مرام عطية : الطفولةُ تحتَ مقصلةِ البردِ

الطفولةُ تحتَ مقصلةِ البردِ
____________________
الفصلُ المدرسيُّ الخصبُ غابَ كانونهُ البرتقاليُّ فغدا صحراءَ قاحلةً ياأمَّي ، صارَ نهبَ الزمهريرِ والأنواء، نوافذهُ المكسورةُ مشرعةٌ على تياراتٍ بحريةٍ مشبعةٌ بالرطوبةِ ، و بابهُ الغارقُ في الهشاشةِ صدأتْ مفاتيحهُ ، مواربٌ على رياحٍ شرقيةٍ قارسةٍ ، الفصلُ الدراسي الحلو سرقَ الشتاءُ كنوزه الفريدةَ فصارَ طعامهُ شديدَ الملوحةِ، و نبتتْ على مقاعده مسلاتٌ وأشواكٌ ثخينةٌ ، لم يجدِ معها ارتدائي الثيابَ الصوفيةَ ، فقد زحفتْ قطعانُ صقيعهِ تحتَ معطفي الشتويِّ ، غرستْ مخالبها في جسدي الغضِّ ، ونهشتْ أنيابه خبزَ عزيمتي ، أقدامها الوحشيةُ سحقت زهورَ طموحي ، فانهارت أرتالُ قواي العقليةِ و الروحيةِ .

أمامَ مقصلةِ البرد ارتعدَ جميعُ المدرِّسين ياأمِّي ، فغاب بعضهم عن حصصُ الرياضياتِ والعلومِ واللغة العربيةِ ، و انحدر مستوى عطاءِ الباقين ، جفَّتَ قريحتهم ، ضعفتْ بصيرتهم ، وغامتْ عيونهم في ضبابِ القيمِ ، ضاعتْ في أزقةِ الحاضرِ الشاحبِ علومهم ، وهم يبحثون عن سحابةِ دفءٍ تهبطُ عليهم من سماءٍ ، ويترقبونَ إشراقةَ شمسٍ تشعلُ في قلوبهم السكينةَ .
سامحيني أمي إذا انخفض تحصيلي الدراسيِّ ، لأن البردَ كان يحاضرُ في فصلنا الدراسيِّ بغيابِ المدرسين وحضورهم ، يتراكمُ الجليد على أوردتنا ، فتسقطُ قطعُ كلامهِ الثلجيةُ على صمتٍ رهيبٍ ينتظرُ أن يذوبَ على حرارةِ موقدِ
أرجوكِ لاترسليني إلى مقصلةِ البردِ في هذا الزمنِ العاتي الفقيرِ من الرحمةِ ، هذا ما قالتهُ لي عيناهُ الدامعتانِ ، خطاي تأبى العودة إليها ، تخشى رهابَ الصقيعِ، فلا تغفلي عن ضعفي و يأسي .
كم أنا ممزقٌ وجائعُ الروحِ ياكنزي !! أمي ضمِّيني لحضنكِ الدافئِ لأحيا ، أحتاجُ حنانكِ لأخيطَ قمصانَ روحي الممزقةَ ، أحتاجُ سحبَ يديك لتهمي طفولتي بالحبِّ والأمانِ .
هكذا حدثني جذعُ طفلي المائلُ تحت عصفِ الريحِ، وهذا ماأخبرتني به يداه المرتجفتانِ تحت سياطِ البردِ الرهيبةِ .
ياإلهي ! كم أحتاجُ من سلسلكَ العذبِ لأعتذرَ من طائري الجريحِ !!
وأنتُ أيتها الأمومةُ الساكنةُ دمي ، كم تحتاجين من الصبرِ والأمل ، وأنت تمضغينَ الألمَ لتهدئي ، وتسكني خيامَ السلامِ بعد ذاكَ الضياعِ !!
__________
مرام عطية

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *