إشارة :
سلمان داود محمّد – وببساطة شديدة جدا ولكن معقّدة – هو “عاهة إبليس” في المشهد الشعري الراهن ؛ العراقي – وحتى العربي لو هيّأ له الأخوة النقّاد “الأعدقاء” فرص الانتشار. وكمحاولة في إشاعة فهم بصمة روحه الشعرية المُميزة الفذّة التي طبعها على خارطة الشعر ، ارتأت أسرة موقع الناقد العراقي الاحتفاء به عبر هذا الملف الذي تدعو الأحبة الكتاب والقرّاء إلى إغنائه بالدراسات والمقالات والصور والوثائق.. تحية لسلمان داود محمد.
” ازدهارات المفعول به ” للشاعر سلمان داود محمد
ماراثونات اللحاق بخفة الكائن الشعري
جبار النجدي
تفترض قصيدة الشاعر سلمان داود محمد, أن يسارع الشاعر لوضع احتمال لما يؤكده على الدوام, متعدياً تحولات اللحظة التي يكتب فيها, والتي تصبح حالما تقع بعيدة عنه ولابد من مغادرتها, وهو إذ يسعى لتدارك ذلك, يلجأ لمجاراتها إن لم يستطع تحطيم سرعتها, وبذا يكون الإشتغال الشعري بمناخاته هذه هو الأصلح لإنجاز شئ من( سيرورة): القصيدة بما يجعلها عصية على التقليد, انه عصيان يتجلى في رفضها لنفسها ولشاعرها, بوصفها الكيان الذي يتحرك ويصلح مثالاً لخفة الكائن الشعري, فلا موقع في قصيدة النثر لمن يكن راصداً أو مرصوداً, تلك بعض من الشفرات الخفية لقصيدة النثر, التي تراهن على الكتابة والحذف في آن, ولذلك نراها على غير صورتها باستمرار, إنها قصيدة بلا ذاكرة, يكتبها من له قصب السبق في نسيانها, وتلك هي فضيلتها المعبرة عن اشتراطات الكائن الشعري المتفوق بخفته, وهي بصفاتها تلك قصيدة غير قابلة للإعارة, ابتداءً من إيقاعاتها وانتهاءً بمعانيها ودلالاتها, التي لاتسمح للمتلقي أن يضئ بقراءاته سوى جزء يسير منها0 ومن هنا يتسنى لنا فحص اشتغالات الشاعر سلمان داود محمد في مجموعته (ازدهارات المفعول به) 0 باعتباره شاعراً بلا عادات كتابية, فالراسخ لديه هو المتغير أبداً, والذي ربما ينفي الكثير مما كتبه وتبناه في مجاميعه الشعرية السابقة, فهو لا يقصر الإزاحة في هذه المجموعة على البعد اللغوي فحسب, وانما يتجاوزه لتركيبة العنوانات ومستهلات النصوص ودرجة الخفة في توالي المقاطع والأبيات الشعرية, وما يتبدى لنا في خاتمة كل قصيدة, أن الأمر يتعلق بمفارقة الشاعر لما ينتجه واظهار كراهيته له حال انتاجه, ولعل مايميز هذه الكراهية, انها لا تتم عن ضغينة, بقدر ما تكشف عن تعارض دائم ينتج عنه تحول ذات الشاعر الى ذوات أخرى, في محاولة لإبدال عادات الحفظ بمساحات البياض تمهيداً لكتابة أخرى:
” خشية أن تشقى
اكرهْ نفسك جيداً
واقتــرح الله …”
إن من بين مزايا الشاعر سلمان داود محمد قدرته على تهريب حراكه الشعري عبر ما يكتبه من سطور, تأكيداً لطبيعة قصيدته التي تنكر الثبات والترعرع في احضان شاعرها, لذا يكون المعنى غير المنجز قادراً على تأمين اشتغال متواصل لاكتمالها الناقص, الذي يعزز اعتقادنا بأن قصيدته لا مالك لها, كونها نتاج ذوات متعددة ومتحولة عن ذات الشاعر وراهنيته, مقصدها أن تتقلب ولا تحتمل أي مكوث, وان نطقت بمعنى فأنها تشير الى معنى آخر, ولاعيب لو أعلنت قصيدته استسلامها لقابلية أن تُحل وتندثر أملاً في أن تنهض من جديد, فكل الأشياء تذوي مهما صلب عودها, فلا محل للوهم طالما أن الشعر تصنعه مستجدات الحياة وتقنات الحضارة, سواء أكان المنجز العلمي الذي من شأنه أن يضع العالم بأسره تحت طائلة الدمار, حينما يقع بين أيدٍ تقلب المعايير وتتصرف بأشدها همجية أو حينما يحدث عكس ذلك بتحويل هذا المنجز الى ثقافة تكتنز بممكنات السلوك الراقي للإنسان, مع التأكيد بأن تجريد الشعر من أساسه الصناعي يجعله لا يقوى الا أن يكون منفصلاً وهامشياً ونافياً لطبيعته بوصفه انتاجاً, وبالتالي لا يروق لمتلقيه عندما يصبح غير مستجيب لحاجاتهم المتسارعة, في الوقت الذي تضع محددات قصور النظرة الى الشعر في متناول نخبة من المتلقين القلائل, يضاف الى ذلك صعوبة إثارة مشاعر لا منتمية لعصرهم, فالشعر الآن لم يعد مستلماً وسهل التلقين, فكلما عجزت آليات كتابة الشعر عن استيعاب مفاهيم العصر وتقنياته شكلت قصوراً هو الأكثر اثارة لحفيظته وبرزت امكانية الإستعاضة عنه بوسائل اتصال تحسن مجاراة منجزات عصرها, طالما ظل الشعر يخلق عالماً شعرياً على صورة غير صورة عالمنا الراهن, ان اخضاع الشعر لوجدانية النفس وجعله ملحقاً بها يشكل عائقاً في امكانية تساوقه مع مستجدات عالمنا اليوم ويضع حاجزاً بين انتاجنا الشعري واحتمالية انتشاره عالمياً, الأمر الذي يتطلب تفكيكاً لمركزية الشعر الماثلة في قاع ( العاطفة والوجدان ) اللذان يصنعان سلاحاً للشعر يُسّهل الإنتحار به, وبوجه عام فان نصوصه انتزعت ارادتها من مالكيها, وتمكنت من جعل ملكيتها رهن ( صيرورتها ) المتمثلة في انجاز ما لاينجز, محطمة بذلك صلات الشعر برجحان السائد والمذعن للثبات, ولم يكن التأسيس الأول لنشأتها سوى شئ لايتأسس فقواعد البناء والتأسيس المتين هما في حقيقة الأمر يمثلان إيذانا بالهدم المستمر, كاشفة عن مبلغ الإختلال في ثوابت الشعر التي حولته الى مجرد قيمة لتبادل الأنماط التي ما أن تظهر حتى تزول, وانطلاقاً من ذلك تطرح مجموعة (ازدهارات المفعول به) للشاعر سلمان داود محمد اشتغالاً مغايراً يعتمد معقولية اللامعقول في الإزاحة اللغوية والمعنى في آن, والكشف عن الصلات الخفية بين مفهومين متضادين عبر اشتغالات لا تجنح الى الإفتراض, بقدر ما ترشح عن معطيات الفوضى المعيشة, التي استعاض عنها بفوضى الموائمات الشعرية التي تبعد الشعر عن محفزات الإبهار الجمالي الناجم عن قرائن متماثلة فاقدة لقيمة الفعل الشعري وحراكه المتتابع الذي من شأنه أن يمزق بمحرضاته الحجاب المسدل بين الشعر والمتلقي:
” نعم …
يوجد صقر يترسّخ في الرايات
ويهز الكتفين خلال الريح ..
…
يوجد – لاشئ – يبني أعشاشاً لسراب …
صار البهتان يبيض أساقفةً
ليس سواك اذن ما يمكث
فأربط بحبال الشك سماواتك
واسترق السمعة من – حرف الجر- ”
إذن نحن بإزاء نشاط شعري مختلف, يتشكل بوساطة نصوص, وبكيفية تجعل انقطاعاتها تمثل نظام تواصل, ومن بين متاهاتها إنها لاتسلك طريقاً بعينه, بل تهيم في لذة الرغبة الدائمة للوصول إلى شارة النهاية, التي لايصلها أحد, والتي لا يسفر الإعتقاد بوجودها عن أي فوز, إنها رسالة تصل إلى المرسل اليه بشفرات ناقصة, ومع ذلك يقرأها المتلقي بلذة المكتشف, محاولاً استحضار كلماتها التي لم تحضر, تحت تأثير متعة البحث عن جانبها المفقود وسطورها الغارقة في الظلام, إنها تعمل على إلتقاط النقصان في سبيل الوصول الى الإتمام الذي لا تصل إليه أبداً, بوصفها طقساً لمراسيم تنتهي قبل أن تبدأ:
” خشيتُ على خزائن المحنة من توبة اللصوص
كرهت نضارة الهدنة وهواة العزف
على المرارات بداء السكر
وجدتُ في حفظ البلد عن ظهر قلب
طريقة مثلى للإقلاع عن المباهج … “
توّلد قصائد الشاعر سلمان داود محمد شعوراً بأن الشعر هو رحلة شاقة وطويلة بقصرها, كونها تشتغل بنسقين وهما النسق الذي لا يكتفي بذاته فحسب ومن ثم يقابله النسق الذي يشتغل في مساحات ( المحيط الضمني ) وعلى هذا النحو فإنها تجمع بين الإنشغال والإشتغال, وهو شكل تركيبي بمعناه الجامع للإتصال والإنفصال, مما يدل على أن هناك سلوكين للنص في المجموعة حركة داخل الشعر وحركة أخرى تتجاوزه, فالقصيدة لا تعمل على استنطاق ما تضمره النفس فحسب, وإنما هي قابلة للظهور في أفق آخر يتمثل فيما يظهره الشعر من أثر في نسق مجاور, بمعنى أن إختفاء الذات الشعرية تشتغل بفاعلية الظهور فيما يجاورها من أنساق في ( المحيط الضمني ) لدرجة أن الشعر في هذه الحالة يبدو وكأنه يأتينا من الآخر لا من يكتبه, وبموجب ذلك يجري عرض الشعر بخاصية تتجاوز عادات العرض الشعري على الورقة, إن الشعر هنا يصطحب الشاعر ليشكل له مظهراً خارج ذاته وتبعاً لنتاج الفعل الشعري المتحول وغير الكامن في النص حسب, مما يسفر عن تفاعله مع المحيط الضمني الذي يدفع باتجاه ابتكار الذات الشعرية لحراكه, والذي يجعلها تنتقل وتهاجر مثل كائن لا يقصر الأمر على انعاش ذاته, بل انه يتوق لإنعاش لافت لما يجاوره . إن الحراك الذي يدفع بالشعر خارج نفسه, يأخذنا الى أغرب انساق المظاهر الشعبية وبطرق مثيرة للغاية, وقادرة على أن تنجب شعراً, وبما أن الشاعر يصطحب الشعر ولا يكتبه, فانه يأخذنا في رحلة حافلة بأسطرة الواقع لا توفر وقتاً لأي إطمئنان الى تلك الحياة الأكثر عرضة للخطر والتمزق والمجاعات الجماعية والفضاءات المكانية الثرية بتداعيات المرارة, المثقلة بالتشوهات والعلل الجسمانية التي خلفتها الحروب . إن الشاعر في جانب من اشتغالاته وبموجب ما أسلفنا يشتغل على فكرة الإحتكاك المأساوي لذات الفرد المسحوقة والمشتبكة مع ذات الجماعة كما يتجسد ذلك في عنوانه ( ماراثون انفرادي ) إن كلمة ( أكرر) التي يوردها في مستهل القصيدة تشعرنا بكلام مفقود ( مسكوت عنه ) سيتم تكراره تأكيداً لعملية الحذف التي تضعه في البداية لا النهاية:
” أكـــــــــرر ..
لقــد ذهــب الجميع إلى وظائفهم
الألغام نحـو المطبخ تهئ عصيدة الخطى
والأبناء لزراعة المدى بالعكازات
كذلك الأم وهي تتبضع الغرقى فـــي ( شارع النهر )
تركت الصحون المنكفئة تضئ بمؤخرتها صورتي
وأنا أجفف الشظايا على حبل الوريد …
الحياة يهودية والمنقذ يعمل عتالاً في متحف الشمع …
…………………..
…………………..
ما زالت كبراهن تشتهي عداءً وتكنس العائق بالنحيب:-
– أديتُ كل البحار
فأين الغريق الذي خصصته إليّ …
………………………………
جعلوني أخفي الضياء تحت وسادتي
كي أحلم دوماً بسماوات تنقذ التصفيق من البطالة
لهم آلهة تقضي قيلولتها في باص
ومجنونات يستدرجن الشفاء من سورة البقرة
لهم أغنية تقلل من شأن الكلفة حين يتعلق الأمر بالضحايا .. ”
لايسعف الشعر سوى ارتكاب الأخطاء, فحينما يصبح الشعر نمطاً سائداً فان الخطأ يدل بوضوح على الصح في انكاره للمألوف, وبالتالي يمكن بهذا السائد المتسلط الإنصراف الى الإهمال وفضائح ( الخزي الأكبر ) , إن الشعر يكون شعراً حيمنا يكون برفقة الأخطاء التي بإمكانها أن تذهب به بعيداً بدل المراوحة واللبوث, انه الإشتغال على أفضلية المتغير بديلاً للثبات , وبذا يكون مشروع الشاعر سلمان داود محمد الشعري , مشروعاً لتعارضات جدلية لا تكف عن الإشتغال, تماماً مثلما تقوم به الآله من محو لطبيعة شئ وتخليقه الى شئ آخر, مما يدل على أن تنحية الأشياء الإضافية يتطلب موهبة إضافية أيضاً0 لذا نرى تجربة الشاعر لاتتكلم بلسان المتيقن العليم , وذلك يرجع الى أن الشاعر لايضع أدنى فكرة للقارئ عن أشياء تحقق تكاملها في ظل ارهاصات التشظي وأجوائها البعيدة عن أجواء الألفة, ولذلك لا يمكننا اكتشاف المكان الذي يقف عليه الشاعر, فهو في سفر من الإكتشاف اللامنقطع, كل ذلك يتحقق بفارق واحد فحسب , وهو التمرد على الذات المالكة للشعر, وقلب نسقها القولي الى فعلي سعياً لإحداث تفاعل محيطي يقوم على ابتكار الذات الشعرية لحراكها الذي يدفع الى اتساع ضفاف النص أملاً في بلوغ ( المحيط الضمني ) لوجوده في سياق الذات الشعرية المفتوحة على غيرها والحاضنة لألاعيب الإشتغال الشعري المتوترة بين حافتين حادتين من دون أن يسقط حق الشعر في كونه شعراً وقحاً:
” من فجر الحارات حتى آخر نبض في الإشارات الضوئية
تعلمتُ كيف يمدّون الأطفال كأسلاك موصلة للنشويات
أحببتُ كعادتي وقاحة الأمل
حين يسترق التجاعيد من اليائسين
بتمرير المكواة على المرايا
وصفقتُ كثيراً لمن باع المراوح كي لا تطير السقوف
………………………………………….
هكذا:- أخوض في عفن الأبواب وأطرقُ ” ما ”
فترد العرصات كعادتها ” كو ”
” ما كو ” أي لا ” لايوجد ” ما يصلح للهضم
كي تحتاج الى دورات مياه
أو ” ما كو ” مياه في قائمة الماء ولا جيوب في كفن الضوء
كذلك ” ما كو ” حليمات في السوق
وأيضاً ” ما كو ” غيابات في تارخ الركلة
ولا كره في ” حي العكازات ”
لذلك ” ماكو ” قطارات تصل
غير حصان يبحث في ظهري عن سوط … ”
وبما أن هذه الإشتغالات بمثابة انتقال وحركة فان الشعر سيضع نفسه في تواصل مع غيره من الأنساق التي بامكانها تمريره من لغة شعرية لأخرى, والعمل على اقامة ( تفضية ) استدعاء فضاء آخر للشعر يحتوي على الأدوات المختبرية للإشتغال لإنتاج الأبنية الشعرية في شكلها المحرض لا الباعثة على الرتابة والنسيان مما يشكل تجاوزاً للتوبيخ الذي يتلقاه الشعر رداً لما يحمله من رتابة, واستثارة المعنى والدلالات التي لا تحضر حتى بحضورها, :
” – ماحال الأم هناك ؟
إلامَ تربي النسر في صورة الزعيم وتنذر للتاج دجاجاتها ؟
أما حان لها أن تكشف عن صدرها في الغروب
فعسى … أو ربما تستدرج السماء ؟ ”
ونخلص من اشتغالات الشاعر سلمان داود محمد في مجموعته ( ازدهارات المفعول به ) الى أن نصوصه لم تولد من العدم , انها جزيرة صغيرة , كبرت لأنها ولدت في بحر هائج نالت منه العواصف وطبعته الطبيعة بطبائع اللا استقرار والعنف والتغيير.