الدكتور زهير ياسين شليبه : البحث عن الجذور في رواية الروايات “موسم صيد الزنجور” للروائي المغربي اسماعيل غزالي

البحث عن الجذور في رواية الروايات “موسم صيد الزنجور” للروائي المغربي اسماعيل غزالي

حصل لي الشرف أن أطلع على كتابات الروائي المغربي اسماعيل غزالي عندما كنت اشرف على موقع القصة العراقية مع صديقي الراحل الأستاذ عدنان المبارك رحمة الله عليه، الذي إتفقنا أنا وإياه قبل عقدين من الزمن، أن نقرأ النصوص بدون الإطلاع على أسماء مؤلفيها فوجدنا أن قصصه جنبا إلى جنب زميله العراقي حسن بلاسم من النصوص الجيدة .
قرأتُ كتابات هذا الروائي فوجدت فيه كاتبا منتجاً جاداً مطلعا على التنظيرات الجديدة في النقد وبالذات على أشكال الرواية الجديدة، ولا أشك بمعرفته بالكتابة الميتاسردية التي أثرت عليه عند إشتغاله على “موسم صيد الزنجور” كما سنرى.
ولا بد لي من الإشارة هنا إلى أنه فاز بجائزة الطيب صالح وإصداره العديد من النتاجات، وقدرته في الكتابة السريعة عن تجارب لم يمضِ عليها وقت طويل، مثل قصصه القصيرة عن سفره للدنمرك حيث حضر بمناسبة دعوة وجهتها له جمعية أصدقاء من كل العالم وتأليفه كتابه “أربعون طائراً أبيضَ من الدنمرك في قبعة ساحر”. وقد أظهر كل هذه القدرات في أمسيتين دافئتين ضمت مجموعة من الأصدقاء العرب والدنمركيين وكانت الصديقة الدكتورة آلما راسموسين المتخصصة بالأدبين الفرنسي والدنمركي من المعجبين به وتتذكر تفاصيل الأمسية حتى اللحظة رغم مرورعدة سنين عليها، ولم ينقطع الكاتب منذ ذلك الحين حتى وقتنا الحاضر من البحث عن الوسائل التجديدية.
وقبل أن أدخل في تفاصيل الرواية أحب أن أشير إلى أن الروائي إسماعيل غزالي يتميز بمعرفة عميقة ببيئته فنقرأ “بشوك الخزيز والخمان والرفف والدوم… بالحلفاء والعبهر والسرمق… السوجر….والديلم والسمسق” ص 347-346 … والجيثعور والعبق 357 (اسماعيل غزالي. موسم صيد الزنجور. 2012)
عضاية من نوع الورليات 348 شجر العباقية الشائك 459 ببقول السلجم ونبات الكولان 365 عضاية منزلية من صنف الوزعة 314، عظاءة الحُكاءة 413
طيور الشقراق 240 صغير المقراج 310 شجرة االبشام … نبات القتاد 323 الجثجاث والجذال والحبلاب… الحومان والخابور والبهرمان… البيلسان والبشام والخروع…”337 والعنصّل 340 الصوفان الأبهقان والبامول 351 شجر العبرب والعاقول والقرانيا377
بنية الرواية:
لا أريد في هذا المقال المكرس لرواية “موسم صيد الزنجور” للروائي غزالي أن أسهب في المجال النظري لكني أريد أن استشهد برأي الأستاذ فاضل ثامر عن الميتا سرد مع تفهمي لملاحظات الدكتور حسن سرحان (أنظر: د. حسن سرحان. مراجعة لكتاب “المبنى الميتاسردي في الرواية” للأستاذ فاضل ثامر. موقع الناقد العراقي)، فليس كل رواية فيها خطاطة ميتاسرداً، كما انه ليس كل عمل فيه إقتباس من نتاج آخر تناصاً، ولا كل إختلاف بسيط في الشخصيات بوليفونيا، لكني مع ذلك أراه ينطبق نسبياً على الرواية التي انا بصددها:
” الميتاسرد، في الجوهر، هو وعي ذاتي مقصود بالكتابة القصصية والروائية يتمثل أحياناً في الاشتغال على انجاز عمل كتابي او البحث عن مخطوطة او مذكرات مفقودة وغالباً ما يكشف فيها الراوي او البطل عن انشغالات فنية بشروط الكتابة مثل انهماك الراوي بتلمس طبيعة الكتابة الروائية… والاشتغال على كتابة رواية داخل الرواية أو نشر مخطوطة موازية أو الاعتماد على مدوّنات وخطاطات كتابية أو شفاهية من خلال توظيف ضمير المتكلّم الأوتوبيوغرافي غالباً لصياغة خطاب سردي ما بعد حداثي ” (فاضل ثامر. المبنى الميتاسردي في الرواية. در المدى، ص8″.
والرواية الإطارية أو رواية العُلَب حيث تتكون من عدة قصص طويلة متداخلة ضمن إطار واحد، أو كل قصة في علبة داخل التي أكبر منها كما هو الحال في الماتريوشكا الروسية هي ليست نفسها الميتاسردية، إذ إن للأخيرة مقومات خاصة بها أهمها الوعي التخييلي والتقصد في خطاطات متنوعة كما هو الحال في “موسم صيد الزنجور” وليس اي قصص متداخلة.
تقوم بنية هذه الرواية على موضوعة البحث عن الجذور أو الناستولجيا، وما تتطلبه من إنتقالات هرونوتوبية، حيث يبحث عدة أبطال عن أهدافهم في بحيرة أكلمام أزكزا الواقعة عند جبال الأطلس الأمازيغية، البطل الرئيس شاب عازف ساكسوفون فرنسي من مدينة رانس باحث في الرياضيات لكنه هنا يبحث عن أصول والدته الأمازيغية المغربية التي فقدها عند ولادته ولا يعرف عنها شيئا ولم يخبره والده الفرنسي قبل وفاته أي شيء عن سرها، فيسافر لهذا الغرض إلى البحيرة، ومن المفروض أن يلتقي بصديقة مغربية دعته لصيد سمك الزنجور فيها، لاسيما أنه ولعَ بالصيد بتأثير من بطل مخطوطة “البيانو بيت الزنجور الأثير” التي سلمتها له صديقته الأخرى الفرنسية، على أن يحرقها بعد القراءة، كما إشترطت عليه قبل إنتحارها في رسالتها له التي تركتها بتوقيعهاA.A..
يبقى البطل الراوي الباحث عن والدته في البحيرة، يزور يومياً عائلةً مغربية فقيرة تسكن في خيمة ويشعر بعلاقة روحية معها “غادرتُ فضاء الخيمة بدوري، بعد أن منحتَ المرأة الأربعينية ثمن الشاي” ص 30 ، لكن مع ذلك يصبح هذا الحدث فيما بعد مجرد حلم أو خيال كما سنرى في تطور المعمار الروائي، يتحرك ضمن اجوائها التي تصبح فضاء الروايات والمخطوطات التي تدور حول البحث عن عدة أشياء لكنها تنتهي بالتركيز على مخطوط هام يميط اللثام عن لغز الأم الأمازيغية فيعرف البطل والقارىء قصتها الحقيقية. تظهر هنا الحاجة الماسة إلى قارئ متأنٍّ في القراءة ومتفاعل مع النص ومدرك لهذا النوع الروائي لكي يستوعب ملابسات المضمون والغموض الحاصل بسبب اختلاط الواقع بالخيال ويستمتع بها ولملمة “أشلائها”. وهو أمر يعاني منه البطل الرئيس حيث تضيع عليه الخيوط أو “الشليلة” فيبرر الكاتب ذلك على لسانه “متحايلاً” على القارىء من خلال العودة إلى ذاكرته: “صرتُ بنكاً عجيباً لإستقطاب رؤوس الأموال! أعني تلك المخطوطات والمذكرات. ماذا يضنونني، مشروع روائي، الملاعين. هنا بزغت في بالي جمل الصياد الأشقر النارية، حول المصائر المتقاطعة وحبكة القصص التي ينسجها حضورنا المأساوي في مسرح البحيرة. ص 299
ثم يقول البطل في نهاية الرواية ” فرجينيا كانت ستكتب سيناريو فيلم ووجدت نفسها تكتب رواية… وهاهو الصياد الأشقر نفسه يعزز غرابة الفعل ويعترف بأنه كان سيكتب عن سمك الزنجور المرقط لا غير فوجد نفسه دون ان يعي ذلك يكتب مشروع رواية أو قصة سيناريو لا علاقة لها بما رسمه في ذهنه….” ص 305-306
فكتب الأشقر مخطوطة “طريق أزغار” التي هي الرواية الحقيقية عن لغز الأم، ويصبح كل ما وصفه عن تناوله الشاي في الخيمة التي كانت تسكنها في حقيقة الأمرعائلة والدته مجرد تخييل عن وعي وليس تلقائيا، قدم له الروائي تبريراً خاصاً به، لكن ليس هذا هو المهم بالنسبة له كمبدع يكرس رواية لموضوعة فلسفية أدبية في شكل جديد. وهنا إذا كان القارىء لا يعي هذا النوع الروائي فإنه لن يستوعب لا فكرته ولا شكله.
فنحن الآن في مسرح الروايات الذي يتكون من عدة فضاءات وعدة شخصيات تريد كتابة مخطوطات عن تجاربها الشخصية:
1- خيمة العائلة المغربية لفقيرة المكافحة من اجل البقاء، هنا الأب الستيني والزوجة والصبية ذات الثلاث عشرة سنة والصوت الجميل وطفل العشرة أعوام الحالم بالكمنجة، وأهم شيء الشاي المغربي الذي يشربه الشاب، “الشاي المبالغ في سكّره بتلك الخيمة الغجرية” ص 14 ويشعر بطعم ذي مذاق خاص يحس القارىء النبه منذ بداية السرد أن له علاقة مع موضوعة العودة إلى الجذور. وهنا يطغي لحن ساحل اللؤلؤة السوداء على فضاء السرد.
“تلك الخيمة كانت مركز الغواية ذات جاذبية مغناطيسية. وقد داومتُ على إبتياع الخبز منها وأدمنت شرب الشاي صباحَ مساءَ” ص 16، لكن يتضح في نهاية الرواية كما أشرنا سابقاً بأن هذا مجرد خيال.
ثم يصف العائلة “الغجرية” التي إرتبطَ بها روحيا بتفصيل أدق ووضوح “المرأة ذات الأربعين ربيعا، بعينين زرقاوين، يبدو أنها حبلى، والرجل قريب من الستين، ولديهما ولد في العاشرة يمارس الرعي، وبنت تكبره بثلاث سنوات… طفل العشر سنوات يعزف كمنجة قصدير، والبنت ذات الثلاث عشرة سنة، لها صوت حاد ومستفز… دفء خاص جعلني مشدوداً إلى شيء غريب بها…” ص 16 ” في عيني المرأة الأربعينية ما يدلني على منطقة مجهولة في داخلي، … وفي صوت الطفلة الزمردي ما ينفض غبار النجوم… وفي صرير كمنجة الطفل ما ينثر كينونتي …” ص 17
ولا يحتاج الناقد إلى عناءٍ كبيرٍ ليعرف أن الشاب يبحث عن الإنتماء من خلال أمه التي يصورها في الخيمة، “فماذا ساخسر إن قلت إنني هنا في رحلة إستكشافية أيضاً؟… تتعلق بمعرفة مكان وتاريخ أمي المغربية كما ألمحتُ إلى ذلك سلفاً” ص 23
2- خيمة الشاب الفرنسي من اصل مغربي، الراوي الباحث عن والدته الذي ينتظر صديقته A.A. صاحبة المخطوطة وليس لديه غير عزف الساكسوفون للتخلص من معاناته والتقرب من سمك الزنجور.
3- خيمة الصيادَين الأشقر والأسمر.
4- سيارة – عربة تسكن فيها فرجينيا خلاسية بريطانية شقراء من أصل خليجي يرافقها الأميركي هيوز، تريد تحقيق حلم والدها الذي مات مع زوجته بسقوط طائرتهما بكتابة قصة حياته للسينما. فهي هنا أيضا من اجل البحث مع مرافقها هيوز عن لؤلؤة والدتها التي رميت في البحيرة.
5- فندق بسيط خَرِب فيه صور كثيرة لمحبي البحيرة وعشاقها على مدى التاريخ منذ بداية القرن الماضي 1910 ص 37.
يطلع القارىء في هذا المسرح على فضاءات الرواية تنطلق منها عدة خطاطات، التي هي في الحقيقة مجموعة تقاطعات هرونوتوبية.
