مي مظفّر : تحية إلى شاكر حسن آل سعيد في ذكرى رحيله (ملف/1)

إشارة : 

كان المبدع العراقي والعربي الكبير “شاكر حسن آل سعيد” خلطة إلهامية خلاقة عجيبة، فقد جسّد حسب الوصف الدقيق لأحد النقاد “من موقعه كمنظّر وأستاذ ومؤرِّخ، توليفاً استثنائياً للحداثة والإسلام والعروبة علماً بأن فلسفته للفن كانت متجذرة في الصوفية الإسلامية والفكر الغربي الحديث: فإذا به يجمع بين البنيوية، والسيميائية، والتفكيكية، والظاهرية (الفينومينولوجيا)، والوجودية”. وتتشرّف أسرة موقع الناقد العراقي بإعداد هذا الملف عن الراحل الكبير مزجية الشكر للمبدعة “مي مظفر” التي تذكرنا من جديد بقامة إبداعية عراقية هائلة يوشك أن يطويها النسيان والتناسي. 

تحية إلى شاكر حسن آل سعيد 

في ذكرى رحيله

مي مظفّر

في مساء خريفي من عام 1969م، ولدى عودتي إلى الدار سيرا، استوقفتني لافتة على جدار المتحف الوطني للفن الحديث تحمل عنوان معرض للفنان شاكر حسن آل سعيد بعنوان “المعارج”. فدفعني فضولي إلى مشاهدة ما يمكن أن يكون عليه معرض فني حديث ذي مضمون أدبي روحاني.  

كانت مجموعة الأغمال في الطابق الثاني من مبنى المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان)، وكانت الإضاءة في قاعة العرض خافتة إلا من مصابيح مسلطة على الأعمال المعروضة: ألوان مائية وأحبار على ورق. كانت الأعمال محض تجريدية: نهر أزرق يخترق فضاء أبيض يشقه إلى نصفين، خط أسود عميق ينطلق في حركة تصاعدية من أسفل اللوحة إلى أعلاها. أحسست باضطراب أمام هذه التكوينات التي التبست عليّ لغتها بقدر ما فاجأتني تكويناتها. تقدم مني الفنان شاكر حسن الذي كان يجلس على طرف من القاعة يراقب زائرة يراها لأول مرة. بادر بتقديم شرح لبحثه البصري، زادني إرباكا، لكنه كان أول درس متعمق لي في الفن، وبداية صداقة متواصلة واكبتُ خلالها كل مرحلة من مراحل عمله. 

الحوار مع شاكر حسن (1926-2004) يسير وشاق، هادئ تارة واستفزازي في معظم الأحيان، ولكنه حوار غني بالمعرفة والرؤى. قد لا يسفر عن ملامح محددة، ولكنه بكل تأكيد قادر على أن يزج محاوريه في بحر متلاطم يظل موجه يحرك الفكر والمشاعر، بل تظل ذبذباته تلاحق الفكر وتجرّه إلى حوار مع الذات لتأمل ما قاله الفنان لفظًا وما أشار إليه ضمنا. وذلك ما ينطبق بالتأكيد على أعماله بكل مراحلها، حتى التشخيصية منها؛ ثمة مساحة فارغة لشيء سيولد، أو ربما هو موجود غير مرئي شأن كثير من الأمور المحيطة بنا. في أعماله قوّة كامنة بإمكانها أن تفجّر فيضا من المشاعر والرؤى لدى المتلقّي. 

ثم شاءت الظروف أن نجتمع في حقبة التسعين في عمان وفي دارة الفنون على وجه التحديد. كنا نلتقي في كثير من الأحيان في المكتبة. أحيانا كان يحلو لي أن أراقب الأستاذ شاكر وهو يبحث في أدبيات الفن ويتصفح نظرياته لما بعد الحداثة والتي توافقت نظرياتها مع تطور بحثه البصري والفكري. لقد كوّنت قراءاته تلك مصدرا مهما لإغناء مشروعه الذي كان يسعى إلى الغوص في أعماق الزمن وقراءة التراث البصري والفكري لحضارة وادي الرافدين من ذلك المنظور العصري. 

وكثيرا ما كنت أراه يتوقف فجأة عن القراءة، يحنى رأسه ويعقد حاجبيه ليسرح ربما في مضمون شيء مس وجدانه فهز كيانه، وجرّه إلى التأمل، أو أوحى إليه بفكرة ما. إذ غالبا ما كان يخرج باستنتاجه الخاص. من خلال هذه اللقاءات التي كثيرا ما كان يتخللها الحوار والنقاش، تنبهت إلى النزعة الانتقائية لدى شاكر حسن، ووجدتها لا تقتصر فقط على توظيف العناصر البيئية في أعماله بل تشمل أيضا المعاني والأفكار التي يبلورها من خلالها مفاهيمه ورؤاه بعد أن يتفاعل معها ويضيف إليها ما يتواءم معها من خزينه الذهني والحسي. وأعتقد أن جلّ كتاباته النظرية في فلسفة الفن تخضع للمنهج ذاته الذي تخضع له تكوينات لوحاته. فهو لم يكن يرى بعينيه فقط بل بكل جارحة من جوارحه، وحين يتلقف إشارة من المحيط، أو تأسره جملة في النص، يتوقف عندها ثم يبدأ بإمعان النظر بما وجد. هكذا كان يغوص بالرؤية ويحفر ثم يحفر حتى يفقد طريق العودة ويتيه في مجاهل الشقوق.  تنتهي أمامه المسافة ولا ينتهي البحث.

حين كان يعمل مستشارا ثقافيا في دارة الفنون في عمّان 1993-1994، وفي أثناء تجواله في وسط المدينة، لفت انتباه الفنان شاكر كشكا في منطقة العبدلي مهجورا. وسرعان ما رأى فيه مشروع عمل فني كبير، بل بلغت حماسته إلى حد الاقتراح على دارة الفنون أن تشتري الكشك. ووافقت السيدة سهى شومان، التي كانت معجبة جدا بفنه وأفكاره، ولكن فكرة الشراء قوبلت بالرفض من قبل أمانة عمان ومالك الكشك. وقد أشار رافع الناصري، في معرض تأبين الفنان في دارة الفنون خريف 2004، إلى كشك العبدلي بوصفه أحد الشواهد الدالة على القدرة الفائقة للفنان آل سعيد في البحث والتقصّي، واعتبر ما تراكم على ذلك الكشك من آثار الزمن أثراً فنياً سيصبح فيما بعد جزءاً من أساسيات بناء اللوحة لدية، وما سوف يتبعه من اختزال لوني سيظل يشير إلى نتائج التصوف في بحثه التشكيلي مع ذاته ومع مفردات العالم المحيط.

شاكر حسن آل سعيد يحاضر في مؤسسة شومان في الأردن – 1992

عاش شاكر حسن دائما في فنه ولفنه، وجل مسعاه انصب في تحويل الوجود إلى قيم فنية إنسانية. لقد حاول أن يمسك في أعماله بالمرئي وغير المرئي؛ الملموس والمجرّد. تكويناته بجميع مراحلها تشي بهذه النزعة. وهي إذ تجلت بشكل ما في “المعارج” ثم في “الجدران”، فإن تجربة اللوحة المزدوجة، التي تشاهد من وجهيها، ربما تكون قد قرّبته من تحقيق الرؤية الشاملة، فجمع في آن واحد المحيط المرئي و”تقنياته” كما يسميها هو، أي العناصر المكمّلة للوجود كالذرات والحركة والصوت.

كان آخر مرة رأيت فيها شاكر حسن في البحرين، حين جاء لحضور معرضه الشخصي الذي أقيم في قاعة الرواق خريف عام 1998م. ذهبنا أنا ورافع للقائه قبل يوم من الافتتاح، فوجدناه واقفا يراقب بصمت عملية الإعداد للعرض كان يرتدي دشداشة بيضاء وقد غمر البياض شعر رأسه ولحيته وعلى وجهه ملامح حزن واغتراب. كان حاضرا وغائبا؛ عيناه تائهتان تبحثان في الوجوه عن شيء ما، وصوته يتهدج في الحديث. لمحت رعشة واضحة في يديه حين ضمهما إلى صدره وهو يحييني، وطافت على وجهه مسحة فرح ويقول: “عندما أراكما أشعر بأنني بين أهلي”. استأذنه رافع لتوثيق هذه اللحظات بالفيديو، وشرع يطرح على شاكر أسئلة تتعلق بأعمال معرضه، في محاولة لجرّه إلى الحديث عن تجربته. حين صحبناه معنا للغداء افتقدنا في حضوره روح المرح وضحكته المجلجلة. 

في اليوم التالي للافتتاح غادر عائدا إلى العراق. لم يستطع أن يطيل إقامته. لعلها كانت بداية حالة الكآبة الحادة التي استحوذت عليه ودفعته في نهاية الأمر إلى الاعتزال ثم الوفاة. كان قرار الاعتزال حسبما قال يعني لديه الابتعاد عن الآخرين والاقتصار على:” مخاطبة الذات كآخر.. إنه كيان مستقل. قد تكون هذه العبارة فلسفية أكثر من اللازم، ولكن ما يحدث في العالم من شرور تدفع الإنسان إلى الاعتزال ..الاعتزال هو حماية الآخرين من أخطائي” . اعتزال فنان بهذه القامة “حماية للآخرين من أخطائه” أمر ذو شأن، ويحتمل الكثير من التأويل والتساؤل عما وراءه.

لكن شاكر حسن، الذي ملأ الفضاء الثقافي العربي عامة والعراقي خاصة لأكثر من نصف قرن، من الصعب أن يغيب. كان سبّاقا لزمنه بامتياز. طاقته على تحريك قدرات الآخرين ستظل كامنة في تلك التفاصيل المغيّبة عن أنظارنا والمحيطة بنا، تلك التي أجهد الفنان نفسه لاقتناصها وتصويرها. بل لا أعتقد أن بوسع أحد منا أن يرى جدارا متآكلا ومليئا بالأثر الإنساني من غير أن يتجلى أمامه طيف الفنان. 

مي مظفر، عمّان، 4 آذار 2019

لوحة، جدار لشاكر حسن – مجموعة خاصة- مواد مختلفة على لوح خشبي،  105-80 سم، 1991 (اللوحة من المبدعة مي مظفر فشكرا لها)

 

 

                                                                                  

 
تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

تعليق واحد

  1. باهرة محمد عبد اللطيف

    مقال استذكاري نقدي جميل وضروري للاحتفاء بذكرى وانجاز الفنان الرؤيوي آل سعيد الذي حفر عميقا في تاملاته وفي لوحاته، واغنى الفن العراقي والعربي عبر الرسم والكتابة التأسيسية.
    سلمت روحك ناقدتنا الفنية الرائدة استاذة مي وانت تستذكرين تواريخ واحداث كنت شاهدة عليها ومنحتنا متعة قراءتها.

    تحية اعتزاز للناقد العراقي وللاديب والباحث الدكتور حسين سرمك على هذه الملفات التي ترسي تقاليد الوفاء لكبار الثقافة والابداع..
    باهرة عبد اللطيف/اسبانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *