جبار هادي الطائي : نبوءة وطقوس شاعرة .. قراءة في قصيدة لو أنبأني العرّاف (ملف/20)

إشارة :
“لميعة” البقية الثمينة الباهرة، وطنيةً وشعرا، لكن المغدورة – كالعادة – في بلاد القطة التي تأكل أبناءها: “لا أعرف لي منشأ غير الطين الرافديني في جنوب العراق ولا أعرف لي أصلا غير الجذور السومرية البابلية. أربع وعشرون سنة في أميركا لم تغيّر منّي شيئا ولم اشعر بانتماء حقيقي غير انتماء العراق” .. لميعة اللمعة الشعرية والجمالية والوطنية في ظلام العراق الخانق، علمتنا أن نشتاق لنهرينا العظيمين وفي بردهما الجنّة. تتشرف أسرة موقع الناقد العراقي بأن تعد ملفا عن شاعرة العراق الكبيرة “لميعة عباس عمارة” داعية الكتّاب والقرّاء إلى إثرائه بالمقالات والصور والوثائق. تحية لشاعرة العراق والعرب الكبيرة لميعة عباس عمارة.

نبوءة وطقوس شاعرة .. قراءة في قصيدة لو أنبأني العرّاف

جبار هادي الطائي

يزخر أدبنُا النّسوي العراقي بعدد من الشّواعر المبدعات اللواتي وضعْنَ بصامتهنَّ الواضحة على خريطة الأدب العربي عموما و العراقي خصوصا لما يتمتعْنَ به من خاصيّة نكادُ نشمُّ من خلالها لواعج و هموم وآلام المرأة بإعتبارها كائنا بشريا شفّافا، انعكسَ ذلك على صياغة المفردات وفق جمل شعرية مُؤثرة ، ولكن هذا لا نجدهُ الّا عند صاحبات الحس المرهف و ( لميعة عباس عمارة) تعد من أوائل الشواعر المجددات في بنية القصيدة العربية بعد ( نازك الملائكه و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي ) بالإضافة الى الشعراء الذين واكبوا مراحل التجديد الأولى ، يتميّز شعر ( لميعة عباس عمارة ) بالرقة و العذوبة و الإبتعاد عن المغالاة التعقيد ، نراها عاشقة تارة تتغزَّل بالرجل ، محبّة لوطنها تارة أُخرى ، نشمُّ في قصائدِها عطرَ الأرض و رائحة التراث ، فهي نخلةٌ باسقةٌ من نخيلِ العراق تأبى الّا أن تقف بقامتها المهيبة أمامَ كل التّحديات ، تستنشقُ أغوارَ الماضي ، و عبق الأصالة ، و من بين القصائد التي أبدعت الشاعرة في كتابتها قصيدة ( لو أنبأني العرّاف ) من ديوانها الذي يحمل عنوان القصيدة ذاتها ، كتبت القصيدة عام 1977 ، و هي من القصائدة الوجدانية ذات النّفس الجمالي ، و البعد الإنساني النبيل ، تحيلُنا ( عمارة ) في قصيدتها الى أجواء البداوة و الإلتصاق بالأرض ، فهي تحمل معها الفطرة و التّشبث بالموروث ، تتكون القصيدة من خمسة مقاطع جميعها تبدأ بحرف التّمني ( لو ) الذي يتضخّم مدوّيا ، حاملا معه هموم الشّاعرة و أمنياتها و رغبتها بفك شفرة الحاضرة و كسر جمود الماضي و الإنفتحاح نحو عوالم أرحب حيث تدخل الشاعرة في صراع مع عرّافها المفترض الذي تصب عتبها عليه لعدم استطاعته قراءة مستقبلها قراءة واضحة و رسم صورة مستقبلية مشرقة لعلاقتها مع مَن تُحب.

نجحت الشّاعرة في رسم صورة (العرّاف ) ذلك الشّخص الذي يرسم صورة مستقبلية و لايبتعد ( العراف) هنا كونه معادلا موضوعياً لأُمنية مرتقبة في نفس الشأعرة أو كونه الأمل المرتقب ، و ما بين نبوءة العراف و طقوس ما قبل النبوءة أو بعدها تطلُّ علينا الشاعرة بثوبها الأُنثوي الجميل تصلّي خرساء من أجل أن يبقى حبيبها قريباً منها :

( لو أنبأني العرّافُ

أنّكَ يوماً ستكونُ حبيبي

لم أكتبْ غزلاً في رجلٍ

خرساءَ أُصلّي

لتظلَّ حبيبي )

نلمح في القصيدة صراعا بين الأزمنة ( الماضي / الحاضر / المستقبل ) حيث تتداخل فيما بينها من خلالِ جملةٍ أفعال وظّفتها الشاعرة في خدمة النص و إضفاء صبغة واضحة الملامح لصورة عرَّافها و نبوءته ( فلو أنبأها العراف – لم تكتب غزلاً في رجلٍ ، و لم تلعبْ بحصى الغدرانْ ، و لم تنظم من خرز آمالها ، و لم تحلم انها ستموت ، و لم تجمد رئتاها ، و لم تكبر هموم الأمس ، و لم تبكِ لشيء في الدّنيا ) كل تلك التماهيات و التّداخلات بين الأفعال المضارعة المجزومة ، المسبوقة بـ( لو ) و نبوءة العرّاف أن تقف على حقيقة واحدة هي أن تبقى وفيّة لحبيبها المنتظر ، حيث أنها بمجرد صدق النبوءة انها سترتقي الى القمر و تلامسُ وجهه على أمل اللقاء :

( لو أنبأني العراف

اني سألامسُ وجه القمر العالي

لم العبْ بحصى الغدرانِ

و لم أنظم من خرز آمالي )

ترسم الشاعرة في المقطع الثالث من القصيدة صورة حبيبها الغائب – لو أنبأها العراف – أميراً فوقَ حصان من ياقوت متمسّكة بالحياة بدلالة تعلّقها بـ( جدائل الدنيا الشقر ) فلم تفكر بالموت بعدها :

( لو أنبأني العراف

أن حبيبي

سيكون أميراً فوقَ حصان من ياقوت

شدّتني الدّنيا بجدائلها الشّقر

فلم أحلم أني سأموت )

يبقى الليل بأبعاده الثلاثة ( الزمني و اللوني و النفسي ) مثار ريبة للشاعرة حيث شعورها بالوحدة الممزوجة بالحزن و هموم الأنثى من الآتي و الرّغبة في الخلاص و البحث عن آفاق رحبة بمجيء حبيبها في الليل حاملا بيديه الشمس حيث استطاعت الشاعرة أن تزاوج بشكل جميل بين مفردتين ببعدين زمنيين مختلفين ( الليل و الشمس ) للخلاص مما هي فيه :

( لو أنبأني العراف

أن حبيبي في الليل الثلجي

سيأتيني بيديه الشمسْ

لم تجمدْ رئتاي

و لم تكبرْ في عينيّ هموم الأمسْ )

و ما بين ( التيه ) و ( نبوءة العراف ) و ( دموع الشاعرة ) نقف ازاء ثلاثية تحملُنا في طيّاتها الى أجواء المرأة و قلقها ، وَ خوفها من الضّياع ، وَ أمنياتها و رغباتها الجامحة تجاه الحياة و الدّموع التي أرادت الشاعرة إدّخارها ليوم قد يهجرها فيه حبيبها المرتقب ، و بما أن الحرف ( قد ) هنا يفيد الإستدراك لمجيء الفعل المضارع ( تهجر ) بعده ، يبقى هنالك أمل بصدق نبوءة ( عراف لميعة ) التي أبدعت الشاعرة في التعامل معها بمهارة حيث تتداخل الأزمنة فيما بنها للوصول الى مستقبل نجحت في رسم ملامحه :

( لو أنبأني العراف

أني سألقيك بهذا التيه

لم أبكِ لشيءٍ في الدّنيا

و جمعتُ دموعي

كلّ الدّمعِ

ليومٍ قد تهجرني فيه )

و ما بينَ نبوءة العراف ، و طقوس الشاعرة نلمح أبعادا انسانية نبيلة تفتحُ لنا آفاقا واسعة للتعرف عمّا يجول في مخيلة المرأة و ما تحمله من أدب إبداعي متميز .

*عن صحيفة الزمان

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *