أمجد نجم الزيدي : (ذاكرة الوجع) الرواية عندما تتمثل الواقع

(ذاكرة الوجع) الرواية عندما تتمثل الواقع

أمجد نجم الزيدي

 تعتبر الرواية أحد الفنون الادبية التي تمتلك خاصية مميزة للتعبير عن الواقع الحقيقي، وان كانت تبتني شكلا متخيلا، حيث درجت الكثير من الروايات الواقعية الى محاولة عكس الحياة الانسانية بكل تداعياتها، بتصور انعكاسي يحاول خلق موائمة افتراضية بين متن الرواية كخطاب ادبي متخيل، والواقع الفعلي الخارجي بكل تشكلاته، حيث يحاول الروائي الواقعي ان يقلل الفارق بينهما، بان يعمل على تحويل روايته الى ما يشبه الوثيقة الاجتماعية أو السياسية أو التاريخية.

ولكن الحكم على النص بمدى واقعيته؛ هو دوران في فلك تقيمي، يوقع النص وكاتبه بين كماشة الخطأ والصواب، وهما حكمين نابعين من رؤية خارجية عن النص وتراكيبه البنائية وعلاقاتها السردية كفن روائي، فإخضاع هذا النص الى هذا المنحى من التقييم هو اغفال لبنيته الفنية واشتراطاتها، لذلك فكل نص يتبنى منحا واقعيا لا يمكن باي حال من الاحوال عده وثيقة واقعية، بل انه عمل متخيل، ليس بمعنى ان الاحداث غارقة بالخيال، وانما الاحتكام الى الشروط الفنية للفن الروائي كجنس متخيل (Fiction)، وعدم الركون الى الاحكام القسرية التي يمليها الواقع او حتى السياق الواقعي في بعض الاحيان.

لذلك فعند قراءتنا لرواية (ذاكرة الوجع) للروائي العراقي صباح مطر الصادرة عن دار تموز في سوريا عام 2012، فنحن ننطلق من بنيتها التركيبية كفن روائي سردي، يعمل وفق منظومة من العلاقات التي تحددها طبيعة الجنس الروائي، رغم ان الرواية قد بنيت وفق منظور الرؤية الواقعية للأحداث وحتى ضمن التصور العام للأدب الواقعي، من خلال بناء الثيمة والشخصيات وعلاقاتها بالزمان والمكان.

فشخصيات الرواية كـ (بهية ومحمد والخال والراوي) تعكس ذلك التماهي مع الواقع، حيث كان الزمان والمكان اطارين لامين لذلك التماهي، والذي افرز وعيا خاصا للشخصيات بأزماتها التاريخية، ولم تفرط تلك الشخصيات بوجودها كدلالات، حيث كانت (بهيجة) تمثل الفارزة الزمنية التي تربط بين طرفي الذاكرة، التي تأخذ مسارات انشائية في تكوين الاطار البنائي للنص، اما شخصية (الخال) فهي المحرك الرئيسي لوعي الشخصيات ووعي النص في حدود بناء الفعل التاريخي المتحرك، بتصويره لازمة المثقف والبنية الاجتماعية والسياسية المختنقة برماد التقليد والجهل والخرافة، اما شخصية (محمد) فقد اخذت دور الساند للشخصية الرئيسية حيث اقترنت بتمظهرات تلك الشخصية والتماهي معها من حيث البناء والتشكل.

اخذ الزمن الروائي منحا استعادي منذ الصفحات الاولى للرواية على شكل ذكريات رجل محتضر (وهن عظمي ولانت جوانحي وهزل بدني وضعفت كل خلية في، الا ذاكرتي فبقيت تجرني الى عقود طويلة خلت..)ص9، هذا ما يظهره الاطار الزمني العام للرواية، بينما هناك تنوعيات في زمن الخطاب الروائي متوزعة على طول الرواية، تخرق تلك التراتبية الزمنية، او المحاكات للزمن الواقعي، حيث يظهر الاختزال في الزمن، اوالاستباق او غيرها، فمثلا قول الراوي (انتهى الشتاء ومر الصيف وأتى شتاء اخر وانتهى، مرت الايام متشابهة لا تحمل جديد)ص22، حيث نرى فيه اختزالا للزمن الحكائي على مستوى الخطاب الروائي، وغيرها من النماذج الكثيرة والتي تأخذ عدة اشكال، وهنا يظهر لنا ان الثيمة الواقعية او المحاكات لذلك الواقع، لا تمنع ان تتمثل الرواية الصيغ الفنية للزمن على مستوى الخطاب، رغم ان الرواية بقيت تسير في خط افقي داخل الزمن الاستعادي لتلك الذكرى الى نهاية الرواية، ولم يحدث اي تلاعب في خط الزمن الا في بداية الرواية، وفي مواضع كانت (بهيجة) الشخصية الثانوية هي الفارزة الزمنية -كما اسلفنا- والتي تمثل انحراف الزمن، اذ انها تربط بين زمني النص، وهما زمن الاحتضار والزمن المستعاد، لذلك كانت هذه الشخصية هي النافذة لتداعي تلك الذكريات،  حيث الشخصية الرئيسية تستعيد ماضيها في لحظة الاحتضار، اذ يتنامى ذلك الزمن الافقي من طفولة الراوي عندما كان في عمر الخامسة الى لحظة الاستعادة وبصورة تراتبية، وقد ظهرت بهيجة/ الفارزة الزمنية في مواضع عدة من الرواية، كنافذة لاستعادة تلك الذكريات (عادت للجلوس مغمضة عيناها لتوهمني بانها نائمة كي لا اعود للكلام ثانية، أغمضت انا الاخر عيني وعدت الى فتح نافذة الذكرى لأطل منها على عالمي الذي غادرني..) ص115، وربما تعلب دورا اخر مقارب لهذا الدور، بان تعود بالراوي الى حاضر السرد كما في ص129 مثلا، او مكان اخر من الرواية (انتبهت لهسهسة تقترب، قطعت علي شريط الذكرى، بهيجة، هي بهيجة…) ص150، فهذه الشخصية رغم انها نافذة للولوج الى متن الذكرى المستعادة، الانها بقيت تراوح في حدود هذا الدور ولم تأخذ لها حيزا فعليا في بناء الرواية، مع انها تمظهرت بعدة مظاهر منها الحبيبة والام، وحاول الروائي ان يصورها في بعض الاحيان بانها هي الذكرى بحد ذاتها (حين اكتأبت بهيجه اكفهرت الدنيا، وجم الماضي والحاضر، تشطر جدار الذاكرة عن كوى سوداء، كوى أطل من احدها فتتراءى أمامي مشاهد الرعب، أتلصص من أخرى فيظهر لي ما هو أكثر رعبا كأن غربانا تجول ناعقة في فضاء ذاكرتي) ص159، ورغم هذا التصوير لهذه الشخصية، وارتباط الراوي/ الشخصية الرئيسية (زيدون) بها، الا انها لم تشارك بصورة فعلية في بناء الاحداث، حيث اكتفى الروائي بوضعها في هذا الدور الذي تفتقر فيه للصورة الذاتية المستقلة، كما في شخصية الام مثلا، او الخال او محمد.

لذلك فرواية (ذاكرة الوجع) تمثلت الشكل الواقعي، والسرد التقليدي في بناء احداثها وشخصياتها، حيث نرى بناء الزمان والمكان والشخصيات وخاصة الرئيسية منها؛ كان بشكل تقليدي على مستوى الخطاب العام للرواية، فشخصية الخال مثلا، تمثل نموذجا عن المثقف التقليدي، اذ لم يخرق الصورة النمطية له (أكثر المتذمرين كان خالي، انقطعت عنه الجرائد، لا من ذاهب الى المدينة ولا قادم منها، التجأ الى خزانة كتبه يتفحص محتوياتها ويقرأ غير مبال بتهكمات جدتي ونصائحها له بان يقرأ القرآن..)ص20، ورغم انه لعب دورا مهما في تحريك وعي الشخصيات، وكشف ازماتها الاجتماعية والتاريخية، الا انه كان محاصرا بالمكان والزمان، اذ لم يستطع ان يكسر الطوق، ويخرج عن الصورة النمطية التي حاصرته بمساريها الزماني والمكاني، وذلك ربما لإصرار الروائي على ان يحاول اقناع قارئه بحقيقة هذه الشخصيات ومدى واقعيتها، وانها تتنفس في هذا المدى الواقعي المؤطر لأفعالها ونموها داخل الرواية، وهذا ربما ما رفضه الروائي البيروفي يوسا في (رسائل الى روائي شاب) عندما قال ان (القدرة على الاقناع بـ “حقيقة” الرواية و”مصداقيتها”، لا تأتي ابدا من تشابهها او تطابقها مع العالم الواقعي الذي نعيش فيه نحن القراء، انها تأتي، حصرا، من كيانها ذاته، المصنوع من كلمات، ومن تنظيم رؤى المكان والزمان ومستوى الواقع التي تؤلفها) ص85، وهذا ينطبق ايضا على الشخصيات الاخرى كـ “محمد” مثلا، والتي أخذت دورا ساندا للشخصية الرئيسية، او هي مرأة تتمرأى بها تلك الشخصية (محمد سبقني في التعلم غير انه يتظاهر بأميته، يعتذر من يأتي اليه برسالة ليقرأها له، حاجة ما في نفس محمد دعته لهذا، حاجة او رغبة لم اتوصل لكشف سرها الى يوم الناس هذا) ص37، حيث نرى نبرة الاعجاب لدى الراوي بهذه الشخصية، اذ تبنى هذا النوع من الشخصيات باعتبارها اداة تفتح مسارات بنائية للشخصية الرئيسية، حيث فتحت شخصية (محمد) ابوابا جديدة للشخصية الرئيسية من خلال نمو وعيها بذاتها، ليس بمعنى ان هذه الشخصية الثانوية يجب ان تكون متشابهة ومتطابقة مع الشخصية الرئيسية، بل ربما في بعض الاحيان تكون بالعكس من ذلك، فكلما زاد تناقضهما؛ كلما كانت وظيفتها أكثر اهمية، ولكن في روايتنا هذه بقيت هذه الشخصية تراوح بين ادوار مختلفة، ولكنها تلتقي بانها تلعب دورا ساندا للشخصية الرئيسية، ولم تأخذ دورا تحريضيا الا بصورة غير مباشرة (صعقتني كلمات محمد، صفعتني برشقة رذاذ بارد نبهتني من سكرتي بل لأقل من غفلتي) ص154-155.

يبدو لي ان رواية (ذاكرة الوجع) للروائي صباح مطر، انساقت وراء الصورة التقليدية، التي تحكم الكتابة الواقعية، بالاضافة الى بناء الشخصيات وادوارها داخل اطار زمكاني ثابت، يسير عبر خط السرد بتراتبية، وان حاول الروائي في هذه الرواية ان يحرك هذا الخط، وان يزحزحه قليلا من مكانه، من خلال بناء متنين/ زمنين مختلفين، هما زمن حاضر السرد والزمن المستعاد، حيث فصلنا فيه سابقة حيث كانت بهيجة هي الفارزة الزمنية الفاصلة بينهما بدورين متزدوجين هما الذهاب والعودة.

 
تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *