكتّ لحظة ، ثم قلتُ مترددة : ماما قالت لي ، أن ألعب مع البنات ، لكني .. أريد أن أتمشى معك ، إذا سمحت ، ومع أختك نجلاء .
وابتسم طارق ، وقال : هذا يسرني .
وتجولنا في بعض أرجاء المخيم ، والأطفال بنين وبنات يضجون فرحين بالعيد ، وتبادلنا أحاديث شتى ، عن المدرسة ، ومدينة الألعاب ، وحديقة الشهداء ، وباب الطوب ، وحدثني طارق عن مجلتي والمزمار وقصص السندباد البحري وعلي بابا ، كما حدثني عن أبيه وأمه وعمه الذي قتل في الموصل ، لأنه يكتب في الصحف والمجلات ، ووعدني أن يعيرني بعض مجلاته إذا عدنا ، في يوم من الأيام ، إلى الموصل .
وعدتُ إلى الخيمة قبيل منتصف النهار ، ونظرت ماما إليّ ، وماما تقرأني وكأني كتاب مفتوح أمامها ، وقالت : آه يبدو أن خولتي غير مرتاحة .
فقلت بصوت حزين : طارق .
ونظرت ماما إليّ متسائلة ، فقلت بصوت تبلله الدموع : سيعود وعائلته غداً إلى الموصل .
بعيداً عن تلعفر
منذ أيام ، وبعد أن وقعوا في الأسر ، ونُقلوا من مكان إلى مكان ، هو وأمه وأختاه الصغيرتان ، وضعوهم في خيمة صغيرة شبه خاوية ، بعد أن كان لهم بيت كبير عامر في مدينة تلعفر .
لم يحتمل الحياة في المخيم ، رغم أنه كان يعجّ بالأطفال ، وكنتأيحنّ دائماً إلى حياتي ، التي ألفتها في مدينة تلعفر ، ويتراءى له أبوه ، حين يعود إلى البيت ، محملاً بما لذّ وطاب ، فيضع سلاحه جانباً ، وينهمك في اللعب معه بأسلحة من البلاستك .
وكثيراً ما كان يقول له ، ستكبر بعد فترة ، ويشتد عودك ، فتحمل السلاح معي ، فنقاتل الكفار ، ونرسلهم إلى جهنم وبئس المصير ، أما نحن ، فحتى لو استشهدنا ، فإننا سنذهب إلى الجنة ، وستكون لكل منا حورية .
وسأل أباه ذات مرة ، وأمه تصبّ الشاي : ما الحورية ، يا أبي ؟
وضحكت أمه ، فقال أبوه : الحورية تشبه أمك .
لكن تلك الأيام الطيبة لم تطل ، فقد ذهب أبوه إلى سنجار ، ليقاتل الأعداء هناك ، ولم يعد ، وكانت أمه تقول لي من خلال دموعها : اصبر ، يا بنيّ ، سيعود أبوك في يوم ما ، لابدّ أن يعود .
وبدل أن يعود أبوه من جبهة القتال في سنجار ، جاءت قوات مدججة بالسلاح ، وأخذتهم من بيتهم في تلعفر ، وانتهى بهم الأمر في خيمة صغيرة خاوية ، ضائعة بين مئات الخيام المنتثرة في العراء .
وحاولت أمه كثيراً ، أن تجعله يتكيف مع الحياة هنا ، ويندمج مع الأطفال في المخيم ، ويلعب معهم حيث يلعبون بين الخيام ، لكن دون جدوى .
ومع ذلك ، كان يصغي إلى الأقاويل ، التي تتسرب إلى المخيم ، وتتناقلها الفتيات أو النساء ، ويتحدثن فيها وهنّ يعملن أمام الخيام ، في النهارات المشمسة ، أو ينقلن ماء الشرب من الخزان إلى الخيام .
وتلك الليلة ، وقد اشتدّ البرد حدّ الجماد ، اقترب من أمه ، التي كانت متمددة تحت البطانية ، وهي ترضع أخته الصغيرة ، وهمس لها : أمي ..
ويبدو أن أمه توجست منه ، فقد ردت بعدم ارتياح : نم يا بنيّ ، الجو بالرد .
لم يبتعد عن أمه ، وقال لها : يقال أن أبي ، وبعض إخوانه ، موجود قرب تلعفر .
ومدت أمه يدها ، وربتت على رأسه ، وقالت : لا تصغي إلى ما يقال ، أنت ماتزال صغيراً ، أبوك موجود وسيعود إلينا في يوم من الأيام .
ولاذ بالصمت ، إن أمه لا تصغي إليه ، ومهما كبر ، فإنه سيبقى صغيراً بالنسبة لها ، وهو في الحقيقة ، وكما يقولون ابن أبيه ، ولم يعد طفلاً صغيراً .
واستيقظت الأم في اليوم التالي ، ولم تجد ابنها في فراشه ، وخفق قلبها قلقاً ، فهبت من مكانها ، وبحثت عنه في أرجاء المخيم ، لكن دون جدوى .
وأبلغت مسؤولي المخيم عن اختفاء ابنها ، فأجروا تحقيقاً في الأمر ، وعرفوا أن الطفل قد تسلل بطريقة ما من المخيم ، وأرسلوا من يبحث عنه ، في ذلك الجو البارد ، وحوالي العصر ، عثروا عليه متجمداً في أحد الوديان القريبة من المخيم .