إشارة :
سلمان داود محمّد – وببساطة شديدة جدا ولكن معقّدة – هو “عاهة إبليس” في المشهد الشعري الراهن ؛ العراقي – وحتى العربي لو هيّأ له الأخوة النقّاد “الأعدقاء” فرص الانتشار. وكمحاولة في إشاعة فهم بصمة روحه الشعرية المُميزة الفذّة التي طبعها على خارطة الشعر ، ارتأت أسرة موقع الناقد العراقي الاحتفاء به عبر هذا الملف الذي تدعو الأحبة الكتاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.. تحية لسلمان داود محمد.
ملامح فلسفية
في شعر سلمان داود محمد
أ.د. نجاح هادي كبة/ بغداد
للشاعر سلمان داود محمد مجموعة شعرية صدرت العام 2012م بثلاثة أجزاء تسمى كل جزء منها كتاباً وبحدود (216) صفحة من القطع المتوسط عن دار ميزوبوتاميا ضمت (26) قصيدة بأطوال مختلفة والجزء الأول أي الكتاب الأول كان بعنوان (غيوم أرضية) ، والثاني (علامتي الفارقة) والثالث (ازدهارات المفعول به) . وسلمان داود محمد شاعر ثمانينيّ فهو من جيل الحرب الذي عانى ويلاتها وقد انعكس ذلك على شعره فهو شاعر سببي (ان صح التعبير) لأنه يتحايث مع الفكر الفلسفي في صياغة مضمون قصائده وشكلها فكأنه يقع في مبدأ العلية – كما يسمى عند الفلاسفة- ليصوغ قصائده بأسلوب شاعري مبدع فالشعر لديه فن رؤيوي يعكس الفكر وهذه متلازمة جاءت في شعره بأسلوب رمزي رومانسي وواقعي بل حتى سوريالي ، قال في قصيدة بعنوان (ممتلكات الظل) (6) :
لأن البحر مأوى
راح ينتهك البيوت
بأسماك الزينة
فالسبب في هذه القصيدة الومضة مبني على العلية فلكل سبب متسبب وهو في هذه القصيدة الومضة يبتعد عن الزوائد ويشذب بقية قصيدته ويحاول أن يكسب العواطف المتضادة لدى القارئ بعد أن يؤجج عواطفه من خلال هندسة أسلوبية فهو أولاً يخيف القارئ من البحر لانه بلا مأوى (حدود) ثم يبدأ الشاعر بتفريغ شحنة الخوف لدى القارئ بأن البحر ينتهك البيوت لا بمياهه الجارفة حين يهدر ويفيض بل بأسماك الزينة ، فختم قصيدة الومضة هذه بضربة مفاجئة عوضت عن الكثير من الزوائد وشذبت بنيةٍ القصيدة وقال في قصيدة (يحدث في جنوب شرق الشمال الغربي) (2) مؤكداً أسلوب السببية :
تستيقظ الحروب
بإشارة ملكية
بينما تنام الحروب
بجرعة كبرى
من أشلاء تتمرغ بالنسيان
يكاد هذا الأسلوب يطغى ولاسيما في قصائده الومضة وكقوله في قصيدة (قدم في الأعالي) :
أنجبتْ زيجات المتعة أولاداً مؤقتين
وكذلك الدساتير المؤقتة – أنجبتنا
هذا ما قاله الضياء للطريق
من الملامح التي يقلّد فيها خطى الفلاسفة في شعره أن العالم ارادة وامتثال كما يقول شوبنهاور والإرادة عند شوبنهاور سابقة للعقل فهي اذن واحدة ولكنها ليست واحدة كما يكون الفرد واحداً والتصور واحدٌ ويفرق شوبنهاور بين الإرادة العامة والخاصة فالأولى تدفع الناس من حيث لا يشعرون الى الأمام في حين أن الثانية تنطوي على البواعث والإختيار ، يقول شوينهاور (قد يبدو الناس مشدودين من الأمام فحسب ولكنهم في الحقيقة مدفوعون من الخلف وان كانوا يظنون انهم مقودون في طريقهم الى ما يرون ولكنهم في الحقيقة مسوقون بما يشعرون – بالغرائز التي لا يشعرون بعملها إلا نصف الوقت)(1). ويتساءل الشاعر مَنْ المسؤول عن الحرب؟ – وهو شاهد عيان فيها – وما آل إليه واقع وطنه العراق من مآسٍ وخراب فلا يجد جواباً لهذه الإرادة سوى عند الله سبحانه فهو الذي يعرف حقاً بواعثها ، قال في قصيدة (ازدهارات المفعول به) :
صار المكوث رماداً
يشاغل عضو الكلام بأرداف سكائر
ريثما يتم العثور على غبش بين نعوش الحلوى ..
اسم إشارة لضرير ، هذا المتساقط من ذكرى نهار
يسأل الأحلام مراراً وما تعلق من سخام في سماء البيوت
ما الذي سيفعله بابانوئيل لصبية نضجوا
بين فرز القمامة في غرف العشاء
والسطو على حدائق مفعمة بالسيكوتين …؟!
…
…
يفسر الثناء لغير الناطقين بالتضحيات
لابد من الإشارة الى أن غير الناطقين بالتضحيات هم الشهداء الذين أسكتهم الموت لان الآخر المدفوع بالإرادة العامة لا جواب عنده .
وشر البلية أن تستمر ارادة الموت وان تبتعد ذاكرة الإنسان عن مآسيها فيكون النسيان أداة لمحو الشخصية لكن الشاعر في حلبته يرفع ناقوس الإنتباه ليؤشر الخطأ ، قال في (قصيدة طبعاً .. والى الأبد) :
قد أسهو قليلاً عن وسامتي ليفهمني الرصيف ..
قد اتسلسل ” أولاً ” في بلاط الضحايا وأغيب عن البيت
لكني برئ من فردوس يلمع في مدفن الغرباء
وآمين لأصدقائي المشتعلين هناك
في العامرية …
5/أيلول /1996
(الشاعر هنا يشير في هذا التاريخ الى حادثة القصف الوحشي لملجأ العامرية في بغداد الذي راح ضحيته أكثر من “400” طفل وامرأة وشيخ) وعود على بدء كيف ينسى الشاعر ارادة الحرب التي جرّبها بحواسه قبل عقله ؟ لأنه عايشها يوماً بيوم وعلقت مآسيها بذهنه اليس التجربة خير برهان ؟ ولاسيما أن الفلسفة بدأت تبتعد عن العقل المحض نحو التجريب وان تكون الحقائق واضحة للعيان لا لبس عليها ولا غطاء يغطيها ، قال في قصيدة (فارزة) :
ذات هجوم
كان النوم منشغلاً بالقتلى
والملجأ مستودع أحلام خلّب
أيقن ان المباهج كالبساطيل
كلاهما لا يذكر في لائحة الخسائر
فاغلق البحر وراءه
ودحرج الأيام خلف الراجمات
فالمعرفة بما تسببه ارادة الحرب يدفع ثمنها حتى من رفع لافتة الإنتباه ضدها أيضاً لأن الإرادة العامة خارج الزمان والمكان وهي تفرض نفسها بقسوة قال من قصيدة (قدم في الأعالي) :
على مبعدة من كلب واناس يعرجون
يقيم هناك طبيب الخطى
سيعرض ساقين – واشترى
الأولى تشبه التي نسيتها في “ديزافول ”
والأخرى مما تساقط من نصب تذكارية
سأمشي بهما دهوراً
حين أشتهي التقرّب من سريري
فهل عرفت لماذا اعتاش الحراس على الأحلام
وازدهرت صناعة الخفاش في المدينة ..؟
لا يهم ..
ولجأ الشاعر في قصيدته هذه الى أسلوب السخرية لأن ارادة الحرب والموت لا يستطيع أن يدفعهما عنه فقد وجد في السخرية طريقاً لتفريغ الألم الذي يحز بنفسه بعد أن فقد ساقيه نتيجة حرب وارادة كان خلاصتها المعوقون والشهداء ويغلّف سلمان شعره بالشك أيضاً ويعيد الى الذهن مقولة ديكارت (ما دامت واقفاً على هذه الصخرة فأنا موجود) ولكن بوجه آخر ، قال في قصيدة – (أنتَ) بكسر العين- :
في أي الكواكب تزدهر النجاة ؟
– في الجنون …؟
– أم في السويد …؟
– أم في التهام الوصايا …؟
سأعولم الصيحة
متفشياً كالجسر بين ضائعين
وأعوى بالـ “رصافة” يا نجفي
فتهطل من قعر هلالك ” صه ”
كأنك تكسر وجه المواثيق
مستنكراً على الزنوج بياض الخنوع ..
فالنجاة معادل موضوعي لدى الشاعر لصخرة ديكارت ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أين يجد الشاعر النجاة في أي الكواكب ، في الجنون ، أم في السويد..؟
إن الشاعر لم يجد نجاته من هذه الحرب بعد أن فقد ساقيه فيها سوى في كلمة ” نجفي ” وهي كلمة طالما رددها المقاتلون العراقيون في الحرب أي ستكون مقابرهم في النجف ان عاجلاً أو آجلاً الذي يحوي مقبرة السلام الكبيرة فالشك اذن لديهم مقطوع باليقين وهو ملاقاة حتفهم وتنتاب الشاعر الشكوك ويصطدم بصخرة سيزيف فليس وراء الشكوك يقين وكل شيء معرّض لضحك مثلوم من هذه الحرب الطاحنة كمن يشرح (المشقة للحمالين والآخر يبيع الأجراس في حي أطرش) ، قال في قصيدة (سوبرمان- طيران أول ) :
في (ساحة الميدان)
رآني متعدداً في شكوكي ووحيداً
اعرّض المفاهيم لضحك مثلوم
أتذكر نفسي وصديقاً أربك القناص بأغنية ..
لم نمت آنذاك
لا يهم
فأنا الآن اشرح المشقة للحمالين
وهو يبيع الأجراس
في
حي أطرش
يبقى الشاعر يدور حول ذاته التي تنبع من الذات الجماعية ويحوّل (نحن) الى (أنا) وسط دوامة من فشل الإرادة العامة للحرب والشكوك التي تنتاب الجميع وفقدان الذاكرة والعدمية كل ذلك عبر عنه الشاعر بصور شعرية فيها الطرافة والغرابة ليعكس الواقع المعيش ويبقى الكثيرون دامعين مقهقهين … يحيا الغزاة وكأن فقدوا عقلهم ، قال في قصيدة (نثرنة الصنم) :
وأنت تطحن الأعوام تحت ابطك الوحيد
وتطعم العقارب
وهذه علامة ” الهم الكتريك”
بنكهة تستدرج الأمم
وتبث الأحزان وراء الحدود
فتكشف عمن يسوسن الجيفة
وتقهقه دامعاً .. يحيا الغزاة ..
كل هذا في علكة الأمل
فانفرد بها
وعش بلا آخرين
4/ تموز / 1999
لابد من الإشارة الى أن (العدمية ليست مجرد ابراز الموت والبشاعة والعنف والقبح ، ولكن الأديب العدمي هو الذي ينفذ من خلال ذلك الى معنى الحياة ، وبذلك يوضح ان العدم هو الوجه الآخر للوجود ، ولا يمكن الفصل بينهما ، لأن معنى كل منهما يكمن في الآخر)(2).
المصادر :
1- محمد سلمان داود ، الأعمال الشعرية ، ط1 ، 2012 ، دار ميزوبوتاميا ، بغداد .
2- معوض ، د. أحمد ، أضواء على شوبنهاور ، مكتبة النهضة المصرية ، دار بغداد .
3- وكيبيديا الموسوعة الحرة ، موضوع العدمية ، عن الإنترنت .