زينب ساطع : تمرّد كاتب

قصة : « تمرد كاتب »

(( بعد سلسلة من المنغصات وتواتر عقول سمجة دوغمائية الفكر حوله وعقد من الاشواك القميئة التي اختبرت حدتها بروحه النبيلة قرر الكاتب الذي عرف بدماثة خلقه وقلة اختلاطه بمن حوله ، الابتعاد عن الكتابة حينا ،، ثم اردف قراره ب(حزم) بتركها نهائيا والى الابد ،، قرر ترك موهبته التي شاطرت انفاسه في الاربعين سنة من عمره الذي لايتجاوز ال60 ، اغلق كل حساباته الشبكية والبريدية واقفل مكتبته التي بلغت جدران الغرفة الاربعة والتي طالما كانت محضن كتاباته ومقالاته ورواياته ، حاول احد اصدقائه ثنيه عن قراره فكانت حجته انه يبغي الهدوء والدعة لانه في وسط ميدان مضطرب يحلم بتهميش الاصالة والجري وراء الزيف والسراب ، وان السنين الاربعين لم تكن سوى صدى ووهم وانتظار عقيم لتفتح الورد يوما .
بقى الحال فترات حتى وصلته رسالة ورقية من قرائه بيد الصديق نفسه كان نصها
((((( استاذنا الاديب المحترم .. وصرح القلم الاثير ، تحية تنثر شذاها بكل عطر ولون على جميع ايامك وساعاتك
أما بعد ، فقد علمنا مؤخرا بعزمك اعتزال الكتابة ورغم جهلنا بظرف هذه الخطوة الطاعنة لنا الا اننا نحلم بتراجعك عنها ذلك لان حياة الفنان ليست له وانما لقرائه الذين طالما وصفتهم بقرطاسك الابيض وان قلمك ليس ملكك وحدك هو ملك للاقلام التي تخطو خطوه وتقتفي جاهدة اثره الصعب ، نعم قلمك ملكهم وذخرهم وهو ملكهم وسيدهم ايضا .
ياسيدي الكاتب ، يكاد يشل الفكر لتبين الغاية التي تبغيها من دفن بلور كلماتك ويعجز العقل لمعرفة ماترومه من هدف لاطفاء ضوء سطورك واخبات سناها ، تلك السطور الصفصاف المكتنزة المعاني المدافة بالبهرجة في فناءات الرفوف المكتبية ، والنصوص الثرة المتشظية بهاءا العاكسة اطيافا من وجه الشمس ،، سطور ونصوص سقيتها عقودا من العمر دأبت على تخضيبها بالصدق وخطتها بالشعرية بمخيط منفرد الوجود وزينتها بأجنحة الخيال حتى اصبحت وبكل امتياز منجم برق بل بروق محتدمة الدواخل كمشرط للصعق ، مخزن تبئير ومكمن مغاليق للاسرار والجمال .
نعجب حقا من قرارك لان الكتابة لم تكن يوما هوايتك بل كانت هويتك التي عرفت بها
ولم تكن اللغة حروفا قد قدرت على تشكيلها وانما كانت حرفتك التي اجدتها بامتياز واحتراف واصبح متابعوك يملأ الالتذاذ عقلهم وهم يتسلقون سفح و صخر كلماتك الوعرة التي ابت ان تبني صومعتها الا على قمة جبل الكتابة و تلتمع فيه ، حتى غدوت اسطورة للادب الرفيع بشهادة ذائقة القراء وتطلعاتهم .
لطالما عهدناك مرجلا من حق صادح ، فاذا ذهبت فلن يبقى بالساحة غير الذبالة على حطب الكتابة من الروايات والقصص ، وستغدو نصوص الجرائد باردة جافة عقيمة لانها باتت خاوية من توقيعك . فكيف تقدر على خنق جذوة عرفت بانها بصيص للحياة ام كيف تطيق صفيف ورق قد تاق لملئك بياضه المقيت بسحر كلماتك .
كلمة اخيرة ياسيدي (ان توقف قلمك ماتت قراءاتنا ) تحياتنا لك. التوقيع قراؤك ومحبوك ))))… ابتسم ، دبت براعم الجذل وغدت تمور في صدره ودقات قلبه اصطبغت حراكا ، كرنفال بهيج ارتسم في خاطره ، فسأله صديقه الذي كان يرقب قسمات وجهه وهو يقرأ الرسالة بشغف ..
_ ماذا الان ؟ فأجابه الكاتب بسؤال وقال ..
_ هل قرأت الرسالة ؟
_مؤكد ، لانها بالاصل كانت رسائل كثيرة وردت بريد المجلة العام موجهة لك بعد ان اغلقت بريدك الخاص ، وحاولت تجميعها برسالة واحدة حتى لا اثقل عليك .
_ ألم تجد شيئا فيها ؟؟
_وجدت ان لك محبين يستحقون رجوعك لهم وبقاءك معهم .
ابتسم الكاتب وهز رأسه بالنفي
_رغم انك صديقي لكنك لم تكتب لي كما كتبوا ولا الومك مطلقا فانت بعمري ولك بصمتك واسلوبك بالكتابة لكن ولكوني افهمهم ادركت الان اني باق وموجود معهم
_ كيف ؟ لم افهم !!
_ ياصديقي كل سطر كان يقول ان أسلوبي يتنامى و يتناسل فيهم تباعا وانه لم ينتقل لهم عبثا سوى بقراءات مجتهدة وساعات مضنية قضوها بالتأقلم معها والعوم في مطباتها ، الرسالة في ظاهرها دعوة وطلب لمعاودة الكتابة لكن ضمنيا هي تجزم اني موجود بينهم وحاضر في درب اقلامهم حتى وان تغيبت او غبت ، اسعدتني الرسالة اذ انها احدى عطايا السنوات الاربعين .
_ والنتيجة ياحضرة الكاتب الملهم ؟
_ لا استطيع اخبارك الآن ، ستعرف لاحقا ، الآن علي تحضير حقيبة سفر لاني مسافر غدا .
– حسنا ، كن بخير فقط .
وبعد خروج صديقه تنبه ان الرسالة لاتزال كما هي في يده .. طوى الرسالة برفق ودسها في خانة اشيائه الاثيرة ، ورغم ما صرحت الرسالة به من توسلات مبطنة للرجوع للكتابة وانها قد اقلعت بقلبه من مطار الهدوء والعزلة الى سموات الاحتفاء و الترحاب و الامتنان والعرفان بالجميل من قرائه له … الا انها كذلك عززت يقينه ان عالم الكتابة وان بدا هادئا في ظاهره الا انه فوضوي لدرجة الصخب في جوفه ،، تبعا لذلك لم يحرك الكاتب ساكنا ، ولم يرجع ، وبقى متشبثا بعناده و مرتاحا لتمرده ، ذلك التمرد الذي منحه الفراغ وفسحة الهدوء و السفر

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

حــصـــرياً بـمـوقـعـنـــا
| مها عادل العزي : قبل ان تبرد القهوة .

-الخامسة فجرا بتوقيت مكان قصي خلف البحار والمحيطات- اشعر بانهاك شديد.. او انها الحمى تداهمني …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| د. زهير ياسين شليبه : المهاجر .

كان علىَّ اليوم أن أرى فيلم المهاجر! اتصلتْ بي شريكة حياتي، أو “نصفي الأفضل” كما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *