إشارات حول المتوالية السردية بوصفها تقانة
د. نادية هناوي
نشرتْ ثقافيةُ المدى الغراءِ في عددها 4350 بتاريخ 15 /1/ 2019، مقالةً بعنوان (بين المتوالية القصصية وسلسلة تودوروف السردية ) للدكتور ثائر العذاري، تتعلق بمقالةٍ سابقةٍ لي كنت قد نشرتُها في الصّفحةِ نفسِها، قبلَ أشهر وتحديدًا في 22/7/2018. وهي في الأصلِ مناقشةٌ مع الكاتبِ جاسم عاصي فيما طرحهُ حولَ موضوعةِ المتواليةِ السّرديةِ.
بدءًا أسجلُ قناعتي بأهمية النقاش والتناظر في موضوعاتٍ تطرحُها الصحفُ والمجلاتُ وحتى الكتب، وما من شك أنّ عوائد ذلك التناظر تعودُ بالنفعِ والفاعليةِ على المعرفة فتغنيها، لكنّ ذلكَ لا يعني الميلَ إلى التساجلِ والردِ الشخصي الذي ينصرفُ عن المسارِ الجوهريّ للموضوعِ المتحاور فيه أو المختلَف عليه، فيقود إلى أمور ثانوية قد تحقق أغراض المتساجل الجانبية. ولهذا أحصر ميدانَ الردِ في ما يتعلق بجوهر الموضوع وهو المتوالية في شكل إشاراتٍ، مستبعدة التساجل غير المعرفي.
الإشارة الأولى أنّ الكلام اشتبكَ بين مقالتين، ذُكرتْ إحداهما تاريخًا وعنوانًا، وتم التغاضي عن ذكر المقالة الثانية عنوانًا وتاريخًا ومكانَ نشرٍ، علمًا أنّ جُلّ التناول كان مخصوصًا على المقالة الثانية التي نُشرتْ في جريدة الصباح قبلَ أسابيعَ، وفيها وصفتُ العملَ الذهنيّ المحضّ مجازيّا بالجناية والمغالطة، مرتجية من وراء هذا التوصيف الإثارة والتّحفيز، ومبتغية التعبيرَ عن فداحةَ خلطِ التجنيسِ بالتقنينِ، وضخامةِ التجاوز وخطورته التي تجعل الآخرين يتبنون أمرًا هو أصلًا ملتبسٌ علميًا عند صاحب التبني نفسه.
وبالرغم من عدة مقالات سابقة حول المتوالية؛ فإن الزميل صاحب المقالة لم يفطنْ إلا لهذه المقالة، ربما لأن الأمر صار يعنيه شخصيًا ويتعلق بعمله الوظيفي الجامعيّ، ولولا ذلك لما انبرى لنقاشها، ولا أهتم بها أصلًا. وحسنًا فعل فهو بذلك يجدد الفرصة لإنارة الموضوع والمثاقفة حوله.
الإشارة الثانية أنَّ الاختلافَ العلميَّ سمةٌ صحيةٌ من سمات حياتنا العاجّة بالمتغيراتِ، وليستْ البغيةُ من وراءِ الاختلافِ منفعةً ذاتيةً، وإنما هو الاستشعارُ العلمي والإدراك الحقيقي الذي يُحفِز المختلِفَ على الإدلاءِ بما يراه يهمُّ الوجودَ العلمي والعملي للشيءِ المختلَف عليه.
أمّا مقابلةُ الاختلافِ بالمعاندةِ والتمسك بالتعارض فإنهما يجافيان الحقيقةَ العلميةَ، ويتموقعان في الذاتيةِ، استماتةً في إثباتِ الوهمِ عنوةً، وليس الاقتناعُ من أجلِ الحقيقةِ المحضة. وهذا ما يسميه بورديو( الوهم ) الذي يفضي إلى تضبيب الرؤيةِ النقديةِ والتداجي عن إثبات الحقيقة. والمفارقةُ الناجمةُ عن ذلك تأجيلُ المعنى بين هويتين، يقول بول دي مان: ( إننا لا نستطيع فهمَ إلا ما هو معروفٌ لدينا وإنْ كان ذلك بأسلوب منقطعٍ غيرِ حقيقي، لا يمكن تسميته باللاوعي ) ولكي نبقى في منأى عن تضبيب الرؤية، علينا أنْ نطردَ الواهمية مع الحذر من الوقوعِ في الجهلِ تجنبًا للبسِ والخطلِ، وابتعادًا عن سرعةِ الالتقاط والترويج، مدركين أنّ أيةَ معلومةٍ تظلُّ موضعَ تشكيكٍ إلى أنْ يتمَ إثباتُ صحتِها.
ومما يوقع في التضبيب أيضا المغامرةُ غيرُ محسوبةِ النتائجِ، بقصد السبقِ، من دون القدرة على فرز الجيد من الكتب والترجمات. ومعلوم أنّ المترجمين يتفاوتون في إلمامهم بلغة النص الأصل، ومن ثم تشيعُ فوضى المصطلحات وضعًا وترجمةً، وهذا ليس بالجديد ولا العائق الذي لا يمكن تجاوزه بل العكس فقد سارت المعارف في طريق الانجاز والسيرورة على الرغم من اقرار الكل بوجودها. وحقيقة الأمر أني لم أركن إلى ترجمة الباحث سعيد الغانمي؛ بل عدت الى المراجع الانجليزية ذاتها فلم أجد فيها مصطلح المتوالية القصصية بل وجدت مصطلحي الدورة والحلقة.
الإشارة الثالثة أنَّ للتمحلِ النقدي دوراً خطيراً في الانزلاقِ نحو الخطلِ، تارةً حين يتم الادعاء في المقال بالأسبقية او حين يزعم شمولية الإطلاع على ما كُتب عنها في لغتها الأصل أو حين يصرُّ على توصيفها بأنها جنسٌ أدبي مفروغٌ منه من دون أنْ يطلعنا على دلائل هذا الفروغ ؟ ومن أين استقى تموسوعاته فيه ؟
علمًا أنَّ الباحثينَ الغربيين أنفسهم واقعون في حيرة. وقد حاولت جينفر سمث إثبات دورة القصة القصيرة(short story cycle ) وليس المتوالية(narrative sequence )، فدرستْ تاريخ( دورة القصة القصيرة) معبرة عن المخاوف المرافقة لكتابة هذا النوع من القص من ناحية علاقتها بالنص أو علاقتها بالقارئ، معللة كتابتها تعليلا ثقافيًا، فالوحدة التي يفتقدها المجتمع الامريكي هي الوحدة التي تبحث عنها دورة القصة القصيرة نفسها، من قبيل ما يعتري العلاقات الاسرية والمجتمعية من التفكك. وتكشف الدورة أيضا عن الحنين الى الماضي الذي به تتم الاستعادة للمكان والتصحيح للحاضر، ولقد قاربت جينفر بين دورة القصة القصيرة والمدن الصغيرة ذات الطابع الفقري. فكيف بعد ذلك كله، يستقيم الإدعاءأن كتاب جينفر سمث( دورة القصة القصيرة الامريكية 2018) ( أول كتاب أثبت كون المتوالية جنسًا أدبيُا ) ؟!!
الإشارة الرابعة أن ليس من الدقة عدم الإشارة إلى مقالات كنتُ قد ناقشتُ فيها كتّابًا على دراية بأمر المتوالية، وفي مقدمتهم الاستاذ جاسم عاصي الذي كان من السبّاقين في طرح المصطلح منذ عام 1996. وكذلك ليس من الموضوعية الزعم أني اختلط عليَّ أمر المتوالية القصصية والسردية. ولا وجود للاختلاط والالتباس اذ ليس هناك شيئان ليحصل اللبس بينهما؛ بل الامر واحد بوصف المتوالية تقانةً وليست جنسًا له كيان محدد؛ إلا بزعم المقالة التي حتى لو سايرناها جدلًا فينبغي عليها أن تثبته في مدار البحث المتخصص في النظرية الاجناسية ثم لها أن تحدد ما شاءت اللبس معه. ناهيك عن كون مفردة( المتوالية ) في اللغة الانجليزية واحدة، سواء أُضيفت إليها صفة السردية أو أضيفت إليها القصصية لإنها تبقىthe narrative sequence . ويفترق هذا التركيب المتشكل من الموصوف وصفته عن تراكيب أخر قريبة أو مرادفة لكنها لا تعمل عمله من قبيل successive stories أو successive anecdotalأو stories sequence، والامر نفسه يقال حين نستعمل التركيبة الاسنادية (متوالية القصة القصيرة) Short story sequence أو (القصة القصيرة الحلقة ) short story episode التي هي غير تركيبة( دورة القصة القصيرة) short story cycle أو القصص المجموعة Stories Collection أو مجموعة القصص Collection of Stories أو مجموعة سردية Narrative groups أو تشكيلات القصة Story Formations أو تشكيلات سردية Narrative Formations..
الإشارة الخامسة أنَّ الخلطَ في التقانات والمناهج أمرٌ يضبب رؤيةِ الصورة على حقيقتها، والمتوالية ليست منهجية سيميائية؛ بل هي اشتغال نصي لا علاقة لهُ من قريب ولا بعيد بسيمياء روبرت شولز الذي ما عرّجَ على نصّيةِ توردوروف؛ إلا ليثبتَ نجاعةِ منهجهِ السيميائي في الغور في المجازات والمستويات البلاغية بحثًا عن رموز الأفعال والصفاتِ ووظائفية الشفرات الثقافية والايحائية والتأويلية والرمزية. وهذه النصّية المعرَج عليها (على قلتها ) هي التي استوقفتنا فدعمنا بها رأينا أن المتوالية تقانة مكانها النص، وأنها ليست جنسًا أدبيًا. والطرح الأهم لتودورف كان في كتابه( مفاهيم سردية) الذي فيه أكدَّ أنَّ كلَّ انتاجٍ لسانيّ هو متواليةٌ من الجملِ المحددةِ التي يمكن أنْ تقالَ أو تنقل بكتاباتٍ مختلفة أو مرقونةٍ في جملٍ يضطلع بها متحدثٌ خاصٌ في ظروف زمانيةٍ ومكانيةٍ محددةٍ. وقد علل ميشل بوتور هذا التوالي اللساني في الترتيب الذي تقدم به المواد؛ في أنه ليس الترتيبَ الوحيدَ الممكن، وأنَّ في داخل البناء الروائي طرقًا مختلفة للقراءة، مؤكدًا أنّ الكلماتِ والعباراتِ جميعها نصٌ متتابعٌ، وأننا عندما نريدُ أنْ نعيدَ التأثيرَ الذي أحدثهُ إعلانٌ ما أو كتابة ما رآها البطلُ فجأة، فنحيطُ هذا المقطع بإطار له قيمة( بحوث في الرواية الجديدة، ص106 و 128ـ129)
الإشارة السادسة أن الأصلَ في الأدبِ أن يكونَ حرًا، ولهذا لا تفرضُ عليه إراداتُ النّقاد، لأن النقدَ لا يصنعُ الأدب وإنما النقد يستقرئ الأدب. وليس كل تغيير تنويعي يطرأ على مستوى البنية الهيكلية لجنس أدبي ما، يسمح لنا أنْ نعدَّ هذا المتغيَر جنسًا مستقلًا.
وإذا كانتْ ليندا هتيشون قد حذرتْ من التورطِ في الحدودِ الفاصلةِ بين الأنواعِ الأدبيةِ، فإن السّارد العراقي كان حذرًا كل الحذر من الانزلاقِ في اللاموضوعية، متحاشيًا السّير في منعرجاتٍ يجهلها. وحري بالناقد العراقي أن يكونَ كذلكَ أيضا فلا يدعي السبقَ لنفسهِ، مع أنَّ غيرهُ سابقٌ عليهِ في تناول(المتوالية السردية)
والأستاذ جاسم عاصي هو أول منْ نشرَ في بداية التسعينيات من القرن الماضي تنظيرًا لمفهومٍ صاغهُ من وحي المتوالية العددية أو الحسابية وسماه( المتوالية السردية)، وقد أتبعَ هذا التنظيرَ بعد سنواتٍ بتطبيقٍ إجرائي للمفهوم تمثلَ في كتابتهِ لقصتين على سبيل المتوالية السردية هما ( الشروع واليقظة) وقد ذيَّل القصة الاخيرة بهامش هو بمثابة ريادة تنظيرية وسبق نقدي، إذ قال :( هذه القصة الثانية من متوالية قصصية بعنوان مستعمرة المياه نشرتُ الأولى بعنوان الشروع في مجلة الأقلام العدد السابع في 1996 حيث تشكل كل قصة وحدة مستقلة، لكنها ذات صلة بالمعنى المركزي للمتوالية) سابقًا بذلك المصريين، عارفًا أنها تقانةٌ وليست اجناسية.
وقد عمدَ بعض القصاصين ـ تذليلًا لصعوبات النشر في الدوريات ـ إلى تقسيم رواياتهم إلى أجزاءٍ، واضعينَ لكلِ جزء عنوانًا ناشرين الاجزاء في شكل نصوص في مجلات أدبية متنوعة، بيد أن ذلك التقسيم لم يحل دون أن تكون اجناسية تلك المنشورات ( رواية) كما في رواية (حكايات دومة الجندل ) للروائي جهاد مجيد والصادرة عام 2001 بطبعة محدودة، ثم نشرتها دار الشؤون الثقافية العامة عام 2004، ونجد في هذه الطبعة إشارات صدَّر بها الكاتب روايته تؤكد ما كنا قد قدمناه.
والروائي جهاد مجيد جرّب إجرائيًا كتابة المتوالية السردية عام 1988 في ثلاثيته( الذكرى المئوية وذكرى القرون وخطاب القرون) التي أشار في العام نفسه إلى أنها قصص مترابطة مع بعضها بعضًا بمشتركات عدة لكن كل واحدة منها تمتلك الاستقلالية عن سابقتها ولاحقتها، لتكون كل واحدة قصة قصيرة قائمة بنفسها، والأمر نفسه يُقال مع( بصرياثا) للقاص الأستاذ محمد خضير، فهي تمتلك هذه الصفات الفنية حيث تلتقي نصوصها في مكان واحد هو البؤرة في سردها؛ مدينة متخيلة أو رامزة إلى مدينة واقعية هي البصرة، ومن الممكن ذكر أمثلة أخرى .
وهذا كله يدلل على أن للسّارد العراقي فهمًا واعيًا بأنَّ المتواليةَ ــ والتسمية للأستاذ جاسم عاصي ــ ضربٌ من التجريبِ التقاني. وإذا أضفنا إلى ما تقدمَ تجريبَ الروائيينَ العرب الكتابةَ السّردية في شكلِ ثلاثياتٍ ورباعياتٍ روائية، كرباعية فتحي غانم ورباعية محمد ديب وثلاثية رضوى عاشور وغيرها، فهل سنقول أنَّ هذا جنسٌ جديدٌ هو( المتوالية الروائية) ؟!!
وقد دَرَسَ الدكتور علي إبراهيم عينةً من المتواليات السردية العراقية، شبيهةً بعّينات الدكتور العذاري، ثم أصدرها بعد ذلك في كتاب، وأطلق عليها( قصص الرواية ) وقرّر هو الآخر أنها جنس أدبي جديد.
نشر المقال في جريدة المدى يوم 4 شباط 2019
د. نادية هناوي : إشارات حول المتوالية السردية بوصفها تقانة (ملف المتوالية السردية/9)
تعليقات الفيسبوك