لمناسبة انعقاد مهرجان المربد الشعري بدورته الثالثة والثلاثين
.. وهناك وجه مشرق آخر للمربد !
عادل علي عبيد
بعد تمصيرها ازدحمت البصرة بالقبائل العربية التي تسابقت للسكن فيها ، لاسيما بعد ان عمرت اسواقها ، ونظمت قصباتها ، وشقت انهارها ، وانتظم امر حكمها ، وطريقة عيشها ومعيشتها ، واصبحت محطة عالمية تربط الشرق بالغرب . فبعد ازدهار واتساع الحركة العلمية والادبية ازدادت الحركة الفكرية ، ونشطت حلقاتها ومنتدياتها ، وافصحت عن نبوغ العلماء والادباء الذين حققوا نهضة فكرية على مستويات معرفية معروفة ، وخصوصا في ايام الدولة العباسية .
فكانت البصرة والكوفة مرتعين خصبين لترسيخ الفكر والبحث والانتاج المعرفي ، ومصدرا لإلهام وتحفيز العلماء والأدباء والفلاسفة الذين كانت اعمالهم ومنجزاتهم تشير اليهم ، وتؤكد ان البصرة حاضرة معرفية اسهمت بشكل حقيقي وفاعل في ترسيخ المشهد الفكري العربي ، فضلا عن ادوارها التاريخية والاجتماعية . ولعل العلامة الفارقة التي تميزت بها البصرة هنا قد تمثلت بالمربد الذي الف اولى الحركات العلمية والادبية في البصرة ، بعد ان كسر البوصلة المتوجهة الى اسواق عكاظ والمجنة ، فكان مربد البصرة الذي حبست فيه الابل يثور على طقسية ونمطية المكان ليصبح سوقا ومستقطبا للمباهاة والمفاخرات ومجالسات الشعراء والخطباء والفلاسفة التي كان لهم كبير الاثر في حياة العرب الفكرية والادبية واللغوية .. فلم يقتصر الامر على نظرية السوق التقليدية التي عرف بها المربد باجتماع القبائل والأقوام للبيع والشراء والتبادل السلعي ، بقدر ما كان منتدى رائجا للرؤى والافكار والمواقف والمهاجاة التي اشتعل فيها المقذع والمبدع . ولعل المساجلات والنقائض والمواجهات الشعرية بين الفرزدق وجرير وغيرهم تؤلف شاهدا حيا وجليا على طبيعة هذا السوق الذي نسخ صورة الاسواق التقليدية القديمة بتعدد مهامه ، ليصبح مدرسة كبيرة لطلاب الادب والبيان والبلاغة والكلام والبديع .. وملتقى الادباء والشعراء والرواة وغيرهم .. لاسيما بعد انتقاله من اطوار البداوة القديمة الى حداثة المدن التي راحت تنهض بأدوارها ورسائلها الفكرية المتنوعة . وكيف لا والبصرة تختلف بموقعها وطبيعتها الجغرافية ، فهي نافذة بحرية تطل على دول العالم من خلال الخليج العربي ، وميناء جاذب للسفن والمراكب التجارية والرحلات البحرية ، وهو ما يختلف عن سوق عكاظ الذي تجتمع فيه القبائل العربية التي تحافظ على تقاليدها العربية والجاهلية .
فكانت مناظرات ومطارحات ونقائض الفرزدق وجرير تؤكد نزعة سياسية جديدة لم تألفها اسواق العرب الشعرية ، اذا ما عرفنا ان الخليل بن احمد كان احد الطلاب المتابعين لحركات وجلسات ومنتديات هذا السوق العامر بالإبداع . وهكذا تلتقي رؤى ووجهات نظر الفرزدق وجرير لتحط رحالها في المربد ، وتشتبك احتدامات البيت الاموي والعلوي ليؤكد الشعر ادواره في امتصاص نقمة الحزبين وتضميد ما يمكن تضميده بين الطرفين ، ويعكس لأول مرة مدى ما يتمتع به المربد والبصرة من حرية سياسية لم تعهدها مدن وقبائل العرب ،ما يتمتع به الشاعر من حرية في الرأي والقناعة مرة اخرى . وهنا يؤكد المربد على انه يمثل سابقة واضحة في الممارسة الديمقراطية العربية ، بعدما حل حكما بين ابرز حزبين آنذاك وهما : البيتان الاموي والعلوي . ويتكلل دور المربد ويتعزز وهو يدشن لحياة توافقية في عملية الرأي بعد انتهاء واقعة الجمل القريبة منه ، ولا بأس هنا ان نذكر بأهميته بامتصاص النقمة بين الحزبين العلوي والاموي من خلال الخصومة الواضحة بين الشاعرين الفحلين ، وما تخلل شعرهما من هجاء وتعصب عكس انتما كل منهما للحزب الذي يتبعه .