ويتضح ذلك أيضاً من خلال الأساطير والقصص التي تُحكى حول البحيرة التي تبرز كبطلة روائية شاهدة على كل تقلبات الحبكة الروائية. ففي أعماقها غرقت اشياء ثمينة يبحثون عنها، وعلى جدران فندقها علقت صور من تاريخها وزوارها مثل المغنية الأمازيغية التي نعرف فيما بعد أنها والدة الساكسفوني. وهنا نسمع الكثير من القصص عن تاريخ البحيرة على لسان الشاب الفندقي ص 45-47
يركز الروائي منذ بداية سرديته على صورة المغنية الأمازيغية المفقودة المعلقة على جدار الفندق ص 84، وعامل الفندق الشاب مشغول أيضاً بكتابة قصصٍ عن هذه الصور ص 84. حتى صراع القبيلتين الأمازيغيتين على البحيرة يقول البطل عنه بأنه يصلح لأن يكون حكاية للسينما. ص 91
ولكل واحد هنا سره، الشاب الساكسوفوني هائم بأغنية سيدة البحيرة لفرانس شوبيرت، بينما فرجينيا مشغولة باللؤلؤة السوداء القابعة في إحدى زوايا قاع البحيرة. ص95
تتكون هذه السردية الطويلة من خمسة أقسام، الأول: دورات الغراب الثلاث. ص 9-52 وساحل اللؤلؤة السوداء ص 52 -134، مكرس لفضاءات البحيرة وشخصياتها، أما الثاني والثالث والرابع فكلها للمخطوطات الثلاث كما مبين أدناه، أما الخامس والأخير “ذيل الأسبوع (شفق الدوامة) ص417 فهو مخصص لفلسفة السرد وتوضيح مابدا غامضاً بسبب التقاطع والغموض الذي يتميزبه هذا النوع السردي. ونورد هنا الخطاطات بينما تضمنتها الأقسام الثلاثة:
1- القسم الثاني: مخطوطة “حكايات البحيرة السبع”، التي تتضمن “حكاية فتاة البحيرة” للفتى العشريني العامل في الفندق الخرِب. ص 139-189.
2- القسم الثالث: مخطوطة رواية “البيانو بيت الزنجور” الأثير لفرجينيا، بدلاً من أن تحقق حلم والدها البريطاني بكتابة سيناريو فيلم. تظهر هذه المخطوطة في البنية كتوارد خواطر بين فرجينيا وصديقة البطل A. A. المنتحرة لأنها هي كاتبتها الأصلية. ص201-306. يدمج الكاتب المخطوطة بالسردية الطويلة من خلال قراءة الراوي لها، ويعلق عليها “مالذي يجعلني مشدوداً بتوتر إلى حكاية فتاة البحر؟!؟… إحتمال أن تكون (لها) …علاقة غامضة… بحكاية أمي المغربية” ص169. أو يمهد لها بقراءة رسالة كاتبها كما هو الحال في المخطوطة الثانية فإن الراوي يقرأ رسالة فرجينيا التي تشرح له (للقارىء) “إنتهيت من قراءة الرسالة وعاودت تلاوتها بصوت عال مرات ومرات، ثم تلقفتُ أوراق المخطوطة…” ص198…فكرتُ كيف تكتب فرجينيا نفس مخطوط رواية صديقتي الفرنسية…هل يعقل أن يكون الأمر تخاطراً” بينهما. ص 295

3- القسم الرابع: مخطوطة رواية “طريق أزغار” ص 432-309 تحكي قصة أهل الخيمة، وكفاحها من أجل الحياة، والتي تتضح فيما بعد أنها عائلة والدته. كتبها الصياد الأشقر بدلا من أن يكتب “موسم صيد الزنجور” ص 421، التي يشير الراوي فيما بعد إلى أن كاتبها هو الأبكم كما قالت له صديقتُه المغربية التي تتضح أنها إبنة خاله “الشبح الذي كان يرصدك في الأيام السبعة… إبتسم الرجل الأبكم وألقى إلي بمخطوط،… وكدت أجن وأنا أقرأ عنوان المخطوطة … موسم صيد الزنجور، رواية ” ص425.
كيف حدث ذلك؟ هذا السؤال يطرحه القارىء والبطل نفسه، لنقرأ الحوار بينه وبين شخصية روائية أخرى حيث يبرر الروائي على لسان الراوي أو بطله الرئيس تداخل الخيال بالواقع:
“ابتسم الصياد الأسمر وقال:
– سترحل أيضاً هذا المساء يا سيدي؟
رشفتُ نفساً وقلتُ:
– أعني أن الأسرة الغجرية أيضاً رحلت من هنا دون أن أشعر بذلك.
– أي أسرة تعني يا سيدي؟ …..
– خيمة الغجر الذين يقيمون هنا ويقدمون الشاي للزوار.
رسم الصياد الأسمر علامات تعجب وقال:
– غريب يا سيدي، لم تكن هنا أي خيمة ولم يكن هنا أي غجر.
أربكني رد الأسمر وجعلني أرتاب في الأمر؟ هل يعقل أني كنت أتوهم ذلك،” ص 298
“ثم جلس الصياد الأسمر بقربي وقال: هذه المذكرة تركها لك صديقنا الصياد الأشقر قبل أن يركض بجنون صوب الغابة المريبة خلف الجبل المسحور… وترددتُ في إمساك المفكرة، وفكرت كيف صرت بنكاً … للمخطوطات…” ص 299، وهي نفس الطريقة في دمج المخطوطتين السابقتين بالسردية الطويلة كلها حيث يقرأ الراوي النص وكالعادة يعلق عليه “مالذي يجعلني مشدوداً بتوتر إلى حكاية فتاة البحر؟!؟… إحتمال أن تكون (لها) …علاقة غامضة… بحكاية أمي المغربية” ص169.
مخطوطة رواية طريق أزغار
هذه المخطوطة مكرسة لرحيل عائلة والدة الراوي الفقيرة، أب ستيني مع ثلاثة أيتام: رضيع وصبية وطفل، وكلب، تُصوّرُ هروباً من أجل البقاء في طريق متعرج يمثل أليغوريا الحياة القاسي الملىء بالأهوال ضمن بنية تنطبق عليها خطة السرديات القديمة: لقاء-إفتراق- أهوال- لقاء ونهاية سعيدة.
اللقاء يكون بين الصبية فتاة البحيرة (والدة الراوي الساكسفوني)، وأخيها الصغير بالشاب الرسام الغني وأخته اللذين هما أيضا يتعرضان للسطو.
معاناة فتاة البحيرة رمز مأساة واقع يعاني من القسوة الفظيعة التي يتعرض لها الفقراء في عالم اليوم ومع ذلك يصر الإنسان هنا على التحرر والإنعتاق، فهذا الطفل الصغيراليتيم أخ فتاة البحيرة يعزف الموسيقى على “كمنجة” من صفيح يكسرها والده المهموم بهم، لكنه يسرق شعرة من ذيل حصان ويبحث عن صفيحة أخرى ليصنع “كمنجةً” أخرى تاركاً غنمهم من أجل الموسيقى. ص317
سيكون لهذا اللقاء أهمية في حبكة الرواية ومضمونها ونهايتها السعيدة حيث يلتقون جميعا في أجواء يصدح فيها صوت فتاة البحيرة المتناغم مع صوت أخيها بعد أن فَرّقتْ السبلُ بينهما.
وهو يعبر عن خيال الكاتب الجامح الذي لابد أنه مستمد من تجاربه الشخصية التي تحدث عنها في بعض لقاءاته وندواته. وتصبح السمكة التي إصطادها الطفل وأهداها للطفلة أخت الرسام الغني مقابل الأقلام الملونة التي اهدته إياها رمزَ الخير والعطاء والعلاقاتت الإنسانية. ص322-323
في الطريق تتعرض العائلة إلى عملية سطو من ثلاثة قطاع طرق يتضح فيما بعد انهم مدعومون من الشرطة المحلية. يقتلون الكلب ويعتدون على والدهم ويسرقون ماشيته فيمشون على أقدامهم في طريق ملىء بالمفاجآت بعد أن يدفنوا الكلب ويقرأوا الفاتحة عليه، حتى يصلوا إلى صديق الأب الذي يخطط لتزويج طفلته إلى رجل ستيني ذي “الجلباب الأزرق” مقابل أن يتزوج هو إبنته في الثلاثين من عمرها والتي تبدأ بإرضاع الرضيع.
وبينما الأب مشغول بترتيب زواجه من الفتاة الثلاثينية تُغتصب إبنتُه من قبل معلم المدرسة المجاورة لخيمة صديقه فتصل الحبكة الى ذروتها حيث يدبّر أخوها الصغير مع زميله الأبكم حريقاً لمنع العرس وتهرب الأخت المغتصبَة فتفرق بينهم السنون.
هنا تتعمق أليغوريا الحياة في شخصية الفتاة الهاربة وتصبح أكثر سوداوية ودراماتيكية وصراعا مريرا من اجل الحفاظ على الشرف والبقاء فتظهر على المسرح أحداث مصيرية كثيرة: الهروب في شاحنة- خيمة السمسارة- بيت الدعارة- المقدم الذي سَجَنَ أباها- تهريبها من قبل ضحية أخرى (عزيزة)- إقامتها في ملجأ الأيتام- لقاء مع الرسام إسمه أطلس وزوجته الشقراء بعد فراق عشرين سنة – إنتقال إلى صديقتها نوار التي تعمل مع “كوامنجي” ص 406 – اللقاء الأخير نهاية سعيدة: لقاء الأخوة: فتاة البحيرة تغني بارتجال مع أخيها الكوامنجي بعد عقدين من الزمن.
كما تعودنا في مثل هذا النوع من السرديات التقليدية المليئة بالأحداث تظهر العديد من الصدف والمفاجآت والمؤامرات والإحتيالات تقابلها التكاتف بين الفقراء للتخلص من المستغلين مثل الشابة عزيزة التي تنقذ بنت البحيرة من الدعارة.
ويصبح اللقاء الأخير بين الأخ وأخته بعد عشرين سنة من الفراق هرونوتوبا يوضح الرواية: الأب يغسل عاره ويدخل السجن ثم يموت، أخوها الصغير يصبح معلماً كما كان يحلم، صديقه الأبكم يصبح كاتبا ويبدو في السرد أنه هو الذي كتب رواية “موسم صيد الزنجور” ص425 لكن الصياد الأشقر يسرد لنا في مخطوطته “على منصة داخل قاعة مكتظة بالحضور، يجلس الأبكم إلى طاولة… حفل توقيع رواية طريق أزغار”. ص 413
ويبرر الكاتب بنية الرواية “الميتاسردية” ونصوصه المختلفة قائلاً “لم أفهم كيف أن حكايات البحيرة…موجودة كفصول في الرواية،….الأبكم كان شبحاً يرصدك” وكتب عنه رواية هي مخطوطة اخرى خلال سبعة ايام. ص 425
وتنتهي رواية الروايات هذه في القسم الخامس المكرس لإعادة بناء ما “هدم” أو إعادة تشكيل بنية الرواية و”تبرير” الصدف أو تحليل الحبكة وسير الأحداث وتفسيرها من خلال لقاء أبطالها ضحايا المجتمع والمعاناة وهم يتذكرون ما حصل لهم في زمن الضياع ويحكون للراوي مآسيهم فيظهر أن عازف الكمان هو خاله الكبير والمعلم خاله الصغير والأبكم صديقه وأن البنت المغربية التي دعته إلى البحيرة ولم تحضر هي إبنة خاله وأمها نوار صديقة أمه فتاة البحيرة. ص424
إنها رواية تحتاج لقارىء يعرف مسبقاً ان “النتاج الذي يقرأه ليس واقعاً بل على أنه أدب خالص يستهدف جذب الانتباه، بوعي وبمنهجية…” حسب راي الدكتور حسن سرحان في مقاله الذي اشرنا إليه.
وأعتقد أن قراء هذه الرواية سيستمتعون بالبحث عن اللغز والمفردات الجديدة عليهم مثل “شحاج الغراب ص27 والزرابي /السجاد/ 37، كنت مسرنماً 98 طهوت أحلامي ص88 وقدرته في وصف الحالة الدراماتيكية من خلال الربط بين العالم النفسي ومايحدث في مكان الحدث، كما هو الحال عند إغتصاب فتاة البحيرة في الصف حيث تسقط العضاية على سفح السبورة 368 وكأن القارىء يشاهد لقطة سينمائية، وإطلاعه على واقع جديد حيث تتناول العائلة الفقيرة القنفذ كأطيب وجبة غذائية، و”حركات” قرود من نوع “زعطوط” التي لها معنى آخر في اللهجة العراقية! واتوقف عن سرد أحداثها كي لا أحرم القراء من الإستمتاع بها ولهذا أدعوهم لقرائتها.

 

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *