بمناسبة عيدك أيتها ” الأم ” الكبيرة
أمي الكرديـــــــــة
في ثمانينات القرن الماضي ، كانت وحدتي العسكرية ترابط في رانية ، الحرب على اشدها ، الأوامرالمشددة باعلان الأنذار ” ج ” وهذا يعني ايقاف الاجازات الى إشعار أخر ، دبرت لي مأمورية ، وركبت سيارة تكسي نفرات سلكت طريق رانية دربندخان ومن ثم السليمانية هذا الطريق يعد غير سالك بالنسبة للجنود من امثالي لأنه مليء بالحواجز التي يقيمها ” البيشمركة ” ، لكني ـ بسبب الحرب التي اشتعلت وتصاعدت شراراتها لتشمل الوطن كله ـ كنت مجبرا على سلوك هذا الطريق لاني لم اجد وسيلة او طريق أخر سواه ، كنت أمثل لهم رمزا صارخا للظلم و هدفا رخوا في طريق لا حمايات فيه ولا قوافل عسكرية .. بجانبي امرأة كردية في الخمسينات من عمرها كانت تفتح حوارات مع السائق ومع الراكب الذي يجلس قربه والذي كان يلقي نظرات نارية علي بين فترة وأخرى .. اكتفيت بتبادل ابتسامات بلهاء مع المرأة ومع السائق في المرآة ..أنا العربي الوحيد الذي لايفهم الكردية بين أكراد يتبادلون الأحاديث بينهم ويلقون نظرات كنت أعدها بلهاء كابتساماتي المرسومة بشكل آلي على وجهي ، حتى اللحظة التي توقفت فيها السيارة قرب حاجز من ” البيشمركة ” اقترب احدهم من السيارة ومد رأسه عبر الزجاجة الخلفية حيث كنت أجلس وسألني بغباء سؤالا كاد أن يصيبني بموجة من الضحك إذ قال لي ـ أنا الذي كنت ارتدي الملابس العسكرية والبسطال العسكري والبيرية التي ارتديتها لاننا تعودنا في كل السيطرات ارتداء البيريات ـ سألني بعربية مكسرة ” انت عسكري ؟” لم أجبه ، لكن المرأة التي كانت تجلس قربي أجابته بكرديتها التي أحسستها جميلة وقريبة من روحي وكذلك بدت لغتها واضحة ومفهومة بالنسبة لي ..أنا الذي لم اكن اجيد من الكردية سوى ” خوا حفيظ ” كنت اسمعها من اصحاب الدكاكين في رانية .. تواصل المشهد بقفزات زمنية غريبة وسقطت كلمات تمزج بين العربية والكردية مثل ” عسكريا فقيرا ” وسط مخاوفي التي كانت تتزايد كلما يتصاعد إيقاع الأصوات بين المرأة وبين المسلحين الأربعة الذين احاطوا السيارة بوجوه عابسة مغطاة بالشعر الكثيف ، كنت أسمع عن جنودٍ مساكين يتم أسرهم على الطرق الخالية من القوافل العسكرية والحمايات الخاصة بالطرق ، ويتم اخذهم إلى أوكار في أعالي الجبال ، ويتم استخدامهم كما يتم استخدام البغال في نقل جلكانات الماء والارزاق .. نظارتي الطبية أثارت لديهم الكثير من الاسئلة التي ترجمها السائق لي .. قال لي : يريدون أن يعرفوا من أي لواء انت وهل تعمل في ” القلم “؟ التسمية التي تطلق على من يعملون في مكاتب الوحدات العسكرية أجبته :
باني جندي غير مسلح وأعمل في المطبخ ..
سألني : هل أنت طباخ اللواء ؟
قلت له : أنا مكلف بغسل قزانات الطعام فقط …
نقل اليهم ماقلته وسط الصخب الذي كانت تثيره المرأة الكردية .. التي نجحت في الدفاع عني … وأجبرتهم على تركي أواصل طريقي معهم الى السليمانية التي وصلتها وفي عقلي كانت تتوالي صورة لجندي يرتدي نظارات طبية وهو يحمل الجلكانات على ظهره متجها الى أعلى الجبل حيث يستدير متطلعا الى الافق عبر زجاج نظارته حيث مدينته الى لايستطيع أن يصلها ، بعد أن نزلت من السيارة صافحت السائق الذي أكد لي انهم كانوا مصرين على اقتيادك الى الجبل كأسير .. لكن ، واشار ناحية السيدة الكردية
” هي من أنقذتك ، ولولاها لانتهى بك الأمر حمال جلكانات ”
اقتربت من المرأة التي ابتسمت أمسكت يدها وسط رفضها وقبلتها .. وقلت لها
ـ شكراً أماه …..
مدت يدها ومسدت رأسي وهمست في أذني بكلمة عربية واضحة
” سلامي الى أمك يا ولد ”
لم أحتمل هالة الحنان ورائحة الامومة المنبعثة من انفاسها. انهالت دموعي التي تواصلت حتى وأنا الوح لها بعد أن ركبت السيارة المتجهة الى بغداد .