كاظم الحلّاق : الخفافيش (ملف/15)

إشارة:
جماعة “البصرة أواخر القرن العشرين” جماعة فريدة ليس في تاريخ السرد العراقي فحسب بل في تاريخ الأدب العراقي عموما. فهي لم تكن “الجماعة القصصية” الأولى في تاريخ العراق فقط بل كانت مشروعاً تثويرياً في النظرة إلى دور السرد خصوصا في واحدة من أخطر المراحل التي عاشها العراق بانعكاساتها الهائلة على رؤية الأديب ورؤاه. اقتنصت هذه الجماعة الإمكانية العظيمة لفعل الكلمة المقاوم حبن ترتدي أثواب الفن الباهرة فيمكنها أن تكون ماسة تلمع وتقطع في الوقت نفسه. وإذ تنشر أسرة موقع الناقد العراقي تراث هذه الجماعة وما كُتب عنها فلأنها “ظاهرة” تستحق الدراسة لاستنباط دروسها. تحية لجماعة البصرة أواخر القرن العشرين. ويهم أسرة الموقع أن تتوجّه بفائق الشكر والامتنان إلى الأديب الأستاذ “محمد عبد حسن” مؤرّخ هذه المجموعة وواحد من المساهمين المهمين فيها لأنّه زوّد الموقع بأغلب نصوص هذا الملف.

الخفافيش
كاظم الحلّاق
في الطريق الداخل للمدينة حيث الجسر القديم يلقي أجزاءه الصغيرة في عرض النهر، كحيوانات خرافية رابضة. همهمات هاربة للنساء.
كلاب تتضور في طرق مستفزة، نباحها يختلط بنباح آخر. مخالبها تنزلق على سطوح صفيحية لأسقف البيوت ودكاكين السوق الفارغة.

ناس فرادى وجماعات يطوفون، تحث خطواتهم أصوات مدوية بعيدة، تلاحق عثراتهم الزاحفة في كل جانب من جسد المدينة الهارب أمامهم قطط مبحوح مواؤها تتناسل فوق إسفلت الشوارع المهملة، لتضيع في مساحات متخفية، تنفتح سريتها لتبتلع الخطى المستنفرة، تاركة الشوارع مقفرة إلا من أجساد مشاحة عيونها عن السماء الرمادية، حيث الزقاق المتفرع من الشارع الرئيس يفرش كفيه الترابيتين الضيقتين للمومسات المصدورات، والشحاذين الممسوسين، وسكارى منقطعين، يتدثرون بهواء قذر كان يتكاثف هناك.
أضواء السيارات المموهة الناحلة تضيء سماء الشارع الرئيس، الواطئة، المزروعة بأشباح طيور مشوشة في طيران واطئ، تشاغل بمتابعتها عابراً إلى الجهة الأخرى المقابلة للزقاق، يتسمع أصواتا غامضة، مبثوثة في الهواء، تتلاشى مع منبهات السيارات المنفلتة عجلاتها من أذرع الشارع الإسفلت.
كان المساء باردا، لم يزل القمر يصارع لاختراق الغيوم الرمادية، الكثيفة، البنايات الواطئة يغمرها سكون متناه، يساهم بمغذيات الانطواء والعزلة التي درجت تلف الموجودين في تقاطع الشارع الرئيس والزقاق المنحدر منه، كان جسده يبدو متباعدا عن الضوء الهزيل لنيران الباعة، وإذ يتعطف يراهم ينزلقون أمام محور بصره كظلال راعشة، منعكسة على جدار شفيف من الهواء. تعزز وجودهم أضواء مرتعشة لسيارات خاطفة.
غمر وجهه وهو يعرج إلى البناية المترامية في نهاية الزقاق، ضوء عاجل لسيارة استدارت بين الزقاق والشارع، فبرزت ملامح واجمة وأمائر تقشف لفت سحنته المعذبة، من خلل العتمة المزروعة بالصمت. والتمعت أشكال وأحجام مختلفة لسوائل متخثرة انسكبت على دشداشته فشكلت دوائر مشوهة، لهيئات آدمية وحيوانية.
طنين الأصوات وغرابتها في جوف السكون الذي يطبع الوجود من حوله، يقدم إغراءً غير مخجل له بأنه في مأمن من العيون المجهولة التي نهكه التفكير بها، غير ملتفت، يواصل سيره البطيء المتحفز، صاعدا سلالم خفيضة، مثلمة الحواف. جلس يتحسس صرته المرقشة بفوضى رقائق قش، وأوراق نفايات لاصقة، ثمة قضبان حديد وأواني صفيح مثقوبة جدرانها غاطسة في سخام المكان دون نظام، زادتها المتعة التباسا وسرية، فبدت بنظره كأفاع مسحورة انبثقت من سرة الظلام تتلوى في هدأة الليل.
تخلل الصمت المزروع في أعماق المكان صوت ارتطام طائر ضخم بالجدار الذي خلفه، تكاثفت العتمة على أسطح القضبان الضيقة، بينما التمعت رقائق القش وحواف الأواني العليا بضوء انعكس في هواء السماء من فوقه، وانطفأ، كأن كل شيء حواليه أخذ يغرق في ظلام سكوني.
ساد الصمت الحاد مرة أخرى، لكنه سرعان ما قطع بوشوشات مبهمة مصحوبة بصيحات واضحة هذه المرة، تنز من الجدار الذي خلفه، لكأن خلايا هائلة الحجم محمولة من النحل قد انبثقت من قلب اللامكان المغيب حوله. أصاخ السمع واضعا أذنه اليسرى لصق الجدار الخشب السميك المنخور، فدهمت عينيه أجساد متجبرة، كادت تخبط ذيولها قدميه، تتلوى متخفية برؤوس صغيرة في الجدار.
حدق في سكون الهواء المخروم بأضواء باهتة بانت فيها هوامات تطير مشوشة، فتلبسه الخوف وهو يرى في انعكاس آخر للضوء خفافيش هائلة تسقط على جدار السطح المجاور، لتضيع في تضاريس خشب مجهولة، مجاورة لدهليزه المنخفض، المتخلف عن درج خشب متآكل لبناية ذات شناشيل قديمة متشظية أسطح جدرانها، تعج بحيوانات حرشفية منزلقة أجسامها تمنحها العتمة الرمادية قوة أسطورية مخيفة.
في وحشة المكان احتضنت نفسه ضروبا من الأفكار الغامضة السارة التي ألفها في خلوته كجمرات متوقدة يستعير من قبسها لهداية روحه في ظلام كان من المحتمل أن يتبدد وهو يصبو إلى آفاق داخلية كانت تنفتح كلما توغل في مشايعة كوابيسه السابقة في صمت المكان وهيكل البناية المتوحد التي يسكن فيها. فكرة متسلطة كانت تلح بإيماضاتها الساحرة، بأنه قد ظفر أخيرا بنفض يديه عن حياته السابقة التي قضاها مشردا بين الخنادق المظلمة، البليلة، وتجمد وجهه في هواء الليالي الشتوية القارصة. فتساوره الآن غبطة سرية مبددة وحشة المكان( كان جرف الشط يمور من تحته، وثمة خيط من ضياء يتراءى له بعيدا مذكرا إياه بالوحدة دوما، وهو يجثو بين حشود الجنود الضائعة في الأرض الموحلة، تحت رحمة السماء المطيرة، المحروقة بنيران الانفلاقات الجوية. وفي أوقات أُخر يجلس مقرفصا، مستشفياً من الحرب، يتوسل برجل هزيل، يمسك بندقية حراسة صدئة، بمدخل العنبر الذي يرقد فيه، يرسل نظرة مخدَّرة من خلال الرجل تسقط على كفي صانع التوابيت الصغيرتين، في الشارع المحفوف بأوراق اليوكالبتوس الصفر، المدومة، بتقاطيع وجهه المشوهة ونظرات عينيه السوداوين الموحية. فيعتريه الفزع مشيحا بنظره إلى أماكن أكثر عتمة).
يتوغل في الصباح ماسحا جغرافية المدينة البائسة، بيوتها الحائلة اللون، الغارقة في كآبات تتنفس هواءً قذرا يلفها، حيث مقالب النفايات أصبحت شارات مغوية للطيور الناعبة والمترنحة تحت شبح الإثم المدنس لنوعها وحاجات الغرائز الموجعة، المدومة بين حشود الوجوه الآدمية الفزعة لرجال ذوي أربطة عنق متسخة ونساء شابات، نحيلات وصغيرات تتلفع وجوههن بخيوط دخان منجمدة، ومقالب النفايات الخاوية.
كانت سطوة الأضواء على دوائر الطرقات المتهافتة تحت أقدام خائفة تدوسها باستمرار، شبيهة بتجبر أحلام مبثوثة في أفلاك أجساد تدور وتدور في دوامات عاصفة موحية بتربص موحش، عاصف، مجهول، بين الحارات الفزعة التي لا تني تأخذ أزقتها بالانكماش مخلفة نزلاءها في هوة من الجنون الموزع بين مقالب النفايات المخلصة إياهم من مردة الجوع وبيوتهم الخاوية إلا من أشباح ليلية وقطط تتناسل في حافاتها المضاءة بالكاد بأنوار مرتعشة تتلاشى مع ارتفاع جدرانها ليسود ضوء يعلن بداية نهار جديد.
وهو عائد بصرته الغاصة بنفايات مطقطقة، لا يدري بغرابة الإحساس الذي دهمه لرؤية شيخ مقرفصاً على صخرة ناتئة عند حافات البيوت، في الفسحة الترابية بين مقالب النفايات والبيوت المتناثرة عند نهاية الشارع الإسفلت. ومجموعة من الغربان تنتشر حوله، ناعبة تطير هنا وهناك. والشيخ يتشبث بالفراغ المحيط به صارخا: ما هذه الغربان الناعبة! ما الذي فعلناه؟ لماذا نحن بالذات؟ من ذا الذي أبعدنا عن الماء؟ إننا لا نرغب إلا بما جعله الله متيسرا! ها هو النهر باذخا يتعطف قربنا!
كانت الشمس بطيئة تنحدر في السماء، مخلفة بقعا ضوئية صغيرة، تغمر البلاطات الإسمنت البارزة من أرضية الهيكل الخشب المهجور للبناية. بينما يسود الظلام في انحناءات على شكل أنصاف دوائر عميقة كأنها تجاويف مندرسة لجسر بدائي في الجانب الأيسر للمكان. اختلس النظر ليطل على الخفافيش من خلال كوة صغيرة في الجدار الخشب، الذي يفصل دهليزه عن شقوق وأسطح الجدران المتداخلة، فرأى خفافيش بأعداد مرعبة تتضاعف باستمرار متعلقة بأرجل لزجة، تحتضن طيورا رمادية ساكنة كبيرة الحجم، وجثث صغيرة لطيور يغطيها براز أسود، يشطرها الضوء المتسرب نصفين. فطفقت الأشياء تختلط بنظره، تداخلت صور الغربان السود بهيئة الخفافيش وصيحات أفواهها القاذفة أبخرة مقرفة، فأخذ يدوم بأفكار نازفة ابتداءا بـ: ( النساء / التعقل / التملق / معاصم الأيدي المستسلمة / أقمشة الساتان الخضر).
ينهمر الظلام أسود، كثيفا على أعمدة الهيكل الخشب، فيتماسك الغبار بسطوح متساوية على أوجه الأعمدة المتوغلة في جسد الأرض النازة. مشاهد ثرة نهضت بمخيلته لرؤيته الظلام ينسكب على أوجه الأعمدة المديدة والتي بدت الآن واطئة بسبب مستويات الظلام الساقطة عليها، فظهرت كساريات مشرعة. فتذكر، بساتين جنوبية ذات نهيرات صغيرة مستسلمة للشط / بحارة ينشدون سعداء/ مراكب هنود رابضة عند حافته تتكسر عليها مويجات الماء الفضية. شعر ببرودة ريقه من خلال قطرات لعاب منزلقة من زاويتي فمه، متغافلا الصيحات النازة من جميع الجهات المصحوبة بكثافة مائية ترتفع الآن من تحته كما لو أن الأرض تغذى ببراميل من المياه. يبدو أنه ظل مشدوها بين مشاعر مغرية متولدة في خياله وصيحات الخفافيش المهيمنة على مسامعه( عدا نسيانه ارتفاع الماء في أرضية دهليزه الذي ابتلع صرته وعباءته وبعض حاجياته) المتواترة مع أصوات طيور تخبط الأعمدة بانت في الضوء مستفزة، فيظهر أنفه ذا شحوب وتغرق أخاديد على جانبي خديه في ظل فضي للضوء الشفيف المنعكس من السماء الواطئة، واقعا تحت ذهول حالة غثيانية: كانت الصيحات غادرة تخرج من الأفواه الزاعقة، مقرفة، مدوخة. انتفض جسده ممسكا بقضيب حديد ذي شفرة حادة موسعاً الكوة هاجما بضربات متتالية ملوحاً بالقضيب في الفراغ لتخرج مضطربة تفرد أجنحتها الجلدية، تاركة صغارها معلقة بأرجل هشة على الجدران. يلاحقها أضواء برق ودوي فظيع يخرج من جوف الخشب المنخور.
كان وجهه لصق الجدار يغطيه عدا ثقبين صغيرين وجزء من صدره بعباءته الصوف المبللة، الثقيلة، والخفافيش تسوطه فاردة أجنحتها وصيحات غاثية تسري في أنحاء السماء. آلاف من الحيوانات تخرق الهواء متخبطة، قال: كنت أظن نفسي أنني تحررت من ذيول التجارب البائسة. خيرا كنت أفعل لتعريض روحي لأسواط الوحدة الموجعة! للبول على هيكل الوقت المتشظي في نسيج علاقات نافرة عن طريقي، لمَ نجرجر إلى حيث الدهشة تصدمنا كعاهرة تموه شفتيها بكلمات عذراء؟
في السماء كانت الخفافيش مذعورة تنتشر ثم تجتمع مثل تماثيل مبرمجة فقدت السيطرة على اندفاعاتها وتضخم أعدادها!
لبث المقعدون والممسوسون يقلبون أوجه العجز والتفكير بطريقة تخلصهم من تجبر الحيوانات المستديرة على بعضها مداهمة جموع الناس في بداية الزقاق في ساحات تضيق باستمرار. الخفافيش غزت كل شيء، الحيوانات على النفايات المظلمة/ على سطوح البيوت نصف الفارغة/ في المدارس المتروكة/ على أجزاء الجسر الطافية/ في ساحات المساجد/ على قبور الكنيسة المندرسة/ في الغرف المنهدمة/ الشارع الرئيس/ الأزقة الملتوية/ الخفافيش في كل مكان.
هم يتبين موضعا آمناً يحتوي جسده لكي يتسنى له إدراك ذاته، تأكد من فشل شروعه بمجرد اختلاسه النظر ليطل على بداية الزقاق ويرى الممسوسين والشحاذين تنهشهم الخفافيش تتبؤهم حركات فزعة وغير إرادية كثيفة دائسة في ظلمة الأرض.
كان ظلاماً كثيفاً، بطيئاً، انحسر في المدينة الملأى بالأشباح والأصوات المبهمة حين أطل الصباح ناشراً أضواءه المغبوبرة والخفافيش تهوي عند مدخل جحرها المنغلق بقطعة خشب ذات نتوءات حديد، تسوطها الأجنحة الجلدية الممزقة الدامية وتنهشها الأفواه الفاحة، وثمة خيوط دخانية ذات ألسنة نارية تتلوى من شقوق البناية الخشب، تسري في هواء السماء القذر.

آذار / 1992 م

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *