زيد الشهيد : الثمانينات .. المعادل للشيخوخة .. الاقرار بالتدهور

الثمانينات .. المعادل للشيخوخة .. الاقرار بالتدهور

زيد الشهيد
تَظلُ حقبةُ الثمانيناتِ من عُمرِ الانسانِ ميدانَ صِراعٍ من أجلِ البقاء . فيها يَعتري البشريُّ شيءُ من اشهارِ الاستسلام ، وتغدو المَشاعرُ في حالةٍ من التَقهقرِ ، يتراجعُ فيها الشعورُ بضرورةِ الصراعِ واظهارِ الاعتدادِ بالقوّة إلى حالةِ الاعترافِ بأنَّ السنينَ المُتبقيةَ ما هي إلّا عَددٌ يُستهانُ به ، وفاتورةٌ توشكُ على الانتهاءِ بعدما امتلأت سُطورُها ، واحتشدت حُقولُها بطلباتِ الأعوامِ وتلبيةِ الحاجات ، ومُختلس بَغيض يتحينُ الفرصَ كَي يَنقضَّ على فَريسةٍ تهشَّمت لديها وسائلُ الدفاعِ ومُقوّمات تَحقيقِ الانتصار .
حقبةُ الثمانياتِ ما هي إلا شكوى ؛ يَحضرني لذكرِها البيتُ الشعري القديم الذي ردَّدَه الشاعرُ العباسي ابن أبي فَنن :
قالت أنينُكَ طولَ الليلِ يُقلِقُنا // فما الذي تشتكي قلتُ الثمانينا
هيَ الشكوى تتفاقمُ أبجديتُها ، وهيَ الِعللٌ تزدادُ باضطرادٍ ، وهي كذلك تَراجعٌ مغمورٌ بالأنينِ ، مقرونٌ بالرُّعبِ لحظةَ الاستيقاظِ فجأة وقد ظهرَ الحدَسُ بالموتِ ماثلاً … شكوى وعِللٌ وتراجعٌ منظورُه الظَّهرُ يُحدودَبُ ، والعضلاتُ تفقدُ الكَثيرَ من صلابتِها وامتلائِها ، والساقان تتهالكان فلا تقويان على السيرِ . أمّا الحواسُّ الخمس فتفقد ثلاثٌ منها الكثيرَ من اعتدادها . وقد تنعدمُُ أكثر من حاسةٍ في نفس الوقتِ . ففي الاربعينات من العُمرِ تشرعُ حاسةُ النظرِ بالضَّعفِ ” وتلك حالةٌ يشتركُ فيها البشرُ عُموماً ، فيهرعون إلى طَبيبِ العيونِ يشكونَه ضبابيةَ الأشياءِ التي أمامَهم ، وتراجعَ قدرتِهم على القراءةِ والكتابةِ .. ويُعلنُ أحدُهُم عدمَ شمِّ رائحةِ الأشياءِ التي كانت حاسَّته تميزُّها بيسرٍ : الفاغمةُ من الكريهةِ ، مثلما تستطيع تمييزَ الانواعِ المتفاوتةِ من الروائح في نفسِ الوقت ؛ فيما يقول آخر أنَّ سَمعَه وهَنَ وهو على وشكِ الاصابةِ بالصَّمَمِ ، وتلك خصيصةٌ ستجعلُه كالطوطم الماثلِ أمامَ الأعينِ يرى الناسَ لكنّه لا يسمع ما يقولون .
يا لها من علّةٍ تأتي بها الأعوام فترميها كالسهمِ النَّافذِ في قلبِ رغبةِ التَّواصُل في الحياة ؛ ويا لهُ من جَزعٍ يتناسل في الروحِ ويتنامى فتفضحُه القسماتُ والملامحُ الطافحةُ على الوجوه ِ. إذ من المستبعد مشاهدة مَخلوقٍ تجاوز الخمسينَ وانحدرَ إلى الستينَ فالسبعينَ وأدركَ الثمانين يضحكُ أو يبتسمُ من نشوى تسوح في روحِه ، وتتجوَّل في مفارق عقله . فالضحك في هاتيك العقود العمرية ما هو إلا مفردةٌ مُهشَّمةٌ تتساقطُ من الشفتينِ أو تنفلتُ من العينين . أُبصِرُ ذلك في وجوهِ المارَّةِ الذين اشاهدُهم في الاسواقِ والشوارع فأقرأ الأسى وأجمعُ الشرودَ فأترجمُه حُزناً يلفُّ دروبَ أرواحِهم ، وقلَقاً مِن مُختلسٍ يقتربُ ، مثلما أطالعُ اولئك الذين يجلسونَ في المقاهي وينظرون بعيونٍ بلهاء من وراءِ واجهاتِ المقاهي وكأنِّي بهم يرثون أنفسَهم ويتعذبون داخلياً من مَصيرٍ مَحتومٍ يبعدهم وإلى الأبدِ عن كلِّ ما ينظرون اليه فيعتبرونه مباهجَ وهناءات .
تحضرني الحكاية الشهيرة التي تناولها الأدبُ العربي عن الأمير عبد الله بن الطاهر عندما دخل عليه عوفُ بن مُحَلِّم الخزاعي فسلّم عليه الأمير ولم يردَّ السلام ، فكرَّروا عليه ما قاله الأمير ؛ لحظتها ارتجلَ الكلامَ شِعراً :
يا بنَ الذي دانَ لهُ المَشرِقان // طرّاً ودانَ له المغربان
إنَّ الثمانين وبُلِّغتُها // قد أحوَجَت سَمعي إلى ترجُمان
ولم يكن الأمير ليعتب ، ولا يلوم . فهو الرجلُ البليغُ الذي يُحبُّ الشُّعراء .. وهو الذي يُدرك أنَّ بن مُحَلِّم سيعتذر بوحاً بما يجلبه عمرُ الثمانين من تعثراتٍ للإنسان ، وما تصنعه تلك الحقبةُ العَشرية .. يُدرك أنَّ هذا المخلوق البشري كان مَحطَّ اهتمامِ لَواحظٍ كُنَّ يتمنين بيتاً من شِعره يُخلِّدُهنَّ ، وقلوبٍ كانت تهفو لاقترابِه ودنوُّه منهُنَّ.. وكلُّ واحدةٍ تحلم ببيِت شعرٍ يقولُ بها الغزلَ ، ويتغنّى لتثنّيها في الدربِ أو الشكوى من جورِها عليه وايغالِها في تعذيبهِ فتحسب أنَّها أصابته في مَقتلٍ أو جرحته في شكوى لا تنتهي :
جاروا عليَّ ولم يوفوا بعهدِهُمُ // قد كنتُ أحسبهم يوفون إنْ عَهَدوا
وتتكوَّمُ الأعوامُ الثمانون على كاهلِ البشري ثِقلاً وإنْ هو يَحسبه مَدّاً زمنياً قصيراً مرَّ خاطفاً ؛ وتراه يُعلن أنّه لم يَنهلْ مِن نهرِ الحياةِ عُذوبةً ينبغي أن تتواصل بما يكفي … عقود من الأعوامِ تبدو للناظرِ مِمَّن هُم في عمرِ الشبابِ أو الصِّبا كثيرةً . ويجدون في حاملِ الثمانين انتفاءً والحياة .. لكأنَّهم لن يصلوا يوماً إلى مدارجِه ، لن يُدركوا عتباتَه .. يرونَ في الموت مُخلِّصَاً له كي يريحهم (هُم) ويرتاح (هُو) برحيله … شعرَ بهذا الفرزدق ، وترجمَه في عيونِ مَن أكبروا عليه الثمانين مِن الذين حواليه ، اولئكَ الذين بِعمرٍ لمّا يَزَلْ يرفلُ على ايقاعِ الصَّحةِ العارمةِ ، والشبابِ الرافلِ بالعنفوان .
تَمنّوا ليَ الموتَ الذي يَشْعَبُ الفَتْى // وَكلُّ امرئٍ والمَوتُ يلتقيانِ
وإذا كان الفرزدق يخشى الموتَ ، ويرتعبُ من دنوه لأنه ” يَشعَبُ الفتى ” الذي لا يتصور – بحق- رهبة حضوره وهوله التصور الحقيقي فكيف بمن دخل الثمانين ، وصار يلمح خياله المُرعب يترجل متخايلاً من امامه أو يشم رائحته الطاغية في ما حوله !.. والفرزدق في قوله هذا انما يقف على العكس من خورخي لويس بورخس السائر على وقع الثمانين ويشاهد بعينيه الضريرتين الموت يتجول في فضاء دواخله . لذلك قال جملته الشجاعة ، لحظةَ كان مُمَدَّداً في الفراش ومُحاطاً بمن ايقنوا أنَّها اللحظات الأخيرة من حياته : ” هذا أسعد يوم في حياتي .” .. هل كان بورخس شجاعاً حقّاً إذ ردَّدَ هاته الجملةَ منطلقاً من قناعةٍ ويَقين أنَّ لابدَّ من مجيء الموت باعتباره قدراً مُحتَّماً ، شاءَ أم أبى ، قَبِلَ أم رَفَض ؟ ، فعلى مرِّ الأزمنةِ أنشب هذا الزائر البغيض والثقيل مخالبه في أجسادٍ لا تحصى ، ولم يسمع بأحدٍ استثناه الموت فتركه يهنأ بعمر سرمديٍّ لا انتهاء له .
الثمانينات والعاطفة
ولكن هل للثمانين تأثيرٌ على العاطفة ؟ .. هل يعجزُ القلب إذ يعجز الجسد وتبان نحافته وارتعاشه وضموره ؟ .. وبسؤال اكثر تركيزاً : هل يتوازى ضمور العاطفة مع تهالك الجسد ؟ … لا أظن .. فالجسد مهما شاخ وتقهقر ، والصحة مهما تعثرت وتهاوت تبقى النفسُ متحصنةً بالفتوة والشباب ، وتستمر بالشعور الحي بظنّها أنَّ حاملها فتيٌّ ما زال يعيش العاطفة الجياشة ، مُعبِّراً عن الحُب ، وبائحاً بلا وجل ، وإنْ همساً في مسمع من يُحب بأنَّ القلبَ يكتب قصائدَ الشوق ، ويدخل في مسالك الذكرى التي تعيده إلى أيامٍ خلت . فلَه في هذا شهودٌ وأدِلِّة ٌ :
شَيْبُ رأسْي وذلَّتي ونُحولْي // ودُمْوعْي على هَواكِ شُهْودي
هي شهود المتنبّي هذه يقدمهم بلا مواربة ، إذ ما من قضيةٍ يُعتد بدعوى مُدَّعيها إن لم يكن ثمّة شهود تدعم مبرراتها كي تحرز النجاح ويكسب الحكم لصالحه .. وإذا كان لكلِّ قضيةٍ شاهدان فإنَّ المتنبي لا يني يأتي بأربعةِ شهود ” شيبٌ ، وذلة ، ونحول ، ودموع ” ليطمئن قلبُه في كسبها .
الحنين إلى الشباب .. ولكن
ويظل الحنين إلى الماضي صفة ملازمة للبشري .. وتظل الحسرة والتمني بالعودة من نافلة حرق الاوراق التي لا تستعاد اسطرها وموضوعاتها وما تجمع بين المفردات والفراغات .. ويظل المتنبي يؤشر لمن هم يعيشون الحنين تمنياً بالعودة ، فيكبح فيهم تلك الامنية وذلك الحنين حين يرفع لافتة الصراحة وجعل الواقع وقتاً معاشاً تؤوب فيه الروح الراجية إلى ارتضاء بها شاء أم أبى :
وما ماضي الشَّبابِ بمُستَرَدٍّ ولا يومٌ يمرُّ بمُستَعادِ
وتلك ، وإن بدت كما الحكمة ، وإن ترجمت القول الصريح إلا أن الانسان يظل يردد مع ذاته أن الاعوام ركضت وعدت ولهثت ، وأنه لم ينهل منها ما يكفي ، وأن العمر لقصير ، قصير حقَاً . وهذا ما يسمعه احدنا من مخلوق وصل الثمانين أو اكثر حين تسأله عما رأى ، وما شهد .
ثمانينات التدهور بعين أخرى
وإذا كان معظم من يصرح أنَّ الثمانين مثابة لتقهقر العمر سواء جاء التصريح هذا علناً أمام الأشهاد أو اعلان الانسان الثمانيني مع ذاته فإن الأديب الامريكي ” هنري ميلر ” أوضح في مقالة له بعنوان ” ما الذي يحدث حين نبلغ الثمانين ” وبعد أشهر قليلة من دخوله هذا العَقد : ” في الثمانين أعتقد أنني أصبحت شخصاً مَرحاً أكثر مما كنت في العشرين أو الثلاثين. بل ولا أرغبُ في أنْ أعودَ إلى ما قبل العشرين. قد يكون الشبابُ بهيّاً، لكنّه مؤلم أيضاً. ” .. أتراه أراد بكلامه هذا أن يعطي دفعة أمل لمن يشارف على ابواب الثمانين أم هي الحقيقة نطق بها ، معتمداً على الرؤية الفلسفية التي ترى أن الانسان يولد ليعيش ، ثم يموت . وما عليه بناء على هذه الرؤية أن ينهل من الحياة مسراتها وهنائها وما توفره للمخلوقات من فسحةٍ زمنية عليه استغلالها لا أن يبكى ، ويعيش التهالك اليومي فيندب روحه ، ويرثي حاله كما ندبها مالك بن الريب في مرثيته الشهيرة ؟

22شباط/فبراير 2019

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

| زياد كامل السامرائي : عصيان يعدو إلى حتفه.

اتركي لنا كذبة بلون الرجاء يا حياة كذبة لا تدوس على خواطرنا فتجرح الصراط نمشّط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *