(خاطرة القلم)
* كثيرة هي الآلات التي تخدم فعالياتنا الحياتية ، تلك الآلات التي أبدعت العقلية البشرية في ابتكارها وتطويرها وتطويعها لخدمة المسيرة الإنسانية ، بيد ان هناك آلة مقدسة لمن يريد اقامة مناسك الكتابة تتمثل بالقلم ، فالقلم من تلك الأدوات التي تشكلت كأثر سادر وسارد ينطلق ممشوق الخطوات في أنامل المبدعين بل وأحيانا يوصفون به حين يقال قلم فلان رائع وقلم فلان يكتب بالصميم أو فلان قلم .
* ويزدهي جمال القلم بخفته وتنوعه وتلون المداد الذي تنبض به مسيرته الكتابية فهو متعدد الأنواع ، ومن هنا علينا ان نرفع القبعات تحية وإكبار لكل من الفرنسي (جاك كونتيه) مبتكر قلم الرصاص والامريكي (لويس ووترمان) مبتكر قلم الحبر والمجري (جوزيف بيرو) مبتكر القلم الجاف ، فاولئك رجال نثروا اسماؤهم على تأريخ البشرية في صفيحة الخير والجمال والمنفعة للآخر .
* ولا أعرف ان كانت هي عادة سيئة أم حميدة اني أبالغ دوما بشراء الأقلام ولاسيما الجاف الملونة ، فأقلامي تفوق أقلام اولادي مجتمعين وحقيبتي تخلو من اقلام الايلاينر والروج والكحل لأن هذه الاقلام تأثيرها ظاهري وقتي يحوي من الزيف الشيء الكثير ، لكن الأقلام الكتابية هي انعكاسات خواطر صادقة تساعد المرء على تقييد ما يمر سريعا في خلده ولايمكن تصيده بسهولة لو أراد تذكره لاحقا ، ولا أنسى الأقلام الملونة التي يكون مدادها لرسم ما ، أي رسم ، انما هو رسم تلح الذائقة على نسخه من الذهن للورق فيهرق احساسا بالألوان جميلا كجمال قوس قزح بعد مطر يوم مشمس .
* وللأقلام تأريخ جليل في حياة الشعراء ، وأورد مثالين على سبيل الاستشهاد وليس الحصر .. فهذا ماليء الدنيا وشاغل الناس (المتنبي) يفخر بكون القلم أحد الأشياء السبعة التي تعرفه حين قال :
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم .
———
وهذا (مطر الشعر) أحمد مطر يقول قصيدته :
جسّ الطبيب خافقي
وسأل ها هنا الألم ؟
فقلت له نعم
فشق جيب معطفي
ومال وابتسم
وقال ليس سوى قلم
فقلت له .. لا ياسيدي
هذا رصاصة وفم
وتهمة سافرة
تمشي بلا قدم .
* بالنسبة لي ليس القلم وسيلة كتابة فقط إنما هو عندي أداة رئيسة للقراءة اذ لايمكنني قراءة نص من غير التأشير والتهميش عليه وهذا ماجعل أكثر من زميل وزميلة يستغربون حين يرَون كتبي او سجلاتي وهي مضمخة بالألوان ويرونها (شخابيط) طالت النص في حين هي عندي طريقة توثيق النص ومعرفة شؤونه ، أو آثار استيعاب النص بترك بصمات الأقلام عليه ، ورغم ملاماتهم إلا اني ابقى ماضية في قناعاتي بأن التهميش على النص هو إحدى طرق تفكيكه الناجعة .
* فالقلم له سحر ماتع ولا أخال أن هناك مثقفا لايحب القلم فهو سيمياء العقلية المخملية ، إذ ينفع حمله في كل مكان لخفته وقد يكون هدية جميلة بين المحبين والأصدقاء لاسيما حين يُحفر إسم المهدى إليه على جذعه ، القلم هو الناطق الأبكم و الوسيلة المستخدمة التي رافقتنا في قاعات الامتحانات وصببنا فيها ذاكرتنا فنجحنا ، ولازال الدرب طويلا والقلم الرفيق الأجمل فيه .
* وقد يحسب البعض (توهما) ان دور القلم سينتهي وان العالم الافتراضي الإلكتروني ينافسه ، وهذا مستبعد كليا فالقلم واستعماله والمران عليه هو أنجع الطرق لقوة الخط بل هناك مهنة للخطاطين والذين يسمون بكل جدارة بالفنانين (ابن مقلة و درويش عثمان الذكائي مثالا) ، ولايغب عن البال ان الكثير من الأجهزة الإلكترونية اللوحية نفسها يتم تصميمها ومعها القلم الخاص بها المنفصل كليا عن الجهاز نفسه ،وحتى في صفحات الكتابة الالكترونية يقوم الجهاز بفرش قائمة طويلة من الاختيارات لنوع الخط سواء أكان عاديا أو سميكا او خط الرقعة او الخط الكوفي او النسخ او الثلث وكل تلك الأنواع شُكلت بادئ الأمر جراء استخدام تلك الآلة الرائعة .
* ختاما القلم له سحر ماتع يمتشق خطواته ليخلق نصوصا قد يكتب للكثير منها الخلود ، وله قصب السبق كأحد الأدوات الرئيسة في اقتناءات من ينبض بافئدتهم حب التدوين كالعلماء والشعراء والفنانين والأدباء ، فالقلم يتألق بريقه متشظيا بين أروقة العقول ، وله سحر باق ، باق بقوة ، باق بعمق وكيف لا وهو : {نون والقلم ومايسطرون}.