أ.د. ثائر العذاري : (المفعاة) لحامد فاضل كتاباً قصصياً (المتوالية القصصية/5)

(المفعاة) لحامد فاضل كتاباً قصصياً

د.ثائرالعذاري

لا يحبذ كتاب القصة العراقيون – في العادة- إصدار مجموعة قصصية تكون مشروعا قصصيا واحدا، بما يعرف بالكتاب القصصي أو المتوالية القصصية، وهذا جنس أدبي يتوسط بين الرواية والقصة القصيرة. غير أن هذا الإضراب لا يمنع من صدور كتاب قصصي بين حين وحين، و (المفعاة) واحد مما ظهر في أحد هذه الأحيان.

تتألف (المفعاة) من عشر قصص مقسومة على قسمين بالتساوي، ولكن من الصعب بمكان التغافل عن ترابطها معا بما يكون عملا واحدا، فهي تشبه النسيج الذي يوحده تداخل الخيوط العمودية بالأفقية. فالعمودية تتقاطع مع القصص كلها لتحكم نسجها، فأما الخيط الأول فهو اللغة التي كانت واحدة على امتداد العمل بما فيها من صور مجازية وانزياحات وألفاظ تستدعي قرآنا أو أثرا أو بيت شعر، بل كثيرا ما تأتي موزونة كما لو كانت قصيدة، كما في قصة (المكتبة) التي جاءت مثل قصيدة مدورة على (المتقارب).واللافت أن القصص كلها كتبت بنفس واحد، فليس فيها فقرات أو وقفات عدا النقطة التي تأتي آخر القصة، فكل قصة محض جملة واحدة فائقة الطول.

وإما الخيط الثاني فهو (الراوي المتكلم) الذي تشاركت به القصص جميعا. كان مهموما بشؤون بلدته، متحسرا على ما يجري عليها من ظلم وجور لا يمنعان من إظهاره عشقه لها ولأهلها الذين بدوا طيبين محافظين على فطرتهم.

وفي (الحكمة) وهي القصة الخامسة في المجموعة والأخيرة في القسم الأول يمد الراوي للقارئ طرف الحبل الذي يوصله إلى فهم بنية المجموعة: ((… تلمس الرجل سيفه، فتوجست خيفة، فكرتُ بالقيام والابتعاد، ونسيان تقريري الصحفي…))، فهو يكشف عن مهنته وعن مشروعه. فالمجموعة كلها تقرير صحفي عن البلدة. غير أن ظاهرة أخرى تنكشف عند الانتهاء من المجموعة تحدد بدقة أكثر جنس هذا التقرير. فمع أن القصص معنية في المقام الأول بسرد وقائع حدثت في (بلدتنا) فإن الراوي يزرع فيها هنا وهناك معلومات عن نفسه. ففي القصة الأولى يظهر وهو طفل يراقب السجناء السياسيين ويتواصل معهم وفي الثانية نجده غلاما يساعد جده في عمله، وهكذا يكبر في كل قصة حتى يظهر كهلا في الأخيرة. وعلى هذا يكون الكتاب تاريخا سيريا يرصد التغيرات التي يصيب بها الزمن (بلدتنا) عبر عين الصحفي الذي ترعرع فيها.

وأما الخيط الثالث فهو المكان، ففي كل قصة كان الراوي يؤكد على كلمة (بلدتنا) التي يجري فيها الحدث، ويعرض الأوصاف الدقيقة التي لن يخطئ القارئ في أن يحدس أنها (السماوة) على الرغم من أن الراوي لا يذكرها بالإسم، فكانت مثل (ماكوندو) ماركيز، مدينة للمتناقضات. ففي القصص كلها نواجه المكان ذاته بشوارعه وبيوته ومقاهيه. وحافة الصحراء والسجن يلقيان على المدينة وزرا من البؤس والرعب.

 يبدو سكان (بلدتنا) في قصص القسم الأول مناضلين مشحونين بالنقمة على السلطات، مستعدين دائما لتقديم العون لطليعتهم الثورية غير مبالين بالخطر، معتادين على فقدان أخوانهم في السجون وربما المشانق، بينما يظهرون في القسم الثاني وقد ركنوا إلى اليأس وافتقدوا الثقة التي كانت تشد لحمتهم، وصار النفاق والشك والفساد ظاهرة يومية معتادة. وهذا يدفع إلى البحث عن مغزى تقسيم القصص على قسمين.

على الضد من القسم الأول تأتي قصص القسم الثاني التي تبدأ بـ(المفعاة) فنطازية تلعب فيها الحيوانات الدور الأبرز، كالأفاعي التي تغزو البلدة وتتحكم بها، وفي (الكبش) يكتشف الراوي أنه مسخ كبشا وأن كل سكان البلدة مسخوا بصور حيوانات مختلفة.

إن التركيز – في القسم الثاني – على فكرة الغزو وشراء الذمم والسياسيين الفاسدين يدفع بسهولة إلى استنتاج أن الكتاب يروي سيرة البلدة في حقبتين متمايزتين؛ تبدأ الأولى من تموز ١٩٥٨ وتنتهي عند الاجتياح الأمريكي ٢٠٠٣ يغطيها القسم الأول، بينما يصور القسم الثاني حال المدينة وسكانها بعد الاجتياح.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